حوار مع صديقي اليهودي.


قال لي صديقي الأمريكي اليهودي الذي يرأس أحد أقسام دراسات الشرق الأوسط بجامعة أمريكية مرموقة وهو في نفس الوقت إنسان كرّس جهوده لتأييد ومناصرة إسرائيل (أنني عاجز عن فهم موقفك من إسرائيل اليوم ألم تكن دائماً من أنصار السلام؟) قلت له : يبدو أن تعبير (نصير السلام) يعني بالنسبة لك (نصير إسرائيل) … ولو كان الأمر كذلك لكان من حقي أن أقترح عليك دراسة أبجديات الفلسفة واللغة والتاريخ … إنني عندما أناصر السلام فإنني أناصر "كياناً مستقلاً" اسمه "السلام" .. وكمصري، فإنني أفعل ذلك لإعتقادي أن ذلك في صالح مصرَ التي أريد لها أن تركّز جهودَها على بناء داخل عصريٍّ قويٍّ يكون قاعدةٍّ لإزدهارها واستقرارها. ولا أفهم أن تكون مناصرتي للسلام من بابِ مناصرةِ إسرائيل. إن على المصريين أن يؤمنوا بالسلام (العادل والقائم على الشرعية) من أجل مصر … وفي نفس الوقت فإن على الإسرائيليين أن يؤمنوا بالسلام (العادل والقائم على الشرعية) من أجل إسرائيل – أما أن يكون إيماني بالسلام من أجل إسرائيل فهذا "عبث مطلق" . إنني في مناصرتي للسلام كنت (ولا أزال) أدعو لقيامِ واقعٍ جديدٍ في الشرق الأوسط يقوم على العدلِ والإنسانيةِ والشرعيةِ والاحترامِ المتبادل من أجل أن نفرغ لبناءِ واقعٍ أفضل في مجتمعاتنا. أما إذا كانت مفرداتُ الواقعِ هي نقيض العدل والشرعية واحترام إنسانية كل الأطراف فإن الإيمان بالسلام المؤسس على تلك الأرضية هو موقفُُ مناقضُُ للعقلِ والمنطقِ والقانونِ والإنسانيةِ.

 

قال لي صديقي الأمريكي المؤيد دائماً لإسرائيل : إِذن أنت لا ترى أي خطاء فيما يفعله الفلسطينيون من أعمال العنف منذ سبتمبر الماضي ؟ .. وكان ردي : أنني أعرف جيداً أدق تفاصيل الواقع في فلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني خلال السنوات ما بين 1945 و1948 وأعرف أن ما تسميه أنت (العنف) كان أهم أدوات الممارسة اليهودية في مواجهة العرب والبريطانيين – وهو ما يعني أنكم تدينون اليوم (العنف الفلسطيني الذي يهدف لإقامة دولة الفلسطينيين) بينما تنظرون بإجلال (للعنف اليهودي الذي مهد لإقامة دولة إسرائيل) فأي تناقضٍ وميوعةٍ في التفكير هذا ؟ … سكت محدثي ولم يرد … فاسترسلت قائلاً : إن البعض (لدينا) يدين مهاجمة المدنيين (على أي جانبٍ) ولكنه يرى أن (العنف الفلسطيني) لا يعيبه إلا أنه لم يصل بعد للمستوى المطلوب كثمنٍ للوطن الفلسطيني المنشود ، وأعني ثمناً كالذي دفعه الجزائريون لحريةِ وطنهم … إنني يا صديقي (وأنا أؤمن بالسلام القائم على العدل والشرعية) أجد أن على الفلسطسنيين أن يفعلوا مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عشرة أضعاف ما فعله (حزب الله) في جنوب لبنان ومثل ما فعله الجزائريون مع القوات الفرنسية التي كانت في الجزائر ما بين 1945 و1962 وجعلوا الفرنسيين يروون من العذاب والوجع والألم ما لم تفلح القوة الفرنسية الطاغية في تلافيه … إنني أدعو لنهر من دماء العسكريين الإسرائيلين يجريه الفلسطينيون بلا توقف وأُصر على أن ذلك ينبع من إيماني بالسلام .. وأقول : إذا لم يكن هناك إلاَّ الأختيار بين (الذل) الذي يريد شارون فرضه أو أنهار دم العسكريين الإسرائيلين- فليكن خيار الفلسطينين هو أن يجريَ هذا النهر من الدم بلا توقف حتي تقبل إسرائيل كل مقررات الشرعية الدولية … واسترسلت في حديثي مع صديقي اليهودي الأمريكي قائلاً ثم دعني أسألك سؤالاً هاماً : أنت رجل حاصل على الدكتوراة في القانون الدولي العام، فكيف تقبل عدم انصياع إسرائيل لمقررات الشرعية الدولية (وفق أحكام القانون الدولي العام ) والمتمثلة في إعادة كل (مرة أخرى : كل) الأراضي التي احتلت في حرب يونية 1967 ؟ ولماذا نطالب البعض أحياناً بالإمتثال للشرعية الدولية ونغض النظر عن الشرعيةِ الدوليةِ عندما تكون قيداً على يد إسرائيل التي تريد الامتداد إلى ما تشاء كيفما تشاء ووقتما تشاء !؟!

