العقـل العـربي

بين مدح الذات والإقامة في الماضي .


1- ظاهرة "مدح الذات" .

 

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

 

ومن البلية عذل من لا يرعـوى

عن جهله وخطاب من لا فهــم.

"المتنبـي ..”

 

يتطرقُ هذا المقال لعيبٍ كبير من عيوب العقل العربي والتي شاعت في مناهجِ تفكير معظمنا، وهو (مغالاتنا في مدحِ الذاتِ) ومـا يتصـل به من قيمٍ اجتماعيةٍ شاعت وذاعت في واقعِنا . فنظـرةٌ متأنيـة لمـا يذاع في النـاس من مـواد إعلاميـة مكتوبـة أو مقـروءة تظهــر بوضـوحٍ أن وسـائلَ إعلامِنــا المختلفة (المرئية والمسموعة والمقروءة) أَصبحت لا تخلو – بصفةٍ يومية- من مدحِ الذاتِ وإطراءِ إنجازاتنا ومزايانا. وعلى المستوى الفردي، فإننا نمارس نفس الشيء بصفةٍ شبه دائمة. وإذا قارنا وسائل إعلامنا الحالية بصحفنا ومجلاتنا منذ نصفِ قرنٍ لاكتشفنا أَن هذه الصفةَ لم تكن متفشيةً في الماضي كما هي متفشية اليوم. كذلك إذا قارنا هذه الصفة الشائعة عندنا بالأوضاع المماثلة عالمياً، ولا سيما في الدولِ المتقدمة؛ وجدنا أنفسنا - أيضاً - منفردين بهذا " الكم الهائل " من مدحِ الذاتِ بصفةٍ دائمةٍ .

 

وقد قمت شخصيـاً بمراجعـةِ مئـات الصحف والمجلات المصرية(والعربية) التي صدرت طيلة الأربعينيـات؛ فاتضح لي بجلاءٍ تامٍ أننا لم نكن نعرف تلك الصفة منذ قرابة خمسين سنة ولكنها بدأت - على استحياء - منذ نحو ربع القرن ثم استفحلت واستشرت خلال السنوات العشرين الأخيرة، مع ملاحظة أَن معدلَ ازديادِها في سني العقدِ الأخير كان الأكبر والأشد ظهوراً بشكلٍ تصعب عدم رؤيته .

 

واليوم، فلا تكاد جريدة أو مجلة تخلو من موضوعٍ أو مواضيعٍ تتضمن إطراءَ الذاتِ والإشادة بتميزنا وتفوقنا وإنجازاتنا . وكثيراً ما تكون عباراتُ إطراءِ الذات منسوبةً لمصدرٍ خارجي، وهو ما يؤكد اعتقادنا بأن المصدرَ الخارجي يُضفي "مزيداً من القيمة" على عباراتِ الإطراءِ المذكورة .

 

ورغم أَن الكثيرَ مما يُنشر في هذا المجال يبدو بوضوحٍ أَنه يثيرُ من التعجبِ أَضعافَ ما يحدثه من مصداقيةٍ، إلا أَن " الظاهرة" تبقى ماثلةً أمامنا وهى أَننا نفعل (في هذا المجال) ما لا يفعله (الآخرون) ... وأَننا بحاجةٍ ماسةٍ لهذا الإطراءِ للذات، لأنه يُعالج عندنا (شيئاً ما).

 

فما معنى أن صحفَنا لا تكاد تخلو - كل يوم - من صيغةٍ تماثل أو تقترب من واحدةٍ من هذه الصيغ :

 

•  المجتمعُ الدولي يشيدُ بتجربةِ الإصلاحِ الاقتصادي في (......) .

•  البنك الدولي يبرز إنجازاتِ تجربتنا في التنميةِ الاقتصادية .

•  جامعة (......) تقول : الاقتصاد الـ … قوى ويقف على أرضيةٍ قويةٍ .

•  مركز (……) للدراسات الاقتصادية يقول : الاقتصاد الـ … لا يمكن أن يتعرض لهزةٍ مثل هزة النمور الآسيوية .

•  اليونسكو يقرر تكرارتجربتنا في ....... على مستوى العالم .

