التطـرف: بين "الفكـر" و"الظـروف" .


يعتقد البعضُ في الدولِ التي إستشرى فيها "التطرفُ" الذي يستمد شعاراته من الدين الإسلامي أن "فكراً معيناً" هو الذي يولِّد هذا التيار ، وأن الظروفَ المعيشيةِ ليست هي منبع هذا التيار . ويعتقد هؤلاء أنهم على حقٍٍ عندما يضربون الأمثال بمجتمعاتٍ فقيرةٍ إلاَّ أن "تيارَ التطرفِ" (والذي يسمي نفسه بالإسلامي) لم يتعاظم فيها . وفي المقابل ، فإن البعض يعتقد أن الظروفَ المعيشيةِ هي "المفرخةُ" الأساسية لفكرِ وتيارِ وحركةِ التطرفِ . ويعتقد أصحابُ هذه النظرة أن الظروفَ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ هي المسئولُ الأول عن المناخِ الذي يُنبت تيار التطرف .

وعادةً ما تكون حكوماتُ العالمِ الثالثِ (حيث يوجد التيار الأصولي المسمى بالحركة الإسلامية) من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترى أن "التطرفَ" فكرةٌ خبيثةٌ يروج لها البعضُ بدوافعٍ ولأغراضٍ سياسيةٍ وأنها لم تنتج عن الظروفِ المعيشية . وعادةً ما يكون المثقفون بوجهٍ عام وأولئك الذين يعطون العناصر الاجتماعية الوزن الأكبر من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترجع التطرفَ للظروفِ المعيشيةِ .

وإذا كنت قد أوليت موضوع الأصولية الإسلامية آلاف الساعات من وقتي وقراءاتي ومتابعتي بما في ذلك المتابعةِ التي يصح أن توصف بأنها "متابعةٌ ميدانيةٌ" – فإنني أَعطي نفسي الحقَ في الاجتهادِ في هذه المسألةِ وأقول أن الحركةَ الأصوليةِ الإسلامية نتجت وإستشرت بفعل العاملين الذين يعتقد فريقٌ من المحللين أن أحدهما هو المسئول الأوحد بينما يعتقد فريقٌ آخر أن ثانيهما هو المسئول الأوحد . فالحقيقة – في اعتقادي – أننا يجب أن نميِّز بين "وجود فكر الأصولية الإسلامية" وبين "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" إِنتشاراً واسعاً في مجتمعٍ من المجتمعاتِ .

أَما "وجود فكر الأصولية الإسلامية" فيرجع لوجودِ المفكرين الذين يؤمنون بالمرجعيةِ الدينية (الإسلامية في هذه الحالة) كأساسٍ لتنظيمِ المجتمعِ بكل ما تعنيه عبارةُ "تنظيمِ المجتمعِ" من معانٍ ودلالاتٍ . ومما لا شك فيه أنه من الطبيعي أن يوجد في أي مجتمعٍ توجد به أغلبيةٌ سكانيةٌ مسلمة "فكرٌ" يرى أن إصلاحَ حالِ المجتمع وتنظيم شئونه ينبغي أن يكون على أساسٍ من المرجعية الدينية. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يكون هذا الفكرُ مجردَ "تيارٍ واحدٍ" ضمن تياراتٍ فكريةٍ أخرى في المجتمع ومن الطبيعي أيضاً أن يكون تياراً محدوداً إلى جوارِ التياراتِ الأخرى التي تنتمي للحاضرِ والمستقبلِ . أما "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ مجتمعٍ معينٍ فأمرٌ لا يرجع إلاَّ للظروف المعيشية أي للعواملِ الاقتصاديةِ / الاجتماعيةِ والتي يكون تخلفُها داعياً لأصحابِ الفكرِ المسمى بالإسلامي لكي يروجوا لنظريتهم بصفتها "المنقذ" من براثنِ الواقعِ بما يتسم به من ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ.

وفي إعتقادي أنه من الطبيعي أَن تُكرر حكوماتٌ عديدةٍ في دولِ العالمِ الثالثِ أن التطرفَ ليس إلا ورماً فكرياً خبيثاً وأنه لا يرجع للظروفِ المعيشيةِ ، لأنها ليست بوسعها إلا أن تقول ذلك ، لأن إعترافها بأن الظروفَ المعيشيةِ هي التي ولدت وأنتجت ودعمت انتشار هذا التيار سوف يجعلها تعترف في نفسِ الوقتِ بفشلها في إدارةِ المجتمع ذلك الفشل المتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذي في ظله أمكن لفكرِ الأصوليةِ (المحدود والمتواضع على المستوى النظري والفكري) أن يقيض له الذيوعَ والشيوعَ بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمع .

