هامش "الموضـوعية" المتآكـل.




خلال سنـوات عملي الإداري في واحـدةٍ من أكبـر المؤسسات الإقتصادية متعددة الجنسيات . وكان لهذه المؤسسة العمـلاقة في مصـرَ إستثمارات وعمليات بمليارات الدولارات وهو ما كان يحتم وجود تعاملات واسعـة مع "الواقع المحلى". وكنت خلال ذلك أرى تطبيقاتٍ يوميةً ساطعةً وواضحةً لإختلافِ الحضاراتِ والثقافاتِ. وكان أحد أبرز هذه الاختلافات هو ما درجت على تسميته بشخصانية التفكير المحلى. وأَعنى بذلك أن تفكيرَ أعدادٍ كبيرةٍ منا تنطلق من "زوايا شخصية" وتستمر في ذلك في عملية الأحكام التي تطلقها والآراء التي تعتقدها ووجهات النظر في الأشياء والأشخاص التي تطرحها.

وربما يكون من المجدي ضرب مثال واضحٍ – لحالات عديدة مُتكررة، فهذا المثال يشخّص الظاهرة التي أود أن أجسدها أمام عين القارئ:

خلال تلك السنـوات الطـويلة أَجريت آلاف المقـابلات ممـا يُعرف في مجـالِ الأعمـال بالـ Interviews أي المقـابلات التي يكـون الغـرضُ منهـا الحكمَ على شخصٍ بهدفِ الوقوفِ على إمكـاناتـه وقـدراتـه ومـواهبـه (إن وجـدت) وفـى ألف (مـرة أخـرى: ألف) مقـابلة مـع مصريين حاصلين على درجـات علميـة عاليـة في مجالات مُتعـددة بعضهـا يقـع تحت مُسمـى العلـوم التطبيقيـة والبعض يقـع تحت مُسمى العلـوم الاجتمـاعيـة والآخر يقع تحت مُسمى الدراسات الإنسانية.

وإلى جانب الهدفِ الأساسي من تلك المقابلات وهو الحكم على "قدرات" الشخص الذي تجرى معه المقابلة كنت معنياً بجوانب أخرى يمكن أن توصف بأنها "ملاحظات حضارية وثقافية" وكنت أدون هذه الملاحظات بإستفاضة لأهمية معظمها. ومن بين هذه الملاحظات أنني في ألف (1000) مقابلة من هذا النوع كنت أطرح أسماء لشخصيات عامة لأسمع وأسجل وأقيّم تعليقات من تجرى معه المقابلة عنها. وقد انتهيت لملاحظة يصعب دحضها، فقد انقسمت تلك التعليقات إلى نوعين أو طائفتين:

الطائفـة الأولـى: يمكن أن تُسمـى بالتعليقاتِ الشخصيـة وهـى انطباعـات كـان الأشخـاصُ يعبــرون عنهـا بكلمـات مثـل (طيب).. (متواضـع)..(لطيف)..(علـى خلقٍ رفيـع)..(مـتدين)..(معروف بالسلوك المستقـيـم)…(مجـامـل)…(ودود)… إلـى آخـر هـذه النوعيـة مـن الانطباعـات. وأحياناً كان التعليقـاتُ تأتـى أيضـاً "شخصيـة" وإن كانت التعبيـرات (والمعانـي) على نقيض تلك الكلمـات، كأن يقـال (شرير).. (مغـرور)…(غير لطيف)… إلـى آخـر نفس السلسلة مـن المعانـي وإن كانت فـي الاتجـاهِ المعاكـس.

أمـا الطائفـة الثانيـة: فيمكن أن تُسمى "آراء موضـوعيـة" حيث كـان الشخص الذي تجـرى معـه المقـابلة يعبـر عـن آرائـه بكلمـات مثـل (كفء)…(مثقف)..(يتقـن عمـله بشكـل ملحـوظ)..(منتـج بشكل كبيـر)…. (له قـدرة بارزة علـى القيـادة)…(صـاحـب قـدرة كبـيــرة علـى التحليـل )…. إلـى آخـر هـذه النوعيـة مـن الانطباعات. وأحياناً أيضاً كانت هذه الطائفة الثانية من الآراء تأتى في صورةِ ما يخالف أو يمثل عكس هذه الآراء كان يقال (غير كفء)… (محدود الدراية)…(لا يتقن ما يعمله)…(متواضع الإنتاجية)…(لا يملك القدرة على قادة الآخرين)…إلى آخر هذه السلسلة الثانية من المعاني.

