التعليـم "أولاً" و"أخيراً" .


لا يرى كثيرون في واقعنا بوضوح الصلة الوثيقة بين (التعليم) و (الإدارة) ، رغم أن هذه الصلة واضحةُُ بجلاءٍ تامٍ في المجتمعاتِ التي سبقتنا على دربِ التقدمِ والازدهار والاستقرار. فالإدارةُ هي قاطرةُ قيادةِ العملِ في سائرِ الوحدات الاقتصادية (الإنتاجية والخدمية) ووحدات الخدمة الإدارية الحكومية في سائرٍ المرافقِ والمؤسساتِ التي تبقى تحت المظلة الحكومية. وما أريد توضيحه هو أننا لو تصورنا أن حياةَ الإنسانِ تتكون من ثلاثِ مراحلٍ زمنيةٍ (شبة متساوية المدد) فإن المرحلةَ الأولى تكون تحت مظلةِ التعليمِ والمرحلة الثانية تكون تحت مظلة الإدارةِ والمرحلة الثالثة تكون مرحلة التقاعد أو العمل الخاص. ولا شك أن المرحلةَ الأولى تسلم "الإنسان" (كمُنْتِجِ – بضم الميم وتسكين النون وكسر التاء وكسر الجيم بالتنوين) للمرحلة الثانية حيث يكون الإنسان هو أساس أي نشاطٍ عمليٍّ (اقتصادي أو حكومي) . ويعني هذا أن المرحلةَ الأولى تقوم بتشكيلِ الإنسانِ لحسابِ المرحلة الثانية. ويعني ذلك أن المرحلةَ الثانيةِ تتسلم الإنسانَ بعد أن يكون قد تم تشكيله وتكوينه خلال المرحلة الأولى بناءً على معطياتٍ كثيرةٍ ومكوناتٍ عديدةٍ وعديدٍ من المفرداتِ . وهكذا تتضح الصلةُ الوثيقةُ بين الإدارةِ (أي قياداتِ العملِ) وبين التعليم، فالإنسانُ الذي يصل لمؤسساتِ العمل خلال النصف الأول من العقد الثاني من عمره يكون مثل بناءٍ قد تشكل بكيفيةٍ معينةٍ خلال عددٍ كبيرٍ من السنواتِ السابقة. فإذا كان ذلك كذلك، فإن التعليمَ تكون له انعكاسات على الإنسان خلال حقبة العمل في حياته لا يمكن إنكارها أو التقليل من أهميتها.

 

والرسالة هنا أن (التعليم) ما هو إلاِّ أهمُ أداةٍ من أدواتِ تكوينِ الإنسان لخوضِ غمار المراحلِ التاليةِ من عمرِه – وعليه فإن ما يغرز ( ويغرس) في الإنسان من قيمٍ ومهاراتٍ وإمكاناتٍ وقدراتٍ وتوجهاتٍ وطرقٍ للعملِ والتفكيرِ والابتكارِ والخلقِ والتعاونِ خلال المرحلة الأولى هو ما يترجم خلال المرحلة الثانية أما في شكلِ مواطنٍ إيجابيٍّ وخلاقٍ ومُنتجٍ ومُنافسٍ وبناءٍ وفي حالةِ تمثيلٍ واضحةٍ لدرجةِ التحضرِ والتمدنِ والتقدمِ العلمي والتعليمي والثقافي وإما نقيض كل ذلك بدرجاتٍ ونسبٍ مختلفةٍ .

 

وهكذا يتضح، أن التعليمَ هو حجرُ الزاويةِ في صنعِ وتكوينِ الإنسان أي في صنعِ وتكوينِ مستقبلٍ أي شعبٍ أو مجتمعٍ.

ولا شك أن هناك علاقة رئيسية بين (فلسفة الحياة والمجتمعات) في كل مرحلة من مراحل الزمان و(فلسفة التعليم) إبان تلك المرحلة. فإذا كان غرضُ المجتمعِ في مرحلةٍ معينةٍ يتمثل في تكوينِ موظفين عموميين يصلحون لمتطلباتِ ومواصفاتِ الوظيفةِ العامةِ (كما كان الشأن خلال النصف الأول من القرن العشرين) فإن التعليمَ يهدف لخدمةِ نفسِ الغرضِ. أما إذا كان المجتمعُ يتمحورُ حول العمل الاقتصادي بأشكالِه الحديثة والقائمة على المنافسة والجودة والإتقان وتعظيم القيمة المضافة للعمل (أي للإنسانِ) والتسويق بغير حدود – فإن التعليمَ يكون هو الحضانة التي تُكون إنساناً يصلح لتلك المعطيات والملامح الجديدة للحياة والتحديات المصاحبة لكل ذلك . ويعني ذلك أن "أغراض التعليم " تصبح هي " أغراض المجتمع" : فإذا كان المجتمعُ يسعى لتعظيم مزاياه وقدراته وإمكاناته في مجالاتٍ محددةٍ ، فإن التعليمَ هو الأداةُ الأولى لخدمةِ هذا الغرض أو هذه الأغراض .