 

قاطعني محدثي الأمريكي المناصر دوماً لإسرائيل قائلاً : أتعترض على حقِ اليهود في العيش في دولةٍ لهم ؟! قلت له السؤَال في غيرِ محله : فالعربُ المجاورون لإسرائيل وافقوا كلهم (بما في ذلك الفلسطينيون) على مقرراتِ الشرعيةِ الدوليةِ والتي تعني وجود دولة لليهود (إسرائيل) ولكنها تعني أيضاً جلاء إسرائيل عن كل الأراضي التي احتلتها بالقوة في حرب يونية 1967 – كيف يستقيم المنطق (منطق الشرعية والقانون الدولي) عندما نتحدث عن نصف مقررات الشرعية الدولية ؟ قال محتداً : وهذا الزخم من العداء لإسرائيل في المناخ الثقافي العام لكل الدولِ العربيةِ والإعلام العربي – كيف تقبله ؟ قلت : أنا لا أقبله … ولكنني أتفهمه … إنك تريد هبوط مفردات اللغة من مستوى العداء العالي الحالي لمستوى أقرب للتعايش والقبول في ظل رفض إسرائيل للمقررات الدولية واستمرار ممارساتها الهمجية ضد الفلسطينيين (وقبل ذلك في لبنان) بينما المنطق يقول أن تغيير الأرضية الأساسية يكون بتطبيق مقررات الشرعية الدولية وقيام واقعٍ جديدٍ مؤسسٍ على السلامِ العادل والشرعية واحترام إنسانية كل الأطراف – ثم نتحدث عن سبل الهبوط بلغة العداء إلى مستوياتٍ أًدنى وأقرب للغة التعايش … إن الحديثَ عن "إثبات حسن النية" و "كسب الثقة" في ظل المعطيات الحالية إما (جنون) أو (إبتزاز)!

 

قال لي صديقي الأمريكي المتعاطف لأبعد الحدود مع إسرائيل : ألا ترى أن الفلسطينيين أضاعوا فرصةَ العمرِ في العام الماضي عندما أحبطوا (كلينتون) و (باراك)؟ قلت : لا أوافق على هذا التوصيف ، فالحقوق لا ينظر لها بالطريقة التي يُنظر بها للصفقات – إذ يقول البائع للمشتري: لقد أضعت أمس فرصة العمر؟! … لو كان للفلسطينيين فيما عُرض عليهم حق (والأمر كذلك) فيستوي أن يقبلوه في سنة 2000 أو في سنة 2005 … نحن هنا بصدد "حقوق" و "مقررات الشرعية الدولية" ولسنا بصدد بيع قطعة أرض في ولاية تكساس بين شخصين ينتميان ثقافياً للفايكنج! كما أنني لا أرى أي شذوذ في رفض الفلسطينيين لما يُعرض عليهم إذا كان أقل من مقررات الشرعية الدولية – إلا اذا كنت ترى أن من حق "القوى" أن يسدد نصف أو ربع ما عليه لمجرد أن بوسعِه أن يعتدي على الطرفِ الآخرِ إن لم يقبل سداده لبعض ما عليه؟؟

