أين هي الليبرالية اليوم في مصر؟


عندما يتأمل أي مفكر سياسي واقع الحياة السياسية أو بالأحرى الحزبية في مصر قبل سنة 1952 واليوم بعد نحو ربع قرن من العودة للتعددية الحزبية لا يملك إِلاَّ أن يلاحظ أن السواد الأعظم من التيارات السياسية (الحزبية) التي كانت موجودة قبل 1952 قد عادت لمسرح الواقع السياسي بإستثناء تيار واحد فقط . فالوفد عاد وكانت عودته قد تلونت بمتغيرات الواقع والزمن…والإتحاد الإشتراكي غير فقط من ثوبه وأسمه وظل كما هو تجمعاً واسعاً كما كان من قبل تحت أسم الحزب الوطني الديمقراطي… وأصحاب طرح الإسلام السياسي (وهو مشروع سياسي بحت وليس دينياً على الإطلاق) كانوا نشطاء قبل 1952 ولاسيما خلال السنوات العشر السابقة لحركة يوليو 1952، وهم الآن نشطاء وأكثر إستغلالاً لتردي المستويات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. أما الفاشيون (وعلى رأسهم أتباع حزب مصر الفتاة والحزب الإشتراكي والحزب الوطني) فهم أيضاً اليوم على الساحة، ويكفي أن نطالع عدداً من الصحف المسماة غير القومية لنعرف أن تياراً فاشياً لا يمكن إنكار وجوده هو الآن لاعب رئيسي على مسرح الأحداث (ومن المذهل أن مقالات بعض الكتاب الفاشيين المعاصرين تكاد تكون صورة طبق الأصل من مقالات أحمد حسين ممثل حزب مصر الفتاة التي كان ينشرها في الثلاثينيات (والتي كان يصاحبها قيام رجال من أتباع هذا التيار مثل فتحي رضوان وأستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي بتأليف كتب عن هتلر وموسيلليني). كذلك فإن الناصريين (وإن لم يكن يجد لهم تواجد قبل 1952) لا يزالون نشطاء على مسرح الواقع السياسي المصري وأداء مذهل في تجاهله للشعور بالذنب بسبب أخطاء فادحة مثل التسبب في حرب 5 يونية 1967 وما أدى إليه من تغيير مروع في علاقات القوة بين العرب وإسرائيل ناهيك عن أخطاء أخرى مثل تحويل المؤسسة التعليمية المصرية إلى واحدة من أسوأ مؤسسات التعليم في العالم. وهكذا يتضح جلياً أن معظم التيارات والأحزاب التي كانت موجودة في مصر قبل 1952 يوجد اليوم ممثلون لها وإن تفاوتت أوزانهم ومقدرتهم على التأثير.

إلاَّ أن المؤكد أن تياراً واحداً لم يعد لخشبة مسرح الحياة السياسية في مصر وهو التيار الليبرالي. فالليبراليون اليوم في مصر هم من جهة قلة ومن جهة أخرى بلا تنظيم ومن جهة ثالثة فإنهم متجاهلون بالكلية من كافة الأطراف رغم أنهم الوحيدون الذين يمكن تصنيفهم بأنهم خارج كهف الحفريات بمعنى أنهم الوحيدون القادرون على فهم حقائق العصر والحديث بلغة هذا العصر وإستعمال لغة خطاب وتواصل مع الدنيا يناسب المرحلة الراهنة، بينما كل الآخرين هم في كهف الماضي يتصايحون ويتشنجون ويهتفون بمفردات لم يعد على وجه الكرة الأرضية من يشترك معهم فيها.

والسؤال الهام الآن هو: لماذا عادت كل التيارات لمسرح الحياة السياسية اليوم في مصر بإستثناء التيار الليبرالي الحقيقي؟

وهناك في الحقيقة عدة أسباب وراء هذه الظاهرة السلبية:

فمن جهة أولى، فقد شاعت في مصر خلال السنوات الخمسين الأخيرة ثقافة الموظفين العموميين أي ثقافة غير المستقلين - وهذه الثقافة بطبيعتها تنجب أي تيار إِلاَّ التيار الليبرالي. لقد نجحت حركة يوليو 1952 في توسعة الطبقة الوسطى المصرية (عددياً) ولكنها من حيث الكيف أو النوع حولتها لطبقة من الموظفين العموميين أو أشباه الموظفين العموميين، وهؤلاء لا يصلحون أبداً لأن يكونوا ليبراليون.

ومن جهة ثانية، فإن النظام التعليمي المهترئ والقائم على إختبارات الذاكرة والحفظ والتلقين عوضاً عن إكتشاف وتشجيع روح الإبداع وكذلك إتسام المُناخ الثقافي والتعليمي والإعلامي العام بالإغراق في المحلية كل ذلك جعل من الصعب للغاية وجود أعداد كبيرة من الليبراليين.

ومن جهة ثالثة، فإن إنتشار ثقافة دينية رجعية (وصفة الرجعية هنا تتجه للثقافة الدينية وليس للدين) كان عاملاً مساهماً وبقوة في الحد من أعداد الليبراليين في واقعنا: فالليبرالية تحتاج لقدر من التفتح والتسامح والهواء الطلق الذين لا يتوفرون في ظل أي ثقافة دينية رجعية.

ومن جهة رابعة، فإن الليبراليين الحقيقيين كثيراً ما يعبرون عن أراء مختلفة مع أراء القطيع - وهو أمر لا يُقبل على الإطلاق في المجتمعات التي تغلب عليها ثقافة الشعارات الكبيرة وما يسمى بإنجليزية Stereotype .

ومن جهة خامسة، فإن المجتمعات ذات الهامش الديمقراطي الضئيل غالباً ما تسود فيها قيم ونظم وثقافة أصحاب القامات القصيرة - وهؤلاء هم أشد الناس حرصاً على إبعاد الليبراليون من فوق خشبة مسرح الحياة العامة لإن وجود نوابغ الليبراليين يشكل حرجاً لا يطاق بالنسبة لأصحاب القامات المعنوية القصيرة إذ تظهرهم المقارنة وهم عراة من القدارت والكفاءة والثقافة والخبرة والرؤية بمعانيها العصرية.

من أجل كل ذلك فقد عادت لمسرح الحياة السياسية والحزبية والعامة في مصر كل التيارات بإستثناء التيار الوحيد القادر على دفع مصر إلى الأمام في كل المجالات وجعلها تتبوأ المكانة اللائقة بها وكذلك أن تحظى بدرجة السلام الإجتماعي الداخلي والإزدهار الإقتصادي والهدوء الإجتماعي الذين بدونهم يصعب على مصر أن تكون لها بين الأمم المكانة اللائقة بأمة هي صاحبة فجر الضمير وفجر التاريخ وفجر الحضارة وفجر المدنية.
(وطني 14/7/2002)