المسلمون في مفترق الطرق.

 

(أ)

يهدفُ هذا المقال لأن يضع أمام القارئ المعني بأمر الإسلام السياسي حقيقة أن الجناح الأكثر تشدداً بين المتأسلمين لا يكف عن محاولةِ الإطاحةِ بكل الأجنحة الأكثر وسطية وإعتدالاً داخل عالم المتأسلمين ، ناهيك عن عداءه غير القابل للإنحسار لغير المسلمين كافة.

 

عندما هزم الإتحاد السوفيتي في أفغانستان بعد قرابة عشر سنوات من الحرب بين المجاهدين والسوفيت الذين غزو أفغانستان في أَواخر السبعينات ، تمكن الجناحُ الأكثر تشدداً على الإطلاق من تصفية باقي الأجنحة وإنتهت أفغانستان لقمةً سائغةً في فم طالبان والملا عمر.

 

وفي إيران (منذ 1979) أسفر الصراع بين المتشددين والمعتدلين بعد ربع قرن عن تقدم كبير للمتشددين وتأخر كبير للمعتدلين. وكانت آخرُ حلقات تقدم المتشددين متمثلة في فوز أحمدي نجاد بمنصب رئيس الدولة – وهو رجل بالغ التشدد انتخبه ناخبون بالغو التشدد أيضاً.

 

ولكنني أُريد اليوم أن أعطي القارئ صورة أكثر وضوحاً عن حقيقة أن الجناح الأكثر تشدداً في عوالم المتأسلمين لا يكف عن محاولة طرد وتصفية الأجنحة الأخرى المعتدلة والوسطية (والإعتدال هنا نسبي أي بالنسبة لذروة التشدد وليس بالنسبة للآراء العصرية ومفاهيم وقيم المجتمعات المتقدمة).

 

في سنة 1744 أسس رجلان هما الداعية محمد بن عبد الوهاب وقاضي الدرعية محمد بن سعود الحقبة السعودية الأولى والتي إستمرت حتى دمرها إبراهيم باشا ابن محمد علي مؤسس مصر الحديثة سنة 1819. وقد قامت الدولةُ السعودية الأولى على آراء ومفاهيم للإسلام بالغة التشدد تستبعد كل مدارس الفقه الإسلامي (مثل المذهب الحنفي والمالكي والشافعي وفقه الشيعة وأهمه فقه جعفر الصادق وسائر المذاهب الفقهية الأخرى) بإستثناء الخط الواصل ما بين الفقيه ابن حنبل والداعية محمد بن عبد الوهاب مروراً بابن تيمية وابن قيم الجوزية. وكان العداءُ للعالم الخارجي (عن نجد) من أبرز معالم هذه الحقبة. وكذلك العداء السافر المبالغ فيه لكل مظاهر التغيير عن الحياة النجدية.

 

وقد ظل الحلفُ السعودي/الوهابي خارج السلطة منذ دمر إبراهيم باشا "الدرعية" عاصمة الوهابين (1819) حتى ليلة 15 يناير 1902 عندما تمكن الأميرُ الشاب عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن سعود (بعد هروبه سراً من منفاه في الكويت وتسلسله في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر الربع الخالي) من السيطرة على الرياض – بادئاً رحلة تأسيس الدولة السعودية الثالثة. وخلال الفترة من 1819 إلى 1902 قامت دولة سعودية ثانية لفترة وجيزة انتهت بهزيمة السعوديين (وقائدهم فيصل بن سعود الجد المباشر لعبد العزيز بن سعود) في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر وتحول الحكم إلى آل الرشيد ، وإضطرار آل سعود للهجرة إلى منفاهم في الكويت.

 

وبإختصار ، فإن الأميرَ الشاب عبد العزيز بن سعود (والذي كان في السادسة والعشرين عندما استولى على الرياض بادئاً تأسيس الدولة السعودية الثالثة) شرع في توسعة نطاق دولته. وخلال السنوات من 1902 وحتى تمام استيلاءه على الحرمين الشريفين باستسلام المدينة المنورة في 5 ديسمبر 1925 كان حلم عبد العزيز بن سعود قد وصل (جغرافياً) إلى أقصى مداه. وقد شهدت السنوات من 1902 إلى 1925 العديد من الحروب والتحالفات والصراع الشرس. وخلال تلك السنوات كان عبد العزيز بن سعود يعتمد على ثلاثة أمور أساسية: على جنود متعطشين للقتال تعطشاً لا نظير له ومستعدين للموت إستعداداً يصعب مضاهاته. ثم على حكمته وحنكته وبعد نظره وقدراته نادرة التكرار. وثالثاً وأخيراً على بريطانيا التي كانت اللاعب الدولي الأول والأكبر والأقدر في هذا المكان في هذا الزمان.

 

أَما جنودُه المتعطشون للقتال بشراسة المستعدون للموت دون ذرة تردد فكانوا هم الجماعة التي عُرفت باسم "الإخوان" (وتطلق عليهم المراجع الإنجليزية العديدة تسمية The Brethren ) والذين لا يختلف المؤرخون لتلك الفترة على أن عبد العزيز بن سعود ما كان له أن يتحول من أمير لمدينة الرياض فقط يوم 15 يناير 1902 إلى سلطان نجد والحجاز (فعلياً) منذ 5 ديسمبر 1925 بدونهم وبدون تعطشهم نادر المثال للقتال وللموت في آن واحد.

 

كان "الإخوان" من أشد المسلمين كراهية للأجانب (ويسمون عندهم كلهم بالكفار) ومن أشد البشر كراهية لكل مظاهر المدنية مثل التليفون والسيارة والإذاعة بل وكانوا يعتبرون إرتداء عباءة مذهبة الأطراف بدعة وكفر ومروق عن الإسلام.

 

تركهم عبد العزيز بن سعود دون صدام معهم طيلة فترة إحتياجه لهم (حتى ديسمبر 1925). ولكن بعد أن أدرك أن حلمه لن يتجاوز ما تحقق قيد أَنمله: فبريطانيا لن تسمح له بالإستيلاء على الأركان المائية الأربعة للجزيرة العربية (الكويت ، عمان ، اليمن وما هو الآن الأردن) .. كما لن تسمح له بإسقاط عرشى الأخوين فيصل (في العراق) وعبد الله (في شرق الأردن) (ابنى آخر شريف لمكة التي تركها في سنة 1925 لتسقط في يد عبد العزيز بن سعود والوهابيين) أصبح عبد العزيز في مواجهة لا يمكن تجنبها مع "الإخوان".

 

كان الإخوان يكرهون الأجانب. وكان عبد العزيز بن سعود قد أخذ في إحاطةِ نفسهِ بالعديد من البريطانيين إدراكاً منه أن خيوط اللعبة كلها في يد بريطانيا. وكان من أقرب مستشاريه رجل المخابرات البريطانية "جون فيلبى" وكذلك الكولونيل شكسبير كما قرب إليه كثيرين مثل محمد أَسد (يهودي بولندي اعتنق الإسلام وكان مقرباً للغاية من عبد العزيز بن سعود) والكاتب اللبناني الماروني أمين الريحاني وعدد من المصريين مثل حافظ وهبه الذي أصبح سفيراً للسعودية في لندن .. وغيرهم.