 

ما معنى ذلك؟ … ولماذا لا نقرأ مثل هذه "الصيغ" في أية صحيفة من صحف فرنسا وألمانيا وإنجلترا واليابان والولايات المتحدة؟

 

وما معنى التكرار شبه اليومى؟

 

المعنى الحقيقي بالغ السلبية، وهو أننا (رغم معرفتنا بأننا لا نزال في معظم المجالاتِ على أولِ الطريق) نحتاج لخلقِ عالمٍ خاصٍ من اختراعنا "نرتاحُ فيه" وهذا النمط من السلوك هو (العكس) و(النقيض) و(الضد) لسلوكٍ آخرٍ إيجابيٍّ وبناءٍ وينبئ بأننا سنخرج حتماً من أتون مشاكلنا العديدة العويصة. النمطُ الإيجابي والبناء من السلوك يحتمُ علينا أن نعترف لأنفسنا و(بوضوحٍ تامٍ)

بأن واقعنا عامرٌ بالمشاكلِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، وأننا (للأسف الشديد) دولةٌ من دول العالم الثالث (وما كان ينبغي لنا أن نكون) وأن أوضاعَنا ترجعُ كلُها للطريقةِ التي أديرت بها حياتنا العامة خلال أكثر من قرنٍ من الزمان .

إن التخلي عن تلك الصيغ والتي نعلم جميعاً أنها خاويةٌ من الجوهرِ والمعنى والتزود بشجاعةِ الاعترافِ بالواقعِ، هو نقطة البداية الفعلية لتقدمٍ حقيقيٍّ على كافةِ المستوياتِ .

ومن المؤكد أن إنجازَ هذه المهمةِ (مهمة إيقاف طوفان مدح الذات وشحذ الهمم لتكون قادرة على فعل النقيض) لا يمكن أن يتم (على المستوى البعيد) إلا عن طريق غرز قيم إيجابية مختلفة عن طريق برامج التعليم، أما على المدى القصير فإن إنجاز هذه المهمة يبقى " مستحيلاً" ما لم تبدأ هذه العملية من رأس الهرم لا من سفحه. كذلك فإن للاتجاه الذي أدعو إليه تداعيات لا يمكن تجنبها: فعندما نعترف بسوءِ الأحوالِ .... فإننا نكون على حافةِ السؤالِ الخطير: ولماذا وصلنا لذلك؟ … ولا جواب إلاِّ لأن بعض القيادات التي تولت أمورنا العامة في منتصف القرن الماضي لم تحسن الأداء. وأن علينا في نفسِ الوقتِ أن ندرك أن "حسن الأداء" لا يحدث الآن في عالمنا عن طريق تبنى أيدولوجيات معينة، ولكنه يحدث كنتيجةِ توفرِ "كادرٍ تنفيذي" على رأس المجتمع يقتفي أثرَ التجاربِ الناجحة منشغلاً بهذه المهمة "البرجماتية ” عن أَيةِ إضاعة للوقتِ في جدلٍ أيدولوچي عقيم لا يزيدنا إلاِّ إمعاناً في التأخرِ .

 

وأعتقد أن "المغالاةَ في مدحِ الذات " ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بمجموعةٍ أخرى من "القيم السلبية " التي شاعت في حياتنا لأسبابٍ عديدة (قد يكون يوم 5 يونيه 1967 من أقواها تأثيراً). وأهم هذه القيم هي :

•  انفصال (الأقوال) عن (الأفعال) وتحولنا (بدرجة ما) إلى " واقع خطابي" أكثر من أن نكون "واقعاً عملياً". وهى ظاهرة تعم المنطقة التي ننتمي إليها بشكلٍ بالغ الظهور والقوة. وترجع هذه الظاهرةُ لتواريخٍ بعيدةٍ وعواملٍ ثقافيةٍ ضاربة في عمقِ هذه التواريخ. فنحن - بلا شك - من أكثر شعوب العالم تغنياً (بالألفاظ) بتاريخنا وأمجادنا الماضية وميزاتنا عن الآخرين. وإذا قارنا مجتمعاتنا (من هذه الزاوية) بمجتمع كالمجتمع الياباني وجدنا اليابانيين على أعلى درجاتِ الفخرِ بوطنهم دون أن يتخذ هذا الفخرُ شكلَ "كبريات الألفاظ" و "القصائد" و"الأغاني" و " الشعارات".

 

•  ارتكاز الأحكام العامة عند كثيرين على منطق (الحب) أو (الكراهية) وهو ما يقود إلى شيوع الشخصانية (Subjectivity) عوضاً عن "الموضوعية" (Objectivity) ثم يؤدى -أخيراً - إلى انطلاق الأحكام والآراء والمعتقدات من زوايا شخصيةٍ بحتةٍ .

ولاشك أن هاتين النقطتين الأخيرتين بحاجة ماسة لمزيد من الإيضاح وهو ما سنعني به في مقالات قادمة .

