تعليق علـى ما حـدث .


ليس هذا المقال بمثابةِ تحليلٍ كاملٍ لما حدث في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر وإنما هو محضُ تعليقٍ سريعٍ على ما حدث يحتاج لكثيرٍ جداً من إعادة صياغة نقاطه ولكنه يبقى تعليقٌ حتميٌ في ظلِ حجمِ ما حدث وضآلةِ المعلوماتِ المُتاحة وقصرِ الفترةِ الزمنيةِ ولكنه رغم كل ذلك تعليقٌ لازمٌ نظراً لإختلاط الأوراق في معظم ما كُتب ؛ إذ أختلطت المشاعرُ بالأفكارِ بالغضبِ بالحساباتِ القديمة وأصبح من الضروري أن يُنظر إلى ما حدث وإلى جوانبه المختلفة بقدرٍ أقل من الإنفعالية وبقدرٍ أكبر من إتساعِ النظرةِ وتجردِها عن الهوى – وما أدعو القارئ إليه هو أن ينظر لهذا "التعليق على ما حدث" ولنقاطه العشرة كدعوةٍ لمواصلة التفكير المتعقل في مأساةٍ من أكبر مآسي البشرية في العصر الحديث .

أولاً: أن ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11 سبتمبر كان عملاً بربرياً إجرامياً بكل ما تعنيه الكلمتان من معانٍ وكل الذين لم يشعروا بذلك ويتعاطفوا بصدقٍ عميق مع من وُجهت لهم تلك الهجمات البربرية هم أشخاص ناقصو الإنسانية والإدراك وعلى مرحلةٍ بالغة التدني من الفهمِ والشعور ناهيك عن إساءتهم البالغة لأنفسهم إذ جعلوا العالم يؤكد فكرته عنهم كبرابرةٍ وهمج وبدائيين كسكانِ الأحراش منذ مئاتِ السنين .

ثانياً: أي خلطٍ بين ما حدث يوم 11 سبتمبر والموقف منه والشعور تجاهه وبين الإتفاق أو الإختلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها هو أيضاً ضربٌ من الهمجية الفكرية والبربرية والنقص الشديد في التمدن .

ثالثاً: أنه لا شك أن معظم الكتابات التي عمرت بها صحفٌ كثيرةٌ في بعض مناطق العالم من الشماتة في الولايات المتحدة الأمريكية سواءً في شكلِ كتابات صحفية أو رسومات كاريكاتورية إنما تدل على أن بعض أهلَ الكتابةِ في هذه المناطق لا يختلفون كثيراً في تعليمهم وتكوينهم الثقافي والإنساني عن سكان الأدغال ناهيك عن إفتقارهم الشديد للحنكةِ والحكمة إذ أنهم كانوا يفعلون بأنفسهم ما يُعبر عنه المثل الإنجليزي من أنهم يطلقون الرصاص بأنفسهم على أقدامهم .

رابعاً: أن كل ما ذكرته في النقاط الثلاث السابقة لا ينفي أن هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال عن تقصيرٍ مذهلٍ في داخل الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بأمنِ الطائرات في الرحلات الداخلية – فلو كانت إجراءاتُ الأمنِ هذه على درجةٍ عالية من الصرامة لما وقعت كل أحداث 11 سبتمبر الأخيرة – ولا زلت أتعجب كيف لم تتمكن صناعةُ الطائرات المدنية من خلق قمرة قيادة منفصلة كليةً عن باقي الطائرة وتكون لها مداخلها ومخارجها الخاصة عن غير طريق الطائرة وكيف أن صناعةَ الطائراتِ المدنية لم تبتكر نظماً تسمح لقادة الطائرات في قمرتهم المنعزلة عن الركاب أن يسيطروا على أية أحداثٍ في جسم الطائرة الرئيسي بأية أشكالٍ تكنولوجية قد يكون من بينها تخدير الركاب عند تعرض الطائرة لعملٍ إرهابٍّي .