 

وقد شعر "الإخوان" أن في وجود هؤلاء على أرض الجزيرة إهانة للإسلام (وهو ما كرره اسامة بن لادن بعد ذلك بعقود). كذلك شعر الإخوان بالحنق من قرار عبد العزيز بن سعود بإيقاف القتال. فهم (حسب مذهبهم) لا يعرفون لنهاية القتال وقتاً قبل إدخال كل أهل الأرض في الإسلام.

 

وثالثاً ، شعر الإخوان بالذهول عندما قال كبارُهم أن عبد العزيز قد تغيّر ، فقد تحرك (في سنة 1925) من الرياض إلى مكة على ظهر جمل ، وعاد من مكة إلى الرياض بعد استيلاءه على المدينتين المقدستين في سيارة – وهي بدعة لا يمكن للإخوان قبولها.

 

وبدأت المشاحناتُ بتمزيق "الإخوان" لخطوط الهاتف وتكفيرهم لوجود الأجانب (الكفار!) على أرض الجزيرة وحربهم ضد التليفون والسيارة والكهرباء ثم الراديو (الذي كانوا على يقين أن الشيطان يسكنه).

 

وهكذا ، أصبح من المحتم على عبد العزيز منذ أوائل 1926 وبعد أن أصبح سلطاناً لنجد والحجاز أن يدخل في مواجهة مع الذين كان منذ سنوات يقول أنهم أبناؤه وجنده. وتصاعدت المواجهةُ إلى حرب وقتال انتهى بإنتصار قوات عبد العزيز بن سعود وهزيمة الإخوان بقيادة فيصل الدويش (مع نهاية عشرينيات القرن العشرين).

 

ولكن نظراً لأن الحلف القديم (حلف 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود) كان سارياً في كل أنحاء جسد الدولة السعودية الثالثة ، فإن "عقلية الإخوان" لم تنته بهزيمة قواتهم بقيادة فيصل الدويش أمام قوات عبد العزيز بن سعود. وإنما تحولت إلى تيارين:

 

•  تيار مهادن على السطح وموجود داخل النظام (يذكر Robert Lacey في كتابه الهام – بإلإنجليزية – "المملكة – العربية وبيت سعود" أن أحفاد محمد بن عبد الوهاب الذين أصبح لقبهم "آل الشيخ" والذين يمثلون أحد أربع عائلات تحكم المملكة يحتكرون مناصب وزير التعليم العالي ووزير العدل ووزير الحج ووزير الزراعة إلى جانب وزارات أخرى ومناصب عليا محجوزة لهم في الشرطة والجيش).

•  تيار لم يتنازل عن "ذرة" من ذهنية الإخوان الذين حاربهم عبد العزيز بن سعود وهزمهم مع نهاية عشرينيات القرن العشرين. وهؤلاء أصبحوا حركة سرية أو حركة من حركات تحت الأرض. وظلت هذه الحركة تبرز من حين لآخر. ومن أمثلة بروزها معارضتها لإفتتاح ثانويات للبنات معارضة انتهت بقتل الشرطة لأحدهم في ستينيات القرن العشرين وكان ابن أخ الملك الذي كان يحكم وقتها (فيصل). وقد قام شقيق القتيل بعد عشر سنوات بقتل عمه الملك فيصل (في 1975).

 

وكانت أكبر أمثلة ظهور هذا التيار كانت في مرتين:

 

•  الأولى: عندما استولى رجال من أفراد هذا التيار على الحرم المكي (الكعبة) مع بداية القرن الهجري الخامس عشر (منذ ربع قرن) واستمروا في قتال مع القوات السعودية المدعومة بالقوات الفرنسية لفترة غير وجيزة.

•  والثانية: عندما تكون من هؤلاء (ثم من آخرين من بلدان إسلامية أخرى) تيار المجاهدين في أفغانستان والذي عاد بعد ذلك ليكفر الدولة السعودية لسماحها لقوات كافرة بالتواجد على ترابها عقب غزو صدام حسين للعراق (2 أغسطس 1990).

 

وقد اندمجت ذهنية هؤلاء مع فكرة الحاكمية الوافدة من مصر (القطبية كما يسميها الدارسون الغربيون اليوم) وكونوا معاً ما يعرفه العالم اليوم بالقاعدة.

 

والرسالة التي آمل إيصالها لذهن القارئ هي أننا أمام فصيل داخل عالم المسلمين المعاصر لا يعود فقط لإتفاق سنة 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود (وإن كان هذا الإتفاق هو بداية المرحلة الحالية لهذا الفصيل) وإنما وجد من البداية (الحركات السرية في الإسلام – مثل القرامطة الذين خطفوا الحجر الأسود وغيرهم ممن كتب عنهم بابداع صديقي المؤرخ الكبير الدكتور محمود اسماعيل عبد الرزاق). ولكن هذا الفصيل كان دائماً فصيلاً هامشياً يوجد نظيره في كل الأديان. ولكن هذا الفصيل وجد خلال نصف القرن الأخير اسباباً أغرته بأن يتقدم الصفوف ويقدم نفسه وكأنه (الإسلام). وكانت أهم هذه الأسباب هي:

 

•  تدهور كافة مستويات المجتمعات المسلمة صاحبة التاريخ الطويل من تقديم الإسلام الوسطي المعتدل مثل مصر وسوريا والعراق والمغرب - وقد شمل التدهور كل جوانب الحياة من سياسية إلى إقتصادية إلى إجتماعية إلى ثقافية إلى تعليمية كما شمل التدهور المؤسسات الإسلامية بهذه المجتمعات.

•  جريمة استعمال الولايات المتحدة لهذا الفصيل في ظل ظروف الحرب الباردة في أكثر من مكان (من اليمن في ستينيات القرن العشرين إلى أفغانستان بعد ذلك بعشرين سنة).

•  ثم ثالثاً: سطوة البترودولار والتي مكنت هذا الفصيل من نشر ذهنيته وتسويقها في سائر أرجاء العالم من خلال إنشاء المراكز والمعاهد والمدارس الإسلامية ومن خلال المطبوعات وشراء الإعلام والكثير من المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية.

وأخيراً .. فماذا نحن فاعلون لوضع الأمور في نصابها .. والدفاع عن إسلام قدمناه (أي المجتمعات الإسلامية ذات الماضي الحضاري في مصر وسوريا والعراق والمغرب) لقرون كان خلالها يتسم بالإعتدال والوسطية والتعايش مع الآخرين؟ وهذا حديث آخر لمقال مطول آخر.

