إستراحة مع الشعر.


لم يصف شاعر موافقة الناس للكبار (الذين يملكون أدوات الإيذاء) على ما يقولونه ولو كان كلاماً فارغاً مثل أبي العلاء المعري في بيته الرائع:

جلو صارماً وتلوا باطلاً
وقالوا: صدقنا؟.. فقلنا نعم!

"جلو صارماً" بمعنى قاموا بسن السيف… "وتلوا باطلاً" بمعنى أنهم بعد سن السيف قالوا كلاماً فارغاً ثم سألوا الناس: هل صدقنا؟.. فبادر الناس: نعم!! ولا شك أن الإنسان يكاد يرى سخرية أبي العلاء المعري وهو يردد هذا البيت

ولم يصف شاعر علاقة اللصوص النهابين بأولئك الذين يفترض أنهم منوط بهم الإمساك بالنهابين مثل المتنبي في بيته الفذ:

نامت نواطيرُ مصرَ عن ثعالبِها
فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ

يقول أبو الطيب: "نامت نواطير مصر" أي نام في مصر الذين يناط بهم حراسة الوطن وأغمضوا عيونهم عن الثعالب (اللصوص النهابين) بسبب ما أصاب الحرّاس من تخمة من كثرة ما حطّوا بالبطون (فقد بشمن-أي أصابتهم التخمة)… ومع ذلك فلا يزال هناك ما يُنهب (وهذا معنى: وما تفنى العناقيد).

ولم يصف شاعر منظر الرجل الأصلع كما فعل إبن الرومي:
يأكل وجهُه من رأسه
أكلَ نهارِ الصيفِ من ليلِه
والبيت ليس بحاجة لشرح.

ولم يتيه شاعر معاصر بفخامة شعره وعلو مكانته مثل نزار قباني الذي قال في أحد قصائده:
لا يبوس اليدين شعري.. وأحرى
بالسلاطين.. أن يبوسوا يديه

أما تقدير الناس لمن يقدرهم الحكام (لا لعلةٍ إلاَّ أن الحكام يقدرونهم) فتلك مأساة (أو ملهاة!) لم يصفها أحد مثل عباس العقاد الذي قال في قصيدة له:

أقوامُ هذا الشرق ما سئمت
شيَم العبيدِ وقبحت شيما
لا يحفلون بغير من رفعت
سادتهم ... فليرفعوا الخدما

ولم يناقض شاعرٌ نفسَه مثلما فعل حافظ إبراهيم إذ قال عن مصر ذات يوم:
أنا إن قدر الإله مماتي
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي

وفي يوم آخر يقول بنفس اللسان:
فما أنت يا مصر دار الأديب
ولا أنت بالبـلدِ الطيـبِ (!!!)

ولم يعبر عن عبثية نصح من لا نصيب له من العقل مثل المتنبي الذي قال:
ومن البلية عزل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم

وهو القائل في نفس القصيدة عن سعادة الجاهل وشقاء ذي العقل:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

وبين الشعراء المعاصرين فإن شاعراً لم يصف نكبة يونية 1967 مثلما فعل أمل دنقل ونزار قباني…
أما أمل دنقل فقد فعل ذلك في قصيدته الفذة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" والتي قال فيها:
أنا الذي ما ذقت لحم الضأن
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أُدعى إلى الحرب ولم أدع إلى المجالسة.
والمعنى فذ وعظيم ومؤلم حتى النخاع.

أما نزار قباني فهو القائل:
إذا خسرنا الحرب-لا غرابةْ
لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابةْ
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ
لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ.

ونزار هو القائل أيضاً:
مقتلنا يكمن في لساننا
فكم دفعنا غالياً ضريبة الكلام.

ولم يصف الشوق للوطن أحد (في ظني) مثل بدر شاكر السيّاب الذي وصف شوقه للعراق بقوله العبقري:
لو جئتِ في البلدِ الغريب إليِّ ما كمل اللقاءْ..
الملتقى بك والعراق على يديِّ.. هو اللقاءْ..
شوقٌ يخضُّ دمي إليه-
كأن كلّ دمي إشتهاءْ..
جوع إليه.. كجوع كل دمِ الغريق إلى الهواءْ..
شوق الجنين إذا إشرأبَّ من الظلام إلى الولاده!
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسانٌ بلاده
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
تلك أبيات قليلة من السياب الذي أحب شعره كحبي لشعر البريطاني العبقري كيتس والذي أحفظ معظم شعره وشعر شللي عن ظهر قلب.. وأرى أن السياب يماثلهم في عبقرية الشعر.

ومن أكثر ما قرأت من الشعر تعبيراً عن عبثية الحياة ما قاله أبو العلاء المعري:
نزول كما زال آباؤنا
ويبقى الزمان على ما ترى
نهار يضيء وليل يجيء
ونجم يغورُ ونجم يرى.
وتأمل المشاهد والصور التي تحتاج للرؤية والعين والتي كتبها شاعر عاش كفيفاً!!

كذلك من أجمل ما قرأت عن تعب القلب من الحياة ما قاله المتنبي في أُخريات أيامه:
رماني الدهرُ بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
وهان! فلا أبالي من رزايا
لأني ما إنتفعت بأن أبالي.

وكما أفعل في أحاديثي ولقاءاتي الخاصة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما أشاغبه وأقول له: "أستاذ هيكل: أليس العقاد أشعر أبناء جيله؟!" فيرد قائلاً: "وهل هو في الأصل من الشعراء؟.. إنه في "حالة فوقان" لا تناسب الشعراء!.." وكما أفعل في تلك الأحاديث، فإني أهديه تلك الأبيات التي إرتجلها "العقاد" في رثاء ميِّ زيادة (أبرز مثقفة عربية خلال القرن العشرين بعد أيام من وفاتها في شهر أكتوبر 1941):

أين في المحفل "ميِّ" يا صحاب؟
عودتنا هاهنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين بُدعى مستجاب
أين في المحفل "ميِّ" يا صحاب؟
شيمٌ غرٌ رضّيات عذاب
وحجي ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يعاب
كل هذا في التراب.. آه من هذا التراب.