 

قال صديقي الأمريكي المتعاطف لأبعد الحدود مع إسرائيل: إن العرب لا يفهموا "حجم الخوف" الموجود في الشخصية الإسرائيلية؟ .. قلت له ولكنك تعلم أنني أعرف عن الشخصية اليهودية وتاريخها القديم والحديث أكثر مما يعرفه معظم اليهود … ومع ذلك فإنني لا أجد مبرراً لأن من يقول أنه ظُلم تاريخياً أكثر من أي شعبٍ آخر أَن يكون هو مصدرَ ظلمٍ مماثلٍ لآخرين لم يكونوا هم ظالميه حسب نص روايته … وعلى أية حال ، فإن تحول اليهودي من (مظلوم جداً) إلى (ظالم جداً) يجعلني أرى ما سوف يحدث له في المستقبل ! … فسوف يتحول المظلومون الحاليون على أيدي اليهود لأبطال يمحقون الظلم الواقع عليهم إن لم يكن خلال عشر سنوات، ففي المستقبل البعيد، ولا يساورني شك أن (الظلم الإسرائيلي) الحالي هو الذي سيشكّل بذرة ما سيحيق باليهود في المستقبل – ولا تحدثني عن القوة العسكرية والسلاح النووي، فالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا لا يعملون لصالح (إسرائيل الظالمة) وإنما لصالح المظلومين بشكلٍ أراهُ وكأنه صورةُُ حقيقيةُُ أَمام عينيِّ ! ان وجودَ السياسيين الإسرائيليين أصحاب الرؤية التاريخية أمثال يوسي ساريد ويوسي بيللين على مقاعد المستبعدين بينما يجلس على مقاعد الحكم رجال بلا أدنى رؤية أو حس تاريخي أمثال نتنياهو وشارون هو الآلية المؤكدة لصنع عشرات الكيانات المماثلة لحزب الله والتي يعرف الإسرائيليون المدى الذي سيصل إليه هؤلاء … ولن ينفع يومئذ البكاء على فرصٍ ضاعت مع رجالٍ عقلاءٍ كانوا لا يطلبون إلا التطبيق الكامل لمقررات الشرعية الدولية (والتي هي بالنسبة لكثير من العرب أقل من معظم طموحاتهم). ودعني أبرهن لك على كون عقول بعض هؤلاء الساسة الإسرائيليين في حجم عقول صغار العصافير : لقد سمعت بأذني رئيس وزراء إسرائيل الأسبق نتنياهو يقول يوم 15 مايو الماضي: إن إصرار الفلسطينيين على تسمية يوم 15 مايو بيوم النكبة هو أكبر دليل على أَنهم لا يريدون السلام وأَنهم يبتغون إلقاء إسرائيل في البحر ؟ ودعني أُحلل لك تلك العبارة التي لا ينبغي قبولها من طفل في السابعة من عمره ! ان السيد نتنياهو الذي سبق وأن وصفته بأنه يتمتع بأقل حسٍ تاريخيٍّ متصور (وذلك في رسالة مفتوحة بعثت بها إليه عندما أصبح رئيساً لوزراء إسرائيل ونشرت الرسالة وقتها بعددٍ من الصحف مثل جريدة الوفد ومجلة روزاليوسف) إن السيد نتنياهو يريد أن يصبح يوم 15 مايو عيداً سعيداً عند كل فلسطيني ؟! .. ولا تدل عبارةٌ عن سوءِ الفكرِ وسوءِ النيةِ والاتسامِ بغيرِ قليلٍ من إحتقار الآخرين مثلما تدل على كل ذلك عبارةُ السيدِ نتنياهو . إن الفلسطينيين لم ولن ينظروا ليوم 15 مايو 1948 إلا بإعتباره "نكبة" – حتى لو سلموا بوجود إسرائيل وتم إنشاء دولتهم الفلسطينية على كل ترابِ الأراضي التي احتلت يوم 5 يونية 1967 فإن يوم 15 مايو 1948 لن يصبح (عيداً سعيداً) عند فلسطيني واحد وسيبقى (يوم نكبة) … وهل يستطيع السيد نتنياهو (تاجر الأثاث السابق) أن يطلب من الألمان الاحتفال (بسعادةٍ غامرةٍ) بسقوط برلين في سنة 1945 ؟! .. وهل يجسر على أن يطالب اليابانيين باعتبار يوم إستسلام اليابان في سنة 1945 عيداً سعيداً يجب أن يحتفل اليابانيون به في فرحٍ وهناءٍ !؟ أَي تهافتٍ في المنطق هذا ؟ … وأية سطحية في بسط الأفكار؟