 

 

 

 

(ب)

"الإسلامُ" هو أحد أقوى المؤثرات على "ثقافة" و"عقل" و"طرائق حياة وتفكير وآراء وردود أفعال" عدد كبير من المسلمين.. ولكن يبقى السؤال المهم هو: ما المقصود بالإسلام؟

 

• ¨ النصوص؟

• ¨ أم فهم الناس للنصوص؟

• ¨ الفقه الإسلامي؟

• ¨ وأي مدرسة من مدارس الفقه الإسلامي؟

• ¨ التجربة التاريخية؟

• ¨ وأية تجربة من التجارب التاريخية؟

• ¨ ويضاف أيضاً: وأي إسلام؟

• ¨ الإسلام حسب فهم الأمويين؟ .. أم العباسيين؟

• ¨ الفقه الإسلامي حسب فهم أبي حنيفة أم حسب فهم مالك أم حسب فهم الشافعي أم حسب فهم ابن حنبل ورجاله (ومنهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن الدعاة محمد بن عبد الوهاب)؟ .. أم الفقه الإسلامي حسب فقه الإمامية (وأبرزه فقه جعفر الصادق) أم حسب فقه الخوارج (بفرقهم الأربع وأهمهم الخوارج الإباضية)؟

 

وهل التجربة التاريخية الإسلامية واحدة؟ .. أم أن ما كان في دمشق الأموية يختلف كثيراً عما كان في بغداد العباسية؟ .. وكلاهما جل مختلف عن تجربة تاريخية أخرى في الأندلس شهدت تآخٍ فريد بين المسلمين واليهود وكان من أكبر عقول تلك الحقبة مسلم عظيم هو ابن رشد ويهودي عظيم هو موسى بن ميمون؟

 

الحقيقة ، أن النصوص في حد ذاتها لا تدل على كثير بدون "نوعية" و"عقل" و"آفاق" الإنسان الذي يتعامل معها. فابن رشد يتعامل مع النصوص بطرائق جد مختلفة عن طرائق تعامل ابن تيمية والمودودي وسيد قطب معها.

 

ومجرد التعويل على نص دون آخر ، أداة هدم يمكن أن يستعملها الآخرون. فأنا كدارس للتوراة والتلمود (ولاسيما التلمود البابلي "الجمارة") ، لا أسمح لنفسي بأن أقف عند كلمات قالها يشوع بن نون في موقف معين ذي إطار تاريخي وزمني ومكاني محدد. ولا أستطيع أن أتخذ من "الصداق" (المهر) الذي طلبه الملك شاؤول من داود بن يسي البيتلحمي (الملك داود عند اليهود والنبي داود عند المسلمين) ليزوجه من ابنته ميكال دليلاً على شئ في غير إطاره التاريخي ، بمعنى أنني لا أستطيع أن أقتطفُ نصاً أو نصوصاً كهذه وأعدو بعيداً مشهراً بها على الآخرين بمعزل عن الإطار التاريخي والإنساني والمرحلي للنص.

 

وبإختصار ، فإنه من المؤكد أنه ليس هناك فهم واحد للإسلام ، وإنما عشرات الأشكال والأنواع. فهناك من يرفض معظم الأحاديث النبوية ولا يقبل منها إلاِّ عشرات (مثل أبى حنيفة النعمان) وهناك من يقبل في كتابه "المسند" عشرات الآلاف (أحمد بن حنبل).

 

وهناك من يعتمد مصادراً للفقه غير مصادر غيره (الإستحسان عند الحنيفة والمصالح المرسلة عند المالكية .. إلخ).

 

وهناك من يتجاوز الآفاق الضيقة للتفسير ويفتح بوابات العقل على ما يسميه "التأويل" (ابن رشد).

 

وهناك من يسمي عقوبة شرب الخمر (حد الشرب) مثل معظم الفقهاء. بينما هناك من يسميه (حد السكر) مثل أَبي حنيفة القائل عن الخمر (لو أَلقوني في النار ما شربتها .. ولو أَلقوني في النار ما قلت أنها حرام).

 

وإلى جانب كل تلك التوجهات والمذاهب والفرق – ، هناك متشددون من اليوم الأول وحتى هذه اللحظة: من حمدان بن قرمط الذي خطف الحجر الأسود من الكعبة إلى سكّان كهوف وزيرستان ومروراً بسيد قطب الذي قدم للمسلمين نظرية ستبقى سوراً يفصلهم عن الإنسانية والتقدم حتى يهدم هذا السور ، وأعني "نظرية الحاكمية" والتي فحواها أن البشر لا يحكمون البشر وإنما يحكمهم الله (ويبقى السؤال التراجيدي: ومن سيقول لنا على أحكام الله؟ .. والجواب: "نحن العلماء"!! وهكذا ، نكون سجناء لثيوقراطية تجاوزتها مسيرة التقدم الإنساني ونكون أصحاب أكبر طبقة رجال دين بعد أن كررنا مراراً (أنه ليس في الإسلام طبقة رجال دين) ناهيك عن مأساة (وملهاة) تسمية رجال الدين بالعلماء! (أحد هؤلاء العلماء قال منذ أسابيع (أي في صيف 2005) رداً عن سؤال: "من هو Bill Gates – قال: "لا أعرف .. وليس من المهم أن أعرف" (وهي إجابة تلخص العزلة والإنفصال عن الإنسانية ومسيرة التمدن).

 

إن النصوص الإسلامية تحتمل كل التفسيرات. وقد قالها أوائل المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة عندما كرروا (القرآن حمّال وجوه). والعبرة ليست بالنص (أي نص) وإنما بمن يقرأ ويفهم ويقدم النص.

 

وقد شهد المسلمون مجتمعات تسامح رائعة (خارج الجزيرة العربية) في مصر وسوريا والأندلس والمغرب العربي. وكما يقول برنارد لويس ، فإن اليهود لعبوا أعظم أدوارهم في التاريخ مرتين:

 

• ¨ مرة في ظل المسلمين (قديماً).

• ¨ ومرة في ظل المسيحيين (حالياً).

 

لقد وجد دائماً أمثال المودودي وسيد قطب وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومصعب الزرقاوي في التاريخ الإسلامي ولكنهم كانوا أقليةً.

 

والمشكلة اليوم ، أن دائرة الأقلية إتسعت وأصبح لها من المؤيدين والمتعاطفين أعداداً هائلة.

 

لماذا ؟

 

لأن مجتمعات الإسلام القابل للحياة مع البشرية (مصر وسوريا والمغرب العربي قديماً) قد تدهورت مستوياتُها تدهوراً كبيراً (سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وتعليمياً) في ظل الإستبداد والفساد والطغيان ، حتى إنفتحت جبهاتها واسعة (مستسلمة) أمام التيار الوافد من نجد والذي أصبح سبيكة من الروح النجدية البدوية المتعصبة التي أنجبت "الإخوان" (السعوديين) الذين حاربوا الملك عبد العزيز بن سعود (1870/1953) في عشرينيات القرن العشرين الذهنية القطبية ، مع أموال البترول ، مع أخطاء دولية بلا حساب كما حدث في أفغانستان في آواخر السبعينيات وكما حدث في مصر عندما أحاط رعاة الإخوان المسلمين الكبار ممثلين في أكثر رجال الأعمال وقتئذ ثراءً بأنور السادات وجعلوه يلعب بالشيطان أي يطلق العنان للجماعات الإسلامية في كل مكان ليحاربوا له (ونيابة عنه) التيار اليساري.