 

2- الإستلاب بالماضي .

أجدادكم إن عظموا وأنتم لم تعظموا

فإن فخرَكم بهـم عارٌ عليكم مبرمُ . "العقاد .. "

 

" علاقتُنا بالماضي" موضوعٌ يمكن أن يفرغ مفكرٌ لدراستِه طيلة حياته دون أن يوفيه حقَه من الدراسةِ المعمقةِ كما ينبغي أن تكون الدراسةُ. لذلك فمن المستحيلِ تقديم تغطية كاملة لهذا الموضوع في فصلٍ مقتضبٍ كهذا الفصل بكتابٍ موجز كهذا الكتاب . ولكن من الممكن تركيز الاهتمام حول عدةِ محاورٍ بشكلٍ يصلح لأن يكون أساساً لمزيدٍ من النظرِ والتفكيرِ .

 

فمن جهةٍ أولى، فإننا من أكثر شعوبِ العالمِ " فخراً بماضيها "...

ومن جهةٍ ثانية، فإن ملايين المفتخرين بهذا الماضي يكادون أن يكونوا جميعاً من غير العالمين بألف باء هذا الماضي ناهيك عن العلم الواسع والعميق بسائر جوانبه ...

 

ومن جهةٍ ثالثة، فإن هناك "خلطاً دائماً" بين هذا الماضي والحاضر ...

 

أما كوننا من أكثرِ شعوبِ العالم فخراً بماضينا، فأمرٌ لا يحتاج للإثبات، إذ أن مطالعةَ جريدة ٍأو مجلةٍ أو مشاهدةِ أي برنامج تليفزيوني تنبئ بهذا القدر الهائل من الفخرِ بالماضي، فنحن في حالةِ تذكيرٍ مستمرةٍ للدنيا وللآخرين ولأنفسِنا بأن ماضينا أعظمُ وأمجدُ وأفخمُ من أي ماضٍ لأية أمةٍ أخرى .

 

ومن المؤكد، أن ماضينا "متميزٌ" و "خاصُ" ولكن من المؤكد، أن هذا الماضي يضم صفحات بيضاء كما أنه يضم أيضاً صفحاتٍ سوداء. والوقوف على الصفحاتِ البيضاءِ والسوداء في ماضينا من الأمور التي تستغرق أعماراً كاملة لأشخاص وقفوا أَنفسَهم على دراسةِ ذلك. وبالتالي، فإن حديثنا الذي لا يتوقف عن ماضينا يعيبه - من الناحية الموضوعية - أنه يفترض أن صفحاتِ هذا الماضي كانت كلها بيضاءً ناصعةً - وهذا غير صحيح. كذلك فإن ظاهرةَ التغني المستمر بالماضي تحتاجُ للتفكير والدراسة. فمن غير الطبيعي ألاَّ يكون هناك توازنٌ بين "الفخر بالماضي " و " الانشغال بصنع حاضر ومستقبل مجيدين". ولاشك أن هناك خللا في تفكيرنا في هذه المسألة إذ أن الانشغال بصنع الحاضر والمستقبل يعتبر متواضعاً إلى جانب الإنشغال بالتفاخر بالماضي .

 

كذلك فإن افتراضَنا (الضمني) أننا الوحيدون الذين يملكون ماضياً مجيداً هو الآخر أمرٌ مخالفٌ للواقعِ والثابتِ. فكما أن من حقنا أن نفخر بتاريخنا المصري القديم فإن أبناء اليونان وإيطاليا (أحفاد الإغريق والرومان) هم أيضاً أصحاب حضارة وماضٍ مجيد لا يحق لمن يحترم الحقائق التاريخية أن يستهين بهما .

 

وفى اعتقادي أن "فقرَ مكوناتِ الواقع" هو ما يدفعنا باستمرار للتغني والتفاخر بالماضي، كأننا نشعر أنه بدون ذلك الماضي فإن المعادلةَ ستكون مختلةً وفى غير صالحنا. والمنطقي، أن نفتخر بجوانب عديدة من ماضينا افتخاراً متزناً غير مشوبٍ بالحماسةِ الزائدة والتعصب وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم، على أن يكون هناك "فخر متوازن" بمعطياتِ الحاضرِ ومكونات المستقبل .

 

وإذا كان العربُ هم الذين نحتوا المقولة الشهيرة والصائبة والتي تقول: (ليس الفتى من يقول كان أبى، وإنما الفتى من يقول هأَنذا) فإن الأمرَ هنا يكون بغيرِ حاجةٍ منى لمزيد من الشرحِ والتبيانِ .