 

كنتُ حتى هذه اللحظة أَسترسل الإجابة عن أسئلةِ محدثي … أما وقد وصل الحوارُ لتلك الجزئية فقد رأيت أن يكون السؤَال التالي من جهتي، فقلت له : دعني أسألك وأنت الدارس الجيد لأسفار العهد القديم (وهي أسفار طالعتها مثلك مئات المرات) .. كيف ترضى كإنسان متعلم يعيش في القرن الحادي والعشرين أن تكون فكرة وروح وموقف اليهودي من غير اليهودي مؤسسين على تلك الروح المنتشرة في أسفار العهد القديم بوجه عام وسفر يشوع بن نون بوجه خاص عن (الآخرين) أي عن (غير الإسرائيليين) ؟ وهل تريدني أن أذكرك بالصداق (المهر) الذي طلبه الملك شاوؤل (طالوت) من داود بن يسى ليزوجه من ابنته ميكال ؟ أم أن ذلك سيخجلك بشكل لا حد له ؟ وكيف يمكن لأي إنسانٍ معاصرٍ متعلم ومثقف ومستنير أن يقبل تأسيس موقف عام من الحياة لشعبٍ من الشعوب على أساسٍ من نصوص دينية لا يؤمن بها إلا أصحابُها ولا حجية لها خارج دائرة الإيمان (وهي علاقة شخصية بين الإنسان وما يؤمن به) ؟؟ وكيف تسمح الحضارة الغربية بهذا الخلط بين ما هو (ديني) وما هو (سياسي) في المعادلة اليهودية بعدما رفضت الحضارة الغربية استمرار ذلك في دائرتها الخاصة (المسيحية)؟ بل وكيف يقبل المتعلمون والمثقفون في الغرب أن يحل تعبير (الحضارة اليهودية المسيحية) منذ سنوات قليلة محل تعبير (الحضارة الهيلينية الرومانية) والذي استعملناه جميعاً عشرات السنوات حتى تم استبداله مؤخراً بهذا الصك الجديد (الحضارة اليهودية المسيحية) ؟

 

ثم ختمت الحوار بقولي : انك تعلم أنني كثيراً ما تحدثت عن أخطاء العرب في تناولهم للصراع العربي الإسرائيلي – وأنا لم ولن أُعدّل أفكاري في هذا المجال، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أقول أن (أخطاء إسرائيل) بوجه عام وأخطاءها خلال السنوات العشر الأخيرة والتي جوهرها المماطلة في التسليم بالشرعية الدولية والتملص من الوصول لإتفاقيات نهائية منفذة تقوم على أساس الشرعية الدولية وإعتمادها الأعمى على القوة المادية واستعمالها الإجرامي للسلاح في مواجهة بشر عزل وهدمها للمنازل وتجريفها للأراضي الزراعية – هذه الأخطاء هي في إعتقادي (البذور الحقيقية ) لمستقبل ستكون إسرائيل فيه هي (النادم الأول) و (الخاسر الأكبر) بلا ذرة شك عندي.