خامساً: إن النقاطَ الثلاثة الأولى لا تمنع أيضاً من حوارٍ جدي حول الإرهاب في العالم وعن مصادره وأماكن إيواءه وسبل القضاء المبرم عليه وإلى جانب الإرهاب الذي يسمى بإرهاب الأصولية الإسلامية فهناك أشكال أخرى من الإرهاب يجب التعامل معها بجدية وكفاءة لإستئصال شأفتها من الأساس ، فالتركيز على نوع واحد من فصائل الإرهاب أمر بالغ الخطورة وقد يؤدي لإستفحال (لا لإستئصال) الإرهاب .

سادساً: إذا كان العالم يهتم بشكلٍ خاص بالإرهاب المتصل بالإسلام السياسي فإن علينا أن نواجه الحقيقة ويعترف الجميع أن (الإسلام) ليس هو (الإسلام السياسي) وأن الإسلام السياسي قد أُستعمل كعفريتٍ يواجه العفريت الشيوعي في الخمسينيات بناءً على تصورٍ أمريكي (بالغ الخطأ) أن ذلك هو الحل أي إخراج مارد الإسلام السياسي من القمقم ليواجه ويفل حديد الشيوعية – ويجب الآن الإعتراف بأنها لم تكن فقط فكرة عديمة الصلة بالذكاء وقصيرة النظر ولكنها أيضاً مدمرةٌ لأبعد الحدود: فقد مات عفريتُ الشيوعية لأسبابٍ ذاتيةٍ وبقى العفريتُ الآخر الذي آمنت به أجهزةُ الأمن الأمريكية في الخمسينيات ظناً منها أنه المعادل لعفريت الشيوعية : في خمسينيات القرن الماضي كان حزبُ تودة الشيوعي الإيراني خطراً ظاهراً تعاملت معه أجهزةُ الأمن الأمريكية بتقوية الحركة التي كان يقودها الخُميني ووصلت إلى الحكم في سنة 1979 لتنشر ظلاماً لا يعلم إلاِّ الله متى ينقشع .. وعندما أرادت أجهزةُ الأمن الأمريكية أن تواجه وتطرد السوفيت من أفغانستان فقد كانت الحركةُ الإسلامية وكان أسامة بن لادن هما الترسانة التي أوجدوها وموّلوها ودرّبوها ، وسوف تُكتب عشرات الدراسات في المستقبل عن خفايا علاقة أسامة بن لادن بالمخابرات الأمريكية ذلك الجهاز الذي يحتاج لآلاف الدروس والمحاضرات حتى يفهم العالم بطريقةٍ أكثر عمقاً وصواباً لأن فهمه المترجم في تصرفاتٍ عديدة ينم عن كارثةٍ فكريةٍ .. وعندما ظن خبراءُ الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية أن الإسلاميين قد يحكموا مصر في وقتٍ قريب فإذا بهم يكررون نفس الخطأ (والخطيئة) ويقيمون صلاتٍ عارمةٍ مع قياداتهم من عمر عبد الرحمن إلى عشرات آخرين يقيمون في أوروبا ويُتحجج بحقوق الإنسان لكي لا يقترب أحدٌ منهم بينما تسمح حقوقُ الإنسان اليوم بأن يُفعل مع أسامة بن لادن كل وأي شئ – وكل ذلك بحاجةٍ لدراساتٍ متأنيةٍ فبدونها سيبقى العالمُ يتعامل مع (الأعراض) وليس مع (الأمراض) .

سابعاً: إن الإرهاب المُنبثق من الإسلام السياسي هو بلا شك من أهم كيانات الإرهاب وهو ما يقوم على أسسٍ ثقافية أو فكرية أو أدبيات بالغة السذاجة وينبغي التعامل التعليمي والإعلامي والثقافي معها فكل ما يقوله دعاةُ الإسلام السياسي بسيط وسطحي ومتهافت وفي كثير من الأحيان ما بين مضحك ومبكي .