 

وهكذا ، فإننا نجد أن مجموعةَ القيمِ الأساسيةِ المطلوبةِ لوجودِ قياداتٍ إداريةٍ تنفيذيةٍ عصريةٍ خلاقةٍ وفعالةٍ في المجتمعاتِ الأكثر تقدماً هي نفس مجموعة القيم الأساسية التي تشكل فلسفة التعليم بل والتوجهات الإعلامية والثقافية والفكرية والاجتماعية للمجتمع . وهذه القيم الأساسية في المجتمعات الأكثر تقدماً لا تخرج عن كونها مجموعة لا تزيد عن عشر قيم من أهمها قيمة الوقت وقيمة الجودة وقيمة الإتقان وقيمة العمل الجماعي وقيمة المنافسة وقيمة الإيمان الواسع والعميق بالقدرات التي لا حد لها للإنسان (الموارد البشرية) وقيمة الإيمان بعالمية العلم والمعرفة وعلوم الإدارة الحديثة وعلوم الموارد البشرية وعلوم التسويق . فهذه المجموعة من القيم الأساسية هي التي توجد نظام تعليمي عصري وخلاقّ وفعّال وإيجابي وهي أيضاً نفسها التي تخلق مواطناً عصرياً إيجابياً وفاعلاً ومشاركاً في نفسٍ الوقتٍ وهي أيضاً التي تخلق حياة إقتصادية ( إنتاجية وخدمية) بل وحياة عامة ومجتمع تتسم كلُها بنفسِ الصفاتِ .

ويجعلنا هذا نتسأل: هل تعمل برامجنا التعليمية بوضوحٍ وجلاءٍ تامٍ على خدمةِ هذه الأغراض أم أنها لازالت تخدم أهدافاً كانت في الماضي هي أهداف المجتمعات ولكنها لم تعد اليوم كذلك ( على الأقل في المجتمعات الأكثر تقدماً) ؟ إِن نظرةً متأنيةً لبرامجنا التعليمية سواء قبل الجامعية أو الجامعية أو خلال مراحل الدراسات العليا تظهرُ بجلاءٍ ظاهرتين أو سمتين واضحتين لبرامجنا التعليمية :

فمن جهةٍ أولى فإن هذه البرامج لا تخدم بشكلٍ واضح مجموعة القيم الأساسية التي ذكرت آنفاً أنها أساس التعليم أو التقدم الاقتصادي والتقدم المجتمعي في العصر الحالي وفي المجتمعات الأكثر تقدماً .

ومن جهة ثانية فإن برامجنا التعليمية ( وهي تنأى بنفسها عن خدمة هذه القيم الأساسية ) تتسم بطابع أُسميه (التعليم الكمي) أي التعليم الذي يظن واضعوا فلسفته أن حجم المعلومات وتكديس المعارف وازدحام البرامج التعليمية بعشراتِ المقرراتِ والمواد هو أداةُُ ناجحةُُ لتعليمٍ عصريٍّ ناجحٍ - والحقيقةُ عكس ذلك تماماً .

 

فمن المؤكد أن البرامج التعليمية الحالية على كثرة إحتشادها بالموادِ والمقرراتِ واتسامها بالتخمةِ الكميةِ لا تفرز لنا في النهايةِ المواطن المنشود سياسياً واقتصادياً وتنافسياً وثقافياً. ومن المؤكد أنها تفرز لنا مواطن متسم بالسلبية السياسية وبضعف القدرات اللازمة للعمل العصري في معظم مجالاتِ الإنتاج والخدماتِ ناهيك عن إفرازها لمواطنٍ أقل ليبرالية وأقرب لروح التزمت من روحِ قبولِ أقوى ملامح الحياة الإنسانية المعاصرة وأَعني الاختلاف والتعددية .

 

وقد يعتقد البعضُ أن هناك أدوات عديدة لاصلاح الواقع والمستقبل مثل الأدوات الاقتصادية والإعلامية والسياسية – وأَنا أُوافقُ على جدوى كل هذه الأدوات ولكنني أبقيها تحت مسمى (الأدوات الثانية) حيث يبقى التعليم بمثابة ( الأداة الأولى) لإصلاح الواقع والمستقبل من خلال قدرته على إنتاجِ مواطنٍ يتحلى بصفاتٍ وقدراتٍ تؤهله لتحقيق الغاية المرجوة للمجتمع وهي غاية ذات طبيعة خاصة تتمثل في الإزدهار والاستقرار.