وهكذا: وجد العالم نفسه بعد القضاء على الفاشية والنازية ، ثم القضاء على الشيوعية أمام مجابهة جديدة نجمت عن إنتقال مقعد القيادة في عالم المسلمين من التيار الوسطي المعتدل (المصري والسوري والتركي والمغربي قبل قرن من الزمان) إلى سبيكة الوهابية/القطبية/البترودولارية الجديدة التي لا يمكن أن تنخرط في مسيرة الإنسانية والتقدم والتمدن كلاعب ضمن آخرين.

 

وهذا المقال هو الثاني في سلسلة فصول تتعامل كلها مع مسببات تحول التيار الأصلي في الإسلام Main Stream Islam من الوسطية المعتدلة إلى الإسلام السياسي المحارب المقاطع للآخر بل وغير المتوقف عن الحرب معه والداعي بعودة المجتمعات الإسلامية لظلام القرون الوسطى بما فيها من استبداد وطغيان ودموية ومكانة سفلى للمرأة وغير المسلمين.

 

(ج)

منذ قرنِه الأول عرف الإسلامُ مجموعاتٍ متطرفة بمحاذاةِ تيارٍ عامٍ متوسط وبعيد عن العنفِ والتطرفِ وأُحاديةِ النظرة وإحتكار الحقيقة. فمنذ سنة 660 ميلادية (منتصف القرن الهجري الأول) برزت فرقةُ الخوارج والتي إتسمت بالغلو الشديد في التمسكِ بفهمها للإسلامِ وتكفيرِ من يحيد عن فهمهم هذا. وفي القرونِ التاليةِ ظل الإسلامُ يعرف تياراً عاماً وسطياً (معتدلاً) وتيارات جانبية بالغة التطرف والعنف. وقد أعطى الدكتور محمود إسماعيل عبد الرزاق حياته العلمية وجهده العقلي الفذ لدراسةِ هذه المجموعات المتشددة والتي أطلق عليها تسمية "الحركات السرية في الإسلام" وكتب عن فرقها بحوثاً بالغة العمق وخص مجموعةً منهم بدراسةٍ معمقة وهم القرامطة الذين قاموا بخطف الحجر الأسود وأخذوه لموقعٍ بعيدٍ في شرق الجزيرة العربية لأكثر من قرنٍ من الزمان. وإلى جانب التيارات التي كانت تُغالي في التطرفِ والحرفية وإيجاد قواعدٍ تفصيليةٍ لكل أُمورِ الحياة، كان هناك التيار العام والذي يمكن تلخيصه في المذاهب السنية الرئيسية (وأهمها مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد بن حنبل ومذاهب أخرى اندثرت مثل مذهب الليث ومذهب الطبري) وكذلك المذاهب الشيعية العديدة (وأشهرها الإمامية). وداخل التيار العام كان هناك من يفسح مجالاً للعقل (الرأي) مثل أبي حنيفة الذي لم يقبل من الأحاديث النبوية إلاَّ أقل من الأحاديث الواردة بصفحة واحدة من صحيح البخاري - وهو ما يفسح المجال للرأي. وفي المقابل كان هناك مذهب أحمد بن حنبل الذي يضم كتابه (المسند) أكثر من عشرة آلاف حديث ؛ وهو ما لم يترك شيئاً بدون تنظيم وهو ما يجعل النقل هو السائد والعقل هو الغائب. ولتيار أَحمد بن حنبل ينتمي فقيهان آخران هما ابن تيمية وابن قيم الجوزية وهما مثل أَحمد بن حنبل لا يتركون مساحة تذكر للعقل والرأي وإنما لديهم أحاديث تنظم شتى جوانب الدين والدنيا بكلِ تفاصيلِها. ويضاف لذلك أن العقلَ الإسلامي واجه ما يشبه المعركة بين أبي حامد الغزالي والذي لا يؤمن بأن العقلَ قادرٌ على إدراك الحقائق وبين ابن رشد أكثر مفكري العرب إعلاءً لشأن العقل ؛ وهو ما يتضح من التناقض الواضح بين آراء الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وآراء ابن رشد في كتابه الفذ (تهافت التهافت). والخلاصة أنه في عالم الفقه (وهو عمل بشري محض) فقد كان التوسع للمدراس التي تحبذ قبول آلاف الأحاديث عن إِعمال الرأي؛ وبمحاذاة ذلك ففي عالم الفكر ( علم الكلام بلغةِ العرب في ذلك الزمان والفلسفة بلغةِ العصر) فقد كانت أيضاً الغلبة لمدارس النقل والحدس (الغزالي) وقلة أثر مدرسة العقل (ابن رشد) (وإن كان الأوروبيون هم الذين إستفادوا من طروحات ابن رشد).

 

وكنتيجةٍ لتلك الصورة العامة فقد عرف المسلمون نمطين لفهم الإسلام: نمط متشدد شديد الغلو في التحريم والتجريم والتنظيم ، ولم يكن هذا النمط موجوداً إلاَّ في الفرق السرية (وهى قليلة في عِددها وأثِرها) وفي المناطق البدوية بالجزيرة العربية. أما الأماكن الأكثر إزدهاراً عقلياً وذات الجذور الحضارية العريقة مثل مصر والعراق وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع فقد ساد فيها فهم للإسلام يتسم بدرجة عالية من المرونِة والتسامحِ وقبولِ الآخر وعدم تكفير أصحاب الرؤى المختلفة.

 

وهكذا فإنه يمكن القول أنه حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي كان هناك فهمان للإسلام : فهم متطرف متشدد يكثر التحريم ووضع القواعد التفصيلية لكلِ أمورِ الدين والدنيا ...وهو الفهم الصحراوي البدوي الذي ساد في مجتمعاتِ كثبان الرمال بشرق الجزيرة العربية. أما الفهمُ الثاني المتسم بالتسامح والمرونة والقبول النسبي للآخر وعدم وضع قواعد تنظيمية تفصيلية لكل أمور الدين والدنيا فهو ما أُسميه بالفهم المصري/التركي/السوري للإسلام والذي شاع في معظم المجتمعات الإسلامية خارج كثبان الجزيرة العربية.