ثامناً: إن ردَ الفعلِ الأمريكي المُنتظر خلال أيام أو أسابيع قد يكون مرفوضاً من البعض وقد يكون مُبرراً عند آخرين إلاِّ أنه لن يقدم علاجاً كاملاً أو نهائياً لمشكلة الإرهاب على مستوى العالم ، فالعلاج الشامل الناجح للإرهاب يجب أن يكون منبثقاً من خطة متعددة الجوانب: تعامل أمني فعّال وعادل لا يستثني أحداً كما حدث مراراً في الماضي .. تعامل تعليمي وإعلامي يخلو من العرقية والتعصب سواءً من جانب غير المسلمين للمسلمين أو من جانب المسلمين لغير المسلمين .. تعاملٌ مع الإرهاب والتطرف لا يتسم بالإزدواجية والكيل بمكيالين .. ومع كل ذلك فسيبقى في مجتمعاتٍ عديدة أن الإرهاب هو نبتةٌ للتطرفِ والتطرفُ هو نبتةُ ثلاثة أشكالٍ من الفقر: الفقر التعليمي والفقر السياسي المتمثل في إنعدام الديمقراطية والفقر الإقتصادي الإجتماعي الناجم عن سوءِ إدارةِ المجتمعاتِ وتفشي الفساد وتحول شرائح الطبقة الوسطى إلى طبقاتٍ دنيا يكون أبناؤها وبناتُها مرتعاً لأفكارِ التطرف لا من الإيمان الفكري وإنما بدافع القنوط الناجم عن ظروفٍ حياتية من الطبيعي أن تنتج الغضب والنقمة والشعور العميق بفداحة المظالم وكون الحياة مسرحاً بغيضاً للظلمِ والفساد .

تاسعاً: رغم إيمان كاتب هذه السطور بالصيغةِ الساداتية/ المصرية في التعاملِ مع الصراع العربي الإسرائيلي أي الوصول إلى إنهاء هذا الصراع والبقاء المتجاور للطرفين بعد الوصول لإتفاقيات سلام حقيقية (وليست إتفاقيات إستسلام) والعمل عندئذٍ على إحلال "ثقافة السلام" محل "ثقافة الحرب والكره والعداء" .. رغم ذلك فإنني أؤمن إيماناً راسخاً أن إسرائيل ستبقى وحدها نموذجاً فريداً لدولةٍ عصريةٍ تقوم على مفاهيمٍ دينية (معظمها في الحقيقة تقاليد وموروثات ومفاهيم إسطورية) . وما لم يحدث إنحسار في المد اليميني الإسرائيلي لصالح اليسار الإسرائيلي بما يقود الأمور إلى دولةٍ يعيش الناسُ فيها على أساس من (حق المواطنة) وليس على أساسٍ ديني أي أن تصبح إسرائيل دولة لليهود وأيضاً لغير اليهود ولكنها لا تبقى أبداً "دولة يهودية" ؛ عندئذٍ فقط ستكون البشرية قد أحرزت تقدماً آخراً في تعاملها مع الأصولية الدينية التي تقف وراء العديد من مصائب البشرية .

عاشراً: إن حل مآسي بعض بؤر الفوران العنيف في العالم وعلى رأسها مأساة بقاء الأمور على ما هي عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون حل سريع وكامل وعادل (أي مؤسس على مقررات الشرعية الدولية) وهو ما كانت كل الأطراف على بُعد خطوات قليلة جداً منه ذات يوم غير بعيد في "طابا" – أن حل مآسي من هذا النوع ستكون علاجاً بالغ الفعالية في إنحسار دوافع التطرف والذي من رحمه يخرج الإرهاب (أبغض تصرفات البشرية قاطبة). كان ذلك مجرد تعليق سريع على ما حدث ، وأعترفُ بقلمي أنه تعليقٌ يحتاج لكثيرٍ من التأصيل كما أعترفُ بأن العنوان مأخوذٌ بالكلية من شاعر مصري عظيم لا يساورني شك أنه أحد أعظم شعراء العربية وهو الشاعر الراحل أمل دنقل صاحب ديوان (تعليق على ما حدث) .
(أخبار اليوم 13/10/2001) .