 

ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن افتخارَ معظمنا بماضينا يعطى الإحساس بأننا نعلم الكثير عن هذا الماضي. والحقيقة أن السوادَ الأعظم منا لا يعرف أي شيء (إلا الشعارات العامة) عن ماضينا وتاريخنا. بل أنني أزعم أن الأغلبية العظمى من المتعلمين تعليماً عالياً بمجتمعنا لا يعرفون - مثلاً - أعلام الأسرة الثامنة عشرة في تاريخنا الفرعوني القديم ولا يعرفون -مثلاً- الترتيب الزمن لفراعنة عظماء أمثال سنوسرت وأحمس وتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني، رغم أن معرفة ذلك لا تعنى أي تضلع في تاريخنا القديم. بل وأزعم أن معظم المتعلمين تعليماً عالياً في مصر لا يعرفون الترتيب الزمني للعهود التالية: العصر الإخشيدي والأيوبي والطولوني والمملوكي في تاريخنا الوسيط. وأكرر، أن معرفة ذلك لا تسمح في حد ذاتها بالاعتقاد بوجود أي تضلعٍ في معرفةِ الموضوعِ محل الحديث، ولكن عدم المعرفة بها يعني الجهل التام بأبسط المعارف التاريخية

وهو ما يجعل الافتخار الحماسي بهذا الماضي (ممن لا يعرفون أي شيء عنه) ظاهرةً عقليةً ونفسيةً تحتاجُ للدراسةِ والتحليلِ .

 

وتنطبق هذه الحقيقة (حقيقة جهل السواد الأعظم منا بمفردات وعناصر ماضينا) على تياراتٍ فكريةٍ بأكملِها. فما أكثر الذين يسمّون أنفسَهم بأنصار مصر الفرعونية وهم لا يعرفون ألف باء تاريخ هذه الحقبة. وما أكثر الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين وهم على غير علمٍ بمعظم التاريخ والتراث الذي لا يكتفون بالفخر به، بل ويضفون على عناصره من القداسة ما لا ينبغي أن يقدس لأن معظمه "عمل وفكر بشرى".

 

وأذكر هنا حواراً مع شابٍ متحمسٍ للتيارِ الذي يُسمي نفسه بالإسلامي وجدته يلحن (أي يخطئ في تحريك الكلمات العربية) وهو يستشهد ببعض النصوص. أذكر أنني قلت له إن الفقهاء المسلمين الأوائل كانوا يعتبرون كل علم أصول الفقه عملاً بشرياً ولا أدل على ذلك من أمرين :

الأول، تعريف الفقهاء لعلم أصول الفقه بأنه "علم استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية" وهو تعريف عبقري ولكنه يثبت " بشرية" هذا العلم. والثاني، كلمة أول وأكبر الفقهاء أبى حنيفة النعمان الشائعة (علمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضلَ منه قبلنَاه). ثم ذكرت لذلك المتحمس لما يسمى بالتيار الإسلامي أن هؤلاء الفقهاء الأوائل قد وضعوا ستة شروط لأهلية الإفتاء، كان أولها العلم باللغة العربية علم العرب الأوائل. ثم قلت له، ونظراً لأنك (ومعظم زملائك في الحماس لما يُسمى بالتيار الإسلامي) تلحنون (أي تخطئون في اللغة العربية) فإنكم -وفق الشرط الأول من شروط الإفتاء- قد فقدتم أهلية إبداء الرأي في المسائل التي تتعرضون لها .

 

كل ذلك كان ضمن حديثي عن غرابةِ أن يفخر أناسٌ بماضٍ لا يعلمون عنه شيئاً يذكر. وهو ما يدل -مرة أخرى- على أننا أمام " ظاهرة عقلية ونفسية" لا علاقة لها -في الحقيقة - بالماضي الذي يتحمسون له .

 

وأخيراً، فإن الحياةَ المعاصرة في مجتمعنا تجعلنا نشاهد -يومياً - عروضاً متكررةً للخلطِ بين هذا الفخر المتحمس بالماضي وبين الفخر الآني أي الفخر بما نحن عليه الآن .

 

وهذه ظاهرة مفهومة، لأَننا نستشعر في أعماقنا تلك المفارقة المهولة بين "ماض مجيد" نفخر به وحاضر نبحث في جوانبه عن أسباب للفخر فلا نكاد نجد إلا أقل القليل؛ فمعظم إنجازات عصرنا المادية والفكرية من أعمالِ الآخرين .