 

كان ذلك هو وضع عالم المسلمين حتى ولد بصحراء نجد في سنة 1703 محمد بن عبد الوهاب وهو الرجل الذي صارت الأمور في نجد على هواه بعد ذلك ؛ فحدث في عام 1744 حلف بينه (وعائلته) وبين محمد بن سعود قاضي الدرعية (وأهله أيضاً) وهو الحلف الذي يقوم على أن يحكم آل سعود وفق فتاوى آل الشيخ (محمد بن عبد الوهاب وعائلته أي الوهابيين). وهو الحلف الذي أدى لما يمكن أن نسميه الدولة السعودية الأولى والتي سيطرت منذ سنة 1804 على ما يقرب من مليون ميل مربع في الجزيرة العربية حتى استأصل شأفتها وسحقها إبراهيم ابن محمد علي الكبير في سنة 1819 وهو عام تدمير الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.

 

ويمكن القول أن قرارَ محمد علي بإرسال إبنه طوسون لتدمير الدولة السعودية الأولى ثم عهده بهذه المهمة لأبنه إبراهيم المعروف بكفاءته الحربية الهائلة هو قرار له دلالة بالغة الأهمية: إذ يمكن القول أن الفهم المصري/التركي/السوري للإسلامِ قرر أن يذهب إلى الفهم الإسلامي الوهابي بالغ التطرف في معقله وتدميره – قرار ثقافي وحضاري هو قبل أن يكون قراراً سياسياً أو عسكرياً. إن محمد على الذي كان مولعاً بالنهضة الأوروبية كان لا يرى أي تعارضٍ بين آلياتِ النهضةِ الأوروبية وكونه مسلماً – كما أنه كان يرى التعارض (كل التعارض) بين الفهم الصحراوي الوهابي للإسلام وحدوث النهضة التي كان عقله وفكره منشغلاً بها منذ تولي حكم مصر سنة 1805.

 

المهم : عاد الوهابيون بشكلٍ مستترٍ للتأثير في الحياةِ السياسيةِ في شرقِ الجزيرة العربية بعد سنواتٍ مما فعله بهم إبراهيم باشا (إذ ألقى القبض على كبيرهم وأرسل به إلى مصر ومن مصر إلى أسطنبول حيث لقي حتفه). عاد الوهابيون (خفية) لممارسة شئون السياسة مقاسمة مع آل الرشيد : السعوديون في الرياض وآل الرشيد في حائل حتى اصطدم الفريقان (آل سعود وآل الرشيد) وإنهزم السعوديون في سنة 1891 ؛ ورحل الأمير المهزوم بأقطاب البيت السعودي إلى الكويت حيث كانوا في ضيافة الشيخ مبارك الصباح والذي لعب دوراً كبيراً في توجيه الشاب الصغير (عبد العزيز) ابن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود – وكان عبد العزيز قد ولد في سنة 1876 وإختمرت فكرة العودة للرياض في ذهنه بتأثيرٍ من عواملٍ عديدةٍ من بينها جلساته مع كبير الكويت الشيخ مبارك الصباح.

 

وفي يناير 1902 استولى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على الرياض (وساعدته أختٌ له كانت زوجة لأحد كبراء آل الرشيد) مستهلاً رحلةً طويلة لتوسعِة دائرة نفوذه وسلطانه وهي الرحلة التي انتهت في سنة 1925 بإستيلائه أولاً على مكة ثم في الشهر الأخير من السنة (ديسمبر) على المدينة المنورة.

 

في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين تكونت المملكةُ العربية السعودية في ظل نفوذ طاغي للمذهب الوهابي وفي نفس السنوات اكتشف البترول في السعودية بكمياتٍ هائلةٍ. وهكذا أصبح بوسع الفهم الوهابي للإسلام أن يستعين بثروةٍ هائلةٍ لدعم نموذجه.

 

وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية وإكتشاف البترول كانت أشياءٌ كثيرةٌ في الدنيا قد تغيرت:

 

•  أولاً : تحققت ثروة هائلة سمحت بالإنفاق ببذخٍ على الفهم الوهابي للإسلام في الداخل والخارج. وهو ما أدى لحدوث تأثيراتٍ لا تنكر على فهمِ الكثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام ؛ إذ إقتربت عقولُ العديدين منهم لنموذج الفهم الوهابي للإسلام.

•  ثانياً : تعرضت مصرُ لتراجعٍ كبيرٍ في كل مستوياتها منذ الستينيات بما في ذلك تراجع مُناخها الثقافي العام وتغلغل النفوذ الوهابي داخل مؤسسة الأزهر العريقة ؛ ثم جاءت هزيمةُ يونيه 1967 لتفتح المجال واسعاً أمام المجموعات المتأثرة في مصرَ بالفهم الوهابي للإسلام لكي تتحول إلى تياراتٍ سياسيةٍ نشطة ذات توجهات متشددة بل ومتطرفة بل وحاملة للمدفع والبندقية.

•  ثالثاً : إرتكب الغربُ بوجهٍ عام والولاياتُ المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص أخطاءاً عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها غض النظر عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام في العالم العربي والإسلامي والتعامل مع تياراتٍ تنتمي للفهم الوهابي للإسلام بغرضِ تحقيق أهدافٍ محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان.

 

وعندما إغتالت مجموعةٌ متطرفةٌ الرئيس أنور السادات كان ذلك من أكبر دلالات إنتشارِ نموذج الفهم الوهابي للإسلام وبنفس القدر تراجع الفهم المصري/التركي/السوري للإسلام. ثم توالت أحداثٌ مماثلة تكرر الدليل بعد الدليل على أن الفهمَ الوهابي للإسلام أصبح متسعاً ومنتشراً ومؤثراً في معظمِ المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من نيجيريا إلى الجزائر إلى مصر إلى الجزيرة العربية إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا.

 

 

وفي صباح 11 سبتمبر 2001 قام مجموعةٌ من المنتمين للفهمِ الوهابي للإسلام بهجماتهم في نيويورك وفيرجينيا وغيرهما في أعمالٍ تمثل موقف الفهم الوهابي للإسلام من الآخر بوجهٍ عام ومن الحضارةِ الغربيةِ بوجهٍ خاص.

 

وإذا كان من السهل على أي مواطن أوروبي أو أمريكي غير متعمق في تفاصيل ما جاء بهذا المقال أن يظن أن الإسلامَ والعنفَ والإرهابَ هي أمورٌ ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهماً محدداً للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل إنهمار الثروة البترولية قد أصبح في ظل ظروف شرحتها في فقرة سابقة من هذا المقال قادراً على أن يجعل ( بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام) ، والحقيقة أنه فهمٌ ضيقٌ وصغيرٌ ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية ، وأن ملايين المسلمين في مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لا يزالون بعيدين كل البعد عن حدةِ وتشددِ وتطرفِ وعنفِ ودمويةِ هذا المذهب الصغير في قيمته الفكرية والذي لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية والأهم "على الإسلام والمسلمين" ، وأعني هنا المسلمين الذين عرفهم العالم في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة – ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعلِ حكامٍ طغاةٍ مستبدين (وفاسدين) في ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسةً سهلةً للفهمِ الوهابي للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.

