هل فهم هـذا مستحيل .. ؟؟


كان اختياري أن يخلو هذا الكتاب من مقالاتي التي دعت لحتميةِ الوصول لتسويات سريعة للصراع العربي الإسرائيلي حتى نتفرغ لبناء الداخل المهترىء . وذلك لأنني لا أستطيع أن أنشر كتاباتي في هذا الموضوع دون أن أنشر الكتابات التي رد البعضُ بها . وإذا فعلتُ ذلك فسأكون (بنشري للمقالات التي ظن أصحابُها أنهم يردون على كتاباتي) أُساهم في تدهورٍ أسرع للتحضرِ والعقلانية في حواراتنا وأقدم ملفاً إضافياً للمكتبة الغوغائية والدهمائية في حياتنا الثقافية المعاصرة . لذلك فإنني أكتفي بنشر مجموعة من النقاط الرئيسية بنفس نصها الذي نُشرت به في جريدة الأهرام كخاتمةٍ لحوارٍ كنتُ أقول فيه أشياء ويرد الآخرون على أشياءٍ لم أقلها .

وفيما يلي هذه النقاط :

  • أولاً : أن الحقَ العربي في الصراعِ العربي الإسرائيلي هو الحق القوي الثابت والذي كان من الممكن لعقلاءٍ أن يدافعوا عنه بأساليبٍ حضاريةٍ وبلغةٍ يفهمها العالمُ المتقدمُ ، إلا أن القضيةَ العادلةَ والحقَ الساطعَ لم يجدا (لسنوات طويلة) إلا أشد المحامين خيبةً لتمثيلِ هذا الحق أمام العالم ، حتى جاء أنور السادات وأخذ العرب من "درب الصراخ" إلى "درب العقلانية" . وقد واصلت مصرُ السير على هذا الدرب .


  • ثانياً : أن إيماني بأن التاريخ لا تحكمه مؤامرةٌ شاملةٌ وكاملة تحرك كل الأحداث ، لا يعني أنني أرفض وجود مؤامرات في التاريخ . ولكنني أؤمن أيضاً بأن ما يجب أن يُسمى (صراعاً) يسميه الكثيرون (مؤامرات) . وخلاصة وجهة نظري هنا أن مسار التاريخ لا تحركه مؤامرة متكاملة الأطراف وإن وُجدت مؤامرات عديدة في الحياة إلا أن الصراع (وليس المؤامرة) هو من طبائع الأشياء ولن تخلو منه الحياة في أي يومٍ من الأيام .


  • ثالثاً : أن الإيمان المطلق بوجودِ مؤامرةٍ متكاملةٍ تحرك التاريخ ينتهي بالمؤمنين بذلك لدرجةٍ عاليةٍ من السلبية . أما المؤمنون بالصراع ، فإن بوسعهم أن يتعلموا مفردات وقواعد الصراع بل ولغة الصراع . وأكبر دليل على ذلك اليابان التي لعبت لعبة الصراع بمفرداتها فأجادت وتفوقت. ويُقال نفس الشيء على دول جنوب شرق آسيا ، فقد قادها الصراع منذ سنتين إلى نكسةٍ كبيرةٍ إلا أنها اليوم وبعد عامين فقط قد تجاوزت النكسة لأنها أدركت أنه صراعٌ فلعبت بمفردات الصراع وتجاوزت النكسة بفضلِ تملُكها في المقام الأول لأدواتِ خوض الصراع (وهي أدوات تندرج تحت الأفعال المنبثقة عن فكرٍ ورؤيةٍ وليس الأقوال المنبثقة عن غضبٍ وانفعالٍ) .


  • رابعاً : أن الصراع العربي الإسرائيلي من أكبر وأهم أشكال الصراع الحضارية في الزمن الراهن ، وأنه صراعٌ يربح فيه من يملك مُكن وأدوات ومفردات الصراعات الحديثة لا من يملك الحناجر المدوّية . وهنا فإن إحراز أي إنجاز في هذا الصراع مرهونٌ بوجودِ مجتمعٍ قوي في الداخل قبل أي شئٍ أخر .


  • خامساً : أن "قوة الداخل" لا يمكن تصورها إلا في ظلِ توفر ثلاثة أمورٍ أساسية هي : "تنمية اقتصادية" حقيقية وواسعة تكونُ هي أساس تنمية اجتماعية وسلام اجتماعي ووجود طبقة وسطى عصرية وقوية وواسعة. وثانياً حياة ديمقراطية متأصلة تؤدي إلى دارونية اجتماعية أي تفاعل اجتماعي يدفع بأفضل أبناء وبنات المجتمع إلى المواقع الرئيسية التي تساهم في صنع الواقعِ والمستقبل . وثالثاً جو ثقافي عام ونظام تعليمي تكون "الحداثة" هي محوره الأساسي ، بما يضمن الإتصالِ الوثيقِ اللازم بالحركة العلمية وبمسيرة التمدن الإنسانية .


  • سادساً : عند توفر الشروط الثلاثة (التنمية الاقتصادية والحياة الديمقراطية والجو الثقافي والتعليمي المرتبط بالحداثة) فإن ذلك يؤدي لوجود طبقة وسطى عصرية وواسعة وقوية هي التي تفرز العناصر البشرية التي تتعامل مع الصراعات الخارجية تعاملات يمكن أن تكون ناجحة .


  • سابعاً : أن أي تركيز على النجاح في صراعات مع "الخارج" سوف يقود إلى "فشل كامل" (كما حدث أكثر من مرة في الماضي) طالما أن "الداخل" لم يصل (عن طريق التنمية والديمقراطية والحداثة) للقوة التي تسمح بالنجاح في صراعات مع الخارج.


  • ثامناً : أن الذين لن يكون بوسعهم ممارسة عملية نقدٍ ذاتي للكيفية التي تعامل بها "العرب" مع الصراع العربي الإسرائيلي لن يكون بوسعهم إلا تكرار "نكبات ونكسات" الماضي . فإذا لم نقم بهذه العملية (النقد الذاتي) فسنكرر المنهج بما يكفل تكرار النتائج (نكبات ونكسات) .


  • تاسعاً : أن مهمة المثقفين في مجتمع كمجتمعنا أن يعمقوا الرغبة في الاتجاه بخصومات الماضي صوب نفس الاتجاه الذي سار الألمان والفرنسيون تجاهه بعد سنة 1945 ، دون أن يعني ذلك "الانبطاح" أو "محو التاريخ" ، وإنما يعني وجود إرادة حقيقية وقوية لأن تكون مشاغل المستقبل متعلقة بالبناء لا بالحرب والدم .


  • عاشراً : أن من أهم مهام المثقفين أن يواجهوا النزعات الداخلية التي ترمي للنظر للعالم الخارجي وكأنه صفوف متراصة من الذئاب التي توشك أن تنقض علينا , فهذا من جهة "غير صحيح" ومن جهة ثانية فإنه أمر من شأنه أن يأخذنا لعزلة حضارية قد تناسب بعض الأصوليين ولكنها لا يمكن أن تناسب معظم الفرق الأخرى من المثقفين المصريين (وفي مقدمتهم اليساريون) .

  • (من كتاب "الثقافة أولاً وأخيراً" – 2000).