وكانت "الملاحظة الصدمة" أن عددَ الذين كانت تعليقاتهم تندرج ضمن الطائفـة الأولـى كانوا أكثـر من 90% من عدد من أجريت معهم هـذه المقابلات والذين سجلت نتائـج المقابلات معهم (1000مقـابلة). ونظراً لأن الأسمـاء التي كانت تطـرح للحـوار بشأنها أسماء لشخصياتٍ عامـةٍ لا تربطهم صـلات خاصـة بمن كانت المقـابلات تجـرى معهـم، فإن المعنـى الواضـح والكبيـر كان أننـا لا نفـرق بين دائـرة الأهل والأقارب والأصدقاء أي الدائرة الصغيرة الشخـصيـة، ودائرة الحيـاة العامة. وأننـا نستعمـل أدوات الحكم علـى العلاقات الخاصـة في دائرة الحيـاة العامـة. وكان مـا يـزيـد الطينـة بـلـة، أن كون الأشخـاص الذين كانت تجـرى معهـم المقـابلات لا يعرفون -بصفة شخصية- أصحاب الأسماء التي كانت تُطرح من الشخصيات العامة، كان يعني أن حتى هذه المجموعة من (الانطباعات الشخصية) ليست وليدة (تجربة ذاتية) وإنما هي ما يتكرر قوله وسماعه في المجتمع. وهى ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام، وإن كانت لا تعنينا هنا كما تعنينا الملاحظة الأساسية وهى اختلاط الخاص بالعام وقيام الأحكام على اعتباراتٍ شخصية وغير عامةٍ وغير موضوعيةٍ.

وأغلب الظـن أن هـذا العيب الكبيـر الشائع فـي تفكيـر العديدين منـا إنما يرجـع لخصلة أخـرى متفشيـة في واقعنـا قوامها أن نقطـةَ البدايةِ في حكمِ إنسـانٍ علـى آخر هي نقطةٌ ذاتيـةٌ أو شخصيـةٌ بمعنـى أن البدايـةَ تتمثـل في حبٍ (بسبب عوامـل شخصيـة صـرف) أو كرهٍ (أيضاً بسبب عوامل شخصية بحتة).

ونظـراً لأننـي كنت خـلال تلك السنـوات وإبان إجراء هـذه التجـارب معنيـاً بالوقوف علـى أكثر ما يمكنني معرفته من جوانبها، فقد أجريت نفس التجربة على 300 أجنبي (من جنسيات أوروبية غربية) من طوائف مماثلة (وأعنى من حيث التعليم العالي) وكانت النتيجة معاكسة تماماً؛ فأكثر من 90% ممن أجريت معهم المقابلات لم يستعملوا إلاَّ تعبيرات موضوعية تتعلق بالعمل والكفاءة والقدرات والمواهب، وأن أقل من 10% استعملوا تعبيراتٍ شخصيةٍ.

ولا شك أننا لو اتفقنا على وجودِ واستفحالِ انتشارِ هذا العيب بين أعدادٍ كبيرةٍ منا (متعلمين وغير متعلمين) فإن المنطق يُحتمُ أَن نرى الأثرَ الهدّام لهذا العيب على مسائل عديدةٍ لعل من أهمها ما يلي:
  • الاختيارات للوظائف.
  • الترقية.
  • المكافآت.
  • الترشيحات للمناصب القيادية والعليا في كل الدوائر.
  • الانتخابات بشتى أنواعها ومجالاتها.
    • الأحكام على الشخصيات العامة ومتولي الوظائف العليا والقيادية ورموز المجتمع.
  • الكتابات الصحفية التي تتناول الشخصيات العامة.
  • الكتابات النقدية في سائر مجالات الإبداع.
  • أعمال الأجهزة الثقافية والإعلامية والفنية.
ولعل تصاعد هذه الظاهرة واستفحال استشرائها ووصول جذورها وفروعها لنقاطٍ بعيدة ... لعل ذلك يكون هو التفسير المنطقي لبعض الظواهر التي يجمع معظمُنا على ذيوعِها وشيوعِها في واقعِنا اليوم مثل:
  • المناخ بالغ التوتر الذي تجرى فيه معظم الانتخابات في معظم المجالات، وما يعقب ذلك من تراشق بالتهم.
  • حملات الهجوم الشخصية الفاضحة على العديدِ من الشخصياتِ العامةِ.
  • ندرة الاتفاق على عددٍ كبيرٍ من رموز المجتمع. فالاختلاف حول معظم هذه الرموز على أشده ويقع بعضه تحت مسمى "الافتتان الشامل" بينما يقع البعض الآخر تحت مسمى "الاستهجان الكامل".
  • شيوع الاعتقاد بأن العلاقاتِ بين الناسِ أصبحت مهترئةً ولا تقارن بما كانت عليه في الماضي، وذلك أمرٌ طبيعيٌ، لأن الأحكام أصبحت تنطلق من (زاوية الحب) أو (زاوية الكره) وليس من زاوية (الرضى الموضوعي)أو (الرفض الموضوعي).
ومن المؤكد أن من حق البعض أن يطالع كل هذا التشخيص للداءِ ثم يتساءل: وما العمل؟