 

إن أي حديثٍ عن المسلمين والعنف والتشدد والتطرف يتجاهل تلك النظرة التفصيلية لفهم بالغ التطرف للإسلام وفهم آخر رحب وإنساني ومتسامح هو حديث ليس سطحياً فقط وإنما يمكن أن يقود لقراراتٍ أُخرى خاطئة مثل قرارات إغماض العيون عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام منذ خمسينيات القرن العشرين ومثل خطيئة التعامل مع تيارات تنتمي لهذا الفهم في أماكنٍ عديدةٍ من العالم مثل أفغانستان منذ 1979 .

 

ولست بحاجةٍ لأن أُلفت إنتباه القارئ إلى أن وجودَ نصوصٍ في القرآن يمكن أن تستعمل كدليلٍ على عنفِ الإسلام هو أمرٌ لا أهمية له : إذ أن هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروفٍ وملابساتٍ معينةٍ ، فالعبرةُ ليست بالنص وإنما بالعقل الذي يتعامل مع النص . كذلك فإن هناك نصوصاً قرآنية أخرى عديدة تدعوا لنقيض العنف والعدوان على المختلفين ديناً ومذهباً بل وتحض على التعامل معهم بعدلٍ وإنسانيةٍ . كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين على الجانبِ الآخرِ أن يقولوا أن في أسفار التوراة بوجه عام وفي سفر يشوع بن نون بوجهٍ خاص ما يحض أيضاً على العنفِ والدمِ – وهو ما لا ينبغي أن تتجه إليه الجهود – لأننا سنكون بصدد عملية هدم لا بناء. إن المهمةَ السامية في هذا المجال هي مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنساني للإسلام والذي كان هو دائماً "الأغلبية" ومقاومة الفهم المتطرف الذي أنتجته (وهذا أمر طبيعي) العزلةُ وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية وإختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانياً ومتسامحاً وإيجابياً. وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف الذي بدأ سنة 1744 لم يعد من الممكن له أبداً أن يستمر. فهو حلف يرسخ فكراً ظلامياً متطرفاً معادياً للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهي التعددية. ورغم معرفتي بموقف ابن تيمية من الصوفية ، فإنني أملك جسارة أن أقول للسعوديين ، أن إستقرار بلدكم مرهون بالتخلي عن الحلف مع الوهابيين ، وتغيير المرجعية من مذهب ابن حنبل في صيغته الآتية من ابن تيمية إلى المذهب الحنفي أو الشافعي ، ثم أخيراً فتحكم الأبواب أمام الصوفيين المسلمين – فهم الوجه الراقي القادر على إنقاذ المركب من الغرق.

 

إن ولعي بقراءة أمهات علم أصول الفقه والذي أخذني (بعد إلمام واسع بالمذاهب السنية الأربعة المشهورة) لعوالم أخرى مثل مذاهبِ الفقه الشيعي ولسائرِ مذاهبِ فقه الخوارج بفرقهم الأربع الرئيسية (وأهمها فقه الإباضية) ومدارسٍ أُخرى في الفقه إندثرت (مثل فقه الطبري وفقه الليث). ثم التوغلُ في دراسِة "علم الكلام" (أو الفلسفة الإسلامية) – إذْ أَوغلتُ في مطالعةٍ متأنيةٍ لما أبقاه الزمنُ من آثارِ المعتزلِة والأشاعرِة .. وأوليت إهتماماً كبيراً بما يُسمى بالفرقِ الباطنيةِ في التاريخ الإسلامي. وخلال رحلةٍ فكريةٍ طويلةٍ تكوّن لدي نفورٌ قويٌ من الذين أُسميهم "عبدة الحرف" و "أسرى النقل" ؛ كما تكون لدي ولعٌ شديدٌ بأصحابِ العقلِ وفي مقدمتهم "إبن رشد" الذي إستفادت منه أوروبا وخسرناه نحن (وخسرنا معه فرصةً تاريخيةً للتقدمِ). ورغم مطالعتي المدققة لكلِ آثارِ ابن تيمية وأعلام مدرسته (من ابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي) – فلم تزدن تلك المطالعةُ إِلاَّ نفوراً من هذا التيارِ الكاسحِ وفي نفسِ الوقتِ زاد ولعي من جهةٍ بالمعتزلةِ ومن جهةٍ أُخرى بمن قطعوا رحلةً طويلةً على "دربِ العقلِ" مثل ابن سينا والفاربي … ثم بإمامِ أهلِ العقلِ قاطبةً "ابن رشد" – وأصبحت على يقين أن "التأويل" (بتعريف ابن رشد) هو المنقذ من حالة تيبس الإجتهاد.

 

وعندما كنتُ أعكف على مطالعة أَعمالٍ للغزالي مثل (إحياء علوم الدين) و(معيار العلم) و(معيار العمل) و(المنقذ من الضلال) و (المستصفى من علم الأصول) و (تهافت الفلاسفة) وأُقارن قدر ما بها من "بُعد عن العقل" وما بكتابات ابن رشد من "ثقل عقلاني هائل" كنت أُذهلُ: كيف نالت كتاباتُ "الغزالي" كل هذا التقدير(المبالغ فيه إلى أبعد الحدود) وكيف نالت كتابات "ابن رشد" كل هذا التجاهل (المبالغ فيه إلي أبعد الحدود): ويكفي أَن يعكف قارئٌ جادٌ على مطالعةِ كتابِ (تهافت الفلاسفة) للغزالي ثم يعقب ذلك بمطالعته لكتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ليرى البونَ الشاسع في العمقِ وإِعمالِ العقلِ. كذلك ما أكثر ما تساءلت: كيف أخفى مؤرخو الفكر الإسلامي مواقفَ الغزالي المؤيدة للحكام المستبدين بشكلٍ مفرطٍ؟ … وفي المقابل: فقد كان "ابنُ رشد" مصدرَ ألمٍ دائمٍ للحكامِ المستبدين الراغبين في (تنويم العقول) لأن في ذلك الضمانة الكبرى لأمرين: بقاء الأَحوال على ما هي عليه ثم بعدهم عن المسائلةِ، فالعقلُ هو مصدر الأسئلة، والأسئلة تؤدي للمساءلة، وكما يردد صديقٌ من المفكرين المستنيرين: فإن الأسئلة مبصرةٌ – والأجوبة عمياءٌ !

