تمجيـد الفـرد



(نجاهد ليرضى "الجهاد" لا ليرضى "عمر بن الخطاب"…).            "أبو عبيدة بن الجراح".

أقوامُ هذا الشرق ما سئمت
                                 شيمَ العبيدِ، وقبحت شيما

لا يحفلون بغير من رفعت
                                 سادتُهم .. فليرفعوا الخدما.

"العقاد .."

موضوع هذا الفصل من الأمورِ التي تقف على الحدِ الفاصلِ بين مناطق عديدة، لذلك فإن تناوله ينبغي أَن يتم بمزيد من الموضوعيةِ وبدون انفعال لا مبرر له، رغم أنه موضوع يدعو للانفعالِ. ولب الموضوع هو علاقة المصريين بحكامِهم (تاريخياً) وهى علاقة تختلف عن علاقة معظم شعوب العالم بحكامهم. فمصرُ التي ألّهت حكامها منذ عشرات القرون ... ومصر التي أعطت حكامها المماليك "الأبهة والسلطان المطلق والتفخيم العظيم"، لا تزال آثار منها في وجدانِ وعقولِ أبنائها وهم يقفون اليوم على مشارف القرن الحادي والعشرين.

فهل هذه "العلاقة الخاصة" بين المصريين وحكامهم أمر إيجابي يجب الاحتفاظ به، أم أنه أمر تشوبه جوانب سلبية يجب أن ننعم النظر فيها وندرسها كعيوب يجب العمل على التخلي عنها؟.. ثم ما هي الجهة المسئولة عن وجود هذه العلاقة: التاريخ؟.. أم الحكام؟ .. أم نحن أبناء هذا الوطن؟ وإذا كانت هناك سلبيات، فما هي الجهة القادرة على بدءِ مشروع العلاج؟

وهكذا، يجد القارئ نفسه (معنا) في خضم مناطق بالغة الحساسية وتحتاج لأن يكبح المرء عنان انفعالاته وهو يتدبرها ويعتمد –أساساً- على العقلِ والتفكيرِ الموضوعي الذي يتجنب الحماس الزائد والشطط.

أَما الجزئية الأولى، فأعتقد أن علاقة المصريين بالشخصياتِ العامةِ تحتاج لأن تُخلى من هالاتِ التقديس التي تكتنفها أحياناً. فحتى الحاكم فإنه ابن من أبناء هذا الوطن يتحلى بقدرات وإمكانات عقلية ودراية وخبرة وموضوعية واتزان وإخلاص تجعله قادراً على تنفيذ ما هو منوط به من مهام. ويعني ذلك أن العلاقة يجب أن تكون مؤسسة على هذه الأرضية وأن تخلى مما يشوبها من أبعاد تضرب جذورها في التاريخ الطويل لهذا الوطن وبالذات للتاريخ الفرعوني والمملوكي.

فنحن إذن نخرج بالعلاقة من كونها (مهمة بالغة الأهمية) إلى صيغة عاطفية نحيطها بهالاتٍ من التقديسِ والارتفاعِ عن أرضِ الواقعِ. ونحن نفعل ذلك -بنفس الكيفية- مع كل حكامنا. ويقيني، أن "الحاكم" ليس هو مصدر هذه الظاهرة، وإنما هي "ظاهرة" ذات جذور عميقة في وجداننا بشكلٍ يجعلها تتكرر -منذ قرون عديدة- وبنفس الكيفية مع أشخاص مختلفين.

وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن أثرِ العهد المملوكي على تكوين الشخصية (أو العقلية) المصرية في هذا المجال بالتحديد، ولكن ذلك سيخرجنا عن المحور الذي يدور حوله اهتمامُنا. فنحن نزعم أن هناك شبه اتفاق تام بين المثقفين في هذا الوطن على أن علاقة "الحاكم بالمحكومين" والموجودة في الديمقراطيات المستقرة هي هدف نتطلع لأن نبلغه. وإن هذه العلاقة تقوم على أساس أن الحاكم يقوم بمهمة وأنه مسئول عن تحقيقِ أهداف هذه المهمة دون أن ننتقل به إلى مكانة غير واقعية محاطة بالتقديس المبالغ فيه والذي يخرج بالعلاقةِ عن الحدودِ التي يسمح بها الزمن وتطور الديمقراطية.

ونحن هنا لا نبسط الأمور بتوجيه الاتهام لأحد، فالتاريخ هو الصانع الأول للظاهرة التي نتناولها، ونحن (الشعب) الجهة الأساسية التي تنبع منها هذه الظاهرة. والمثقفون في هذا الوطن يأملون أن يحدث تطوير في هذه الجزئية بحيث تتحول العلاقة إلى ما يشبه "علاقات العمل" وإن كانت "علاقة عمل" على أعلى درجة من الأهميةِ.

وأما الجزئية الثانية، فتتعلق بآلية إحداث التغيير في هذا الشأن. ورغم تسليمي بأن "المحكومين" في هذا الوطن هو مصدر "الظاهرة" إلاَّ أَن التغيير يبقى مستحيلاً ما لم يبدأ من قمة الهرم المجتمعي، إذ أن البدء من القاعدةِ مستحيل لعمقِ الظاهرة ومدى اتساعها.

وأَعنى، أَن رأس المجتمع هو القادر على البدءِ في بث قيم أخرى مختلفة في هذا المجال: قيم تناسب حقيقة العلاقة بين الطرفين (كما آلت إليه مع التطور الإنساني) وتناسب القيم التي استقرت في المجتمعات ذات الحظ الوافر من الديموقراطية.

ولا شك أن بدء هذه المهمة من قمة المجتمع يجب أن تتبعها تغيرات في برامجِ التعليمِ والإعلامِ تبث (بهدوء وعقلانية) القيم المعاصرة للمجتمعاتِ المتقدمة في هذا الشأن.