وفي إعتقادي ، أن وجودَ الفكرِ الأصولي في حد ذاته ليس بذي خطرٍ كبيرٍ . فالفكرُ الأصولي الإسلامي يفتقد لأيةِ قدرةٍ على الانتشارِ وجذبِ الأتباعِ والمؤمنين به بمعزلٍ عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إذ أنه (بكل المعايير) فكر بسيط تجاوزه الزمنُ والعلمُ . وأنا لا أقصد هنا "الدين" وإنما "فكر الأصوليين" وهو عمل بشري لا قدسية له ولا يملك أصحابُه أن يقولوا أنه هو "الدين ذاته" وإنما هو "فهمهم الخاص للدين" .

وفي إعتقادي أن الخطورة تكمن كلها في الظروف المعيشية . ففي ظلِ ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ تخلفت فيها الدولةُ عن تقديمِ أساسياتِ الحياةِ من الرعايةِ الصحيةِ والتعليمِ وسلسلةِ الخدماتِ الأساسيةِ لوجودِ حياةٍ كريمةٍ ، في ظلِ ظروفٍ من هذا النوع يتقدم الأصوليون بسلسلةٍ من الخدماتِ في هذه المجالات ومعها "فكرهم الأصولي" وكأن ما يقدمونه من خدماتٍ هو جزءٌ لا يتجزأ من فكرهم الأصولي – والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين ما يقدمونه من خدمات طبية وتعليمية ومجتمعية وبين فكرهم الأصولي – وإنما هي مكيافيلية سياسية في المقام الأول تلك التي جعلتهم ينتهزون فرصة تردي الظروف المعيشية ويقدمون سلسلة من الخدمات مع تقديم موازي لفكرهم الأصولي .

وفي إعتقادي أن مواجهةَ حركاتِ التطرفِ بالأدواتِ والوسائلِ الأمنيةِ (رغم ضروريتها وأهميتها) لا تقدم أيَ حلٍ للمشكلةِ من أساسِها . فالوسائلُ الأمنية هنا تشبه من يقطع فروعَ الشجرةِ مع بقاءِ الجذعِ والجذورِ . وقد يكون قطعُ الفروعِ في أوقاتٍ ومراحلٍ معينةٍ ضرورياً لأبعدِ الحدودِ حتى لا يفقد المجتمعُ ذاته ويسقط في يد الأصوليين الذين لا فرصة معهم لإقامةِ مجتمعٍ مدني أو عصري أو متقدمٍ من أية وجهةٍ نظرٍ ناهيك عن فقدان الأمل نهائياً في الحرية والديموقراطية وحقوق الآخرين .

ولكن من المؤكد أن التعامل بالوسائلِ الأمنيةِ فقط يسمح بنكساتٍ لا يمكن تجنبها بشكلٍ مطلقٍ. وأعتقدُ اعتقاداً جازماً أن وضعَ الدولةِ لخطةٍ محكمةٍ لكي تقوم بكلِ الخدماتِ التي ينتظرها أبناءُ وبناتُ المجتمعِ منها هو الوسيلةُ الوحيدةُ لحصرِ تيارِ الأصوليةِ في حدودِ الاهتماماتِ الفكريةِ (المتواضعة للغاية) لعددٍ قليلٍ من أبناء المجتمع . وأعني هنا أن سحبَ البساطِ من تحتِ أقدامِ الأصوليين عن طريقِِ قيامِ الدولةِ بما يقدمه الأصوليون من خدمات يجعل ثمانية أو تسعة من كلِ عشرةِ أشخاصٍ ممن كان من المحتمل انجذابهم لدعوةِ تيارِ الأصوليين ينصرفون عن هذا التيار وشعاراته الجذابة والتي لا تستند على أي فكرٍ عميقٍٍ أو تجاربٍ ناجحةٍ . وسيبقى واحدٌ أو اثنان تنطلي عليهما تلك الأفكارُ البسيطة والتي لا أساس لها من المنطق أو التجربة ، وهو أمر طبيعي ، فالخطورة في جذب الأعداد الكبيرة (بفعل الظروف المعيشية) وليس في وجود جيوب صغيرة من المؤمنين بفكر لا يملك بدون الظروف المعيشية المتردية أن يجذب إلا أعداداً صغيرة من أصحاب الاستعداد الشخصي للميل لأفكارٍ انفعاليةٍ تميل للشطط دون أن يكون لها حظ من العلم أو المنطق أو التجربة الناجحة .
(الوفد 12/11/1999) .