 

وأكررُ أنه كثيراً ما شغلني هذا السؤَالُ :لماذا إنتصرَ المسلمون للغزالي (وهو يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعلم عنده إلاَّ العلم بالدين ويفتح المجالَ أمام إلغاء العقل كليةً بإنكاره إمكان تحصيل المعرفة (أو إدراكها) بالحواس في مواجهةِ ابن رشد (وهو العامر بنورِ العقلِ والزارع لكلِ بذورِ نهضةٍ خسرناها)؟ … ما الذي سهَّل للغزالي هذا الإنتشار، وصعّب على ابن رشد مثله؟ .. إن العلامةَ الفارقَة هي (الإستبداد). فكيف يمكن لحكامِ المسلمين في زمنِ الغزالي وابن رشد أن يروق لهم فكرٌ إلاَّ فكر الغزالي؟ وكيف لأوروبا التي كانت تحارب معركتها العقلية مع الكهنوت أن تنتصر لأحدٍ كما إنتصرت كليةُ الآداب بجامعةِ باريس في القرن الثالث عشر لأفكارِ ابن رشد؟ … لقد كان الإستبدادُ في عالِمنا سائراً نحو ذروته – فكان الإعجابُ بكتاباتِ من وصل لحدِ إلغاءِ دورِ العقلِ هو الإختيار الواقعي الأمثل. وكان الإستبدادُ في أوروبا قد بدأ يترنح، لذلك فإن قوى التنوير قد نصرت ابن رشد العربي المسلم على توماس الأكويني الأوروبي المسيحي (صاحب نظرية السيفين).

 

وهكذا يتضح أن " الإستبدادَ" و "الآراءَ المتشددة" و" طغيانَ رجالِ الدين" و "الدعوةَ للحدِ من إستعمالِ العقلِ والإسراف في النقلِ" هي كُلها مجموعة من الأشقاء المتماثلين في ملامِحهم ومادِتهم الخامِ التي صُنعوا منها كما أَنهم متماثلون في الغاياتِ. ومع ذلك، فإن الأمورَ ليست كلها أما "سوداء" أو "بيضاء" : فرغم أن المسلمين لم يتح لهم أن يستثمروا فكر إبن رشد بالكيفيةِ المُثلى والتي كانت قمينةً في إعتقادي بجعلِ المسلمين على طريقٍ تشبه الطريق التي سارت عليها أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى بلغت ما بلغت من رقى في الفكرِ والحرياتِ العامةِ والإبداعِ والآدابِ والفنونِ والعلومِ، إِلاَّ أن المسلمين عرفوا (بنوعٍ نسبيٍّ من التعميم) "إسلامين" : إسلام يمكن وصفه بالإسلام التركي/المصري وإسلام يمكن وصفه بإسلام البداوة. أما الأول، فلا أملك أن أصفه بأنه كان مشبعاً بدرجةِ النورِ والتقدمِ والحريةِ التي كانت في فكرِ ابن رشد، ولكنه كان إسلاماً وديعاً قابلاً للتعايشِ مع الآخرين، بل ووفر للآخرين في ظلِ الدولةِ العثمانيِة حمايةً لم تحظ بها أقلياتٌ مماثلةٌ في نفسِ الزمن في أي مكانٍ آخرٍ: فقد عاش مسيحيو الشام ويهود البلاد العربية في ظلِ الدولةِ العثمانيِة في ظروفٍ تشبه ظروف المسلمين في معظمِ الأحوال. وحتى عندما كانوا يتعرضون لفتراتٍ من البطشِ، فإن ذلك كان يحدث في فتراتٍ كان يُبطش فيها بالجميع (الحاكم بأمر الله مثلاً). ورغم معرفتي أن هذا الإسلام التركي / المصري لا يمكن وصفه بأنه كان علمانياً، إِلاَّ أنه كان كذلك في جوانبٍ عديدةٍ منه وليس بمعنى إنكار الدين وإنما بمعنى النظر للدينِ كدينٍ وليس كنظريةٍ متكاملةٍ للحياةِ وتنظيمِ أمورِ المجتمع. وفي أماكنٍ أخرى، أخذت مجموعاتٌ بشريةٌ فرضت عليها العزلةُ الجغرافية لكونها في مواقعٍ داخلية غير ذات صلاتٍ بالعالمِ الخارجي ولا تعيش على (السواحل) في تنميِة أفكارِ مدرسة إبن تيمية ثم ابن قيم الجوزية حتى وصلنا إلى أفكار محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.ومن الطبيعي أن يحدث صدامٌ بين "الصنفين" : وهذا ما وقع في سني العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر وفي شكلِ مواجهةٍ بين التيارين، قاد التيار الأكثر استنارة فيه جيشٌ مصريٌ بقيادةِ طوسون بن محمد علي ثم من بعده بقيادة إبراهيم ؛ وانتهت هذه الجولة بإنتصارِ النموذج التركي/ المصري.ثم دارت عجلةُ الزمن، وآلت الأمورُ في تركيا لما آلت إليه، وأخذت مصرُ في التراجع. ومع تراجع مصرَ (خاصة إقتصادياً وتعليمياً) وهبوط ثروة أُسطورية لم يسمع بمثلها التاريخ على المدرسة الأخرى (المغرقة في النقل وتجميد العقل) كان من الطبيعي أن يزداد التيارُ النقلي (المتشدد) قوةً ويملك أدوات الذيوع بل ويغزو أرض التيار الثاني ويتغلغل في رجالِ مؤسساتِ هذا التيار. حتى وصلنا لرؤية تجسد التيار النقلي المتشدد في طالبان وأخواتها. ولو كانت الغلبةُ قد قُيضت لإبن رشد أو لو كانت الظروف لم تسمح بتراجع النموذج التركي / المصري، لما كانت الأمورُ قد وصلت إلى ما وصلت إليه خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرة.

 

إن كاتبَ هذه السطور لا يتوقف في محاضراته في أوروبا وأمريكا الشمالية عن تعريفِ العالمِ بما يُسميه (الإسلام المعتدل) الذي كان حتى أربعينيات هذا القرن مثالاً لا نظير له في السماحة والمرونة وقبول واحترام الآخرين وعدم الإنشغال (بشكل سيكوباتي) بتفاصيلٍ لأحكامٍ لا يمكن إلاَّ أن تكون "إبنة زمانها ومكانها وظروفها" وكل ما يُطرح عليها من القداسة هو "عمل بشري" لأن القداسةَ للدينِ ولكنها ليست أبداً لفهمِ الناسِ للدين : فلا فهمي أنا للدين ولا فهم أي أحد آخر بالمقدسِ، وإنما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتكوينِ وظروفِ وبنيةِ المحصولِ المعرفي لكلٍ منا.