والجـواب، أن معالجـة هـذا العيب الكبيـر مـن عيـوبِ التفكيـرِ الشائعـة فـي واقعِنا اليوم لا يمكن أن تتم بدون وسيلتين؛ أحدهما ذات "بعض الأثر" ولكنه "أثر على المدى القصير والمتوسط" والثانية ذات أثر شبه مطلق، ولكنه من قبيل الاستثمار طويل الأجل أي الذي لا تأتى ثماره إلاَّ بعد سنوات عديدة.

أما وسيلة الأمد القصير فهي ذات ثلاثة أبعاد:
  • القدوة العليا في المجتمع.
  • الأنشطة الثقافية.
  • وسائل الإعلام.
فهـذه الجهـات الثـلاثـة قـادرة علـى إحـداث "بعض التغيير" علـى المـدى القصيـر والمتـوسط إذا وضحت الرؤيةُ وشحـذت الهمـمُ ووظفت القـدرات والإمكـانات الكبيـرة المتاحـة لتسليطِ الضـوءِ علـى هـذا العيب الكبيـر مـن عيـوب التفكير الشائعة لدينا اليوم.

أما "العلاج الكامل الشامل" والذي هو"طويل المدى" بمعنى أن آثاره لا تظهر إلاَّ بعد سنوات غير قليلة (وإن كانت أيضاً تبقى موجودة لسنوات عديدة) فهو "التعليم"، فمن المؤكد أن برامج دراسية تنطلق من رؤية واضحة للعيب وإسهاب في تعريته أمام العيون وشرح كارثة آثاره على العديد من جوانب حياتنا لقادرة على استئصال شأفة هذا العيب وتفريخ أجيال أكثر موضوعية وأَقل "شخصانية"..

ورغـم أن مـا سـجـلتـه عــن الألـف مقـابـلـة مـن مـلاحـظـات حـافـل بمـئــات مـن القـصـص والعـبـر، فإننــي أود أن أخـتــم هــذا الفـصـل بقـصـة واحدة منها ذات دلالة واضحة وضوح الشمس. ففي مقابلة من هذه المقابلات العديدة تطرق الحديث لاسم أحد الوزراء (وكان بكل الموضوعية من المشهود لهم بالكفاءة والقدرة العالية على التخطيط والتنفيذ) فكان تعليق الشخص الذي كانت تجرى معه المقابلة (أن هذا الوزير من أعظم الوزراء قاطبة في بلدنا)… ودون ما حاجة لسؤال...أو استفسار استرسل المتحدث يقول (تصور أنني ذهبت لمقابلته، ورغم فارق المكانة فقد أصر على توصيلي للمصعد وانتظر حتى ذهبت)!

وهكذا لم تكن مبررات الحكم مستمدة من كفاءةٍ إداريةٍ أو عبقريةٍ في التخطيط والتنفيذِ أو نتائجٍ مبهرةٍ لسنوات من العمل الشاق.... وإنما كان المبررُ بسيطاً للغاية: مجرد لمسة شخصية في التعامل لا علاقة لها على الإطلاق بقدرات ومواهب وإمكانات وإنجازات من كان الحديثُ يدور حوله!