إن الذين يتحدثون الآن في الغربِ بوجهٍ عام وفي الولاياتِ المتحدة بوجهٍ خاص عن الخطرِ الداهمِ الذي يمثله "الإسلام المقاتل" عليهم أن يسألوا أنفسهم مجموعةً من الأسئلةِ بالغةِ الأهميةِ:

•  من الذي أَغمضَ عينيه سنوات عديدة عن المُناخِ العام الذي في ظلِه إستشرى النموذج المقاتل للإسلام بينما ترك النموذج المتحضر والإنساني والراقي (الإسلام التركي/ المصري) ليتراجع في ظل تردي الأوضاع العامة (الإقتصادية والتعليمية بوجهٍ خاص) وأن يصبح أرضاً مفتوحة يغزوها النموذجُ المقاتل – من الذي أغمض عينيه قرابة ثلاثين سنة كاملة – ثم يجئ اليوم معلناً غضبَه العارم على هذا المُناخ الذي أَفرزَ هذا المارد؟

 

•  من الذي إبتدع في الخمسينيات لعبة إستعمال (الإسلام السياسي) لخلق توازنات إستراتيجية ضد الإشتراكية (وكانت لمصرَ في السبعينيات جريرتها الكبرى في نفسِ المجال)؟ …

 

•  هل الغرب لم يدرك أن في مطبخِ النموذج المقاتلِ لا توجد حريات ولا ديموقراطية ولا حقوق نساء ولا حقوق مواطنين إِلاَّ الآن فقط؟ … وهل كان هذا "المطبخ" ذاخراً بتلك القيم في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟

•  لماذا لا يفتح ملف فترة شهر العسل في علاقة المجاهدين الأفغان بالولايات المتحدة؟ وملف علاقة الإسلام السياسي في إيران بالغرب (فرنسا بالذات) قبل وصوله للحكم سنة 1979؟ … وقبل ذلك ملف العلاقة بين الحركة السياسية الإسلامية في مصرَ وبريطانيا (التي كانت تحتل مصر وقتها) ولا سيما في ظل حكومتي محمد محمود (1928 و1938)؟

 

إن العقلَ النقدي الذي تفتخر به الإنسانيةُ المتقدمة يُملي علينا هذه الأسئلة وغيرها – ويملي علينا أن يَقبلَ كلُ طرفٍ أن يتحمل جزءاً من المسئوليةِ عما حدث ويحدث – والعقلُ النقدي يُملي علينا أيضاً أن ننظر بإمعان في النموذجين الذين أشرت لهما في هذا المقال ونتساءل: أيهما الذي يملك القدرة على مسايرةِ الحضارةِ والتواصلِ مع العالمِ والإشتراكِ في مسيرةِ التمدنِ (دون التخلي عن الكثيرِ من خصوصياتنا الثقافية الإيجابية)؟ أهو النموذج الذي أفرزه المطبخ الذي أَسسه أهل النقل (وهم ضحية العزلة الجغرافية وراء كثبان الرمال) أم النموذج التركي/المصري (ذو الوسطية والإعتدال والسماحة) (مع الصوفيين المسلمين والذين هم أصحاب أقدر الفرق على التعايش المشترك الراقي مع الآخر) أم النموذج الغائب دائماً ، (نموذج ابن رشد الذي إستفادت منه الحضارةُ الغربية وخسرنا نحن بهجره والوقوف مع المدرسة المناهضة له والتي تفتح البابَ على مصراعيه أمام الخرافةِ والأسطورةِ واللاعلمِ وإمتطاءِ جواد الاقتتال الذي لا يتوقف عوضاً عن العلم والعمل والبناء والتنمية والتآخي.

(د)

لماذا يتجه عددٌ غير بسيطٍ من الشبابِ المسلمِ إلى تبني العنف كشكلٍ لأداءه السياسي؟ .. هذا هو السؤَال الذي إنشغلت (ولازالت) به جامعاتٌ ومراكزَ بحوثٍ ودراساتٍ ومفكرون وباحثون ومنظرون عديدون في العالم كله بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ بوجهٍ خاصٍ. وقد عكست محاولاتُ الإجابةِ عن هذا السؤَال أشكالاً عدة من أشكال التنظير. وليس هدفي في هذا المقال (من هذه السلسلة) تفنيد شتى التفسيرات التي قيلت في محاولاتِ الإجابةِ عن هذا السؤَال بالغ الأهمية. وإنما هدفي أَن أَعرض تفسيري الخاص والذي عرضته مؤخراً بعدد من المحاضرات خارج مصر كان آخرها بجامعة فيينا يوم 17 أكتوبر الجاري.

 

يقوم تفسيري لظاهرة تبني أعدادٍ من الشباب المسلم للعنفِ كشكلٍ للعمل السياسي على الركائز التالية:

 

•  نصوص القرآن والأحاديث التي يستند إليها دعاةُ العنفِ فهمت من بداية الإسلام فهمين مختلفين: فهم يربطها بظروفٍ وحيثياتٍ معينة ، وهذا هو فهم الأغلبية التي اتسمت طيلة قرون بالوسطية والإعتدال. وفهم يعمم هذه النصوص (فيما لا يجوز فيه التعميم). وكان أصحابُ هذا الفهم من البدايةِ أقليةً هامشيةً.

•  كل النظريات التي أسست ميل بعض المسلمين للعنف على أساس شعور دفين بالتخلف هي نظريات مرجوحة (وأشهرها نظرية البروفيسور برنارد لويس الشهير بجامعة برنستون الأمريكية). فبوسعي أن أملأ هذه الصفحة من هذه الجريدة بمقتطفاتٍ من مئات المراجع تشير إلى أن مجتمعات المسلمين طيلة النصف الأول من مجمل تاريخ المسلمين (أي طيلة سبعة قرون) لم يكن هناك أي أساس لشعور أبناءها بالدونية أو التخلف – لأن مجتمعاتهم كانت أكثر رقياً من سائر مجتمعات زمانهم. ومع ذلك ، فقد كانت هناك "أغلبية وسطية معتدلة" و"أقلية ناشزة" في كل وقت ومكان.

•  حتى في زمن التراجع الذي تلي نهاية دولة العرب في أسبانيا (1492) ؛ فإن المجتمعات الإسلامية ظلت (رغم التراجع) تتكون من تيار عامٍ أساسي يتسم بالوسطية والإعتدال وتيارات هامشية متطرفة.

•  المشكلة التي نعيشها اليوم تعود إلى تغيير لا ينكر في حجم ودور وفعاليات التيارين: المعتدل والمتطرف. فقد زاد وتوسع دور التيار المتطرف بينما تراجع دور التيار الوسطي. والأطار الزمني لهذه الظاهرة لا يتجاوز القرنين الأخيرين.

•  كل محاولات تفسير ظاهرة التغيير في حجم الأدوار (ما بين التيار الوسطي المعتدل والتيار المتطرف) تعاملت مع "التيار المتطرف" ككتلةٍ واحدةٍ - وهذا في إعتقادي مصدر خطأ كل التفسيرات.

•  في إعتقادي أن تيار العنف بين المسلمين يضم طائفتين مختلفتين في البواعث والدوافع والظروف. طائفة (القادة) وطائفة (الأتباع).

•  وفي إعتقادي أن طائفة القادة (على خلاف ما يظن كثيرون) ليست هي لب المشكلة. فقد شهد تاريخُ المجتمعاتِ الإسلاميةِ أمثال هؤلاء منذ البداية. إلاِّ أن أثرهم اليوم أكبر بكثير من أثرهم في كل القرون الماضية. وهو ما يثبت أنهم ليسوا لب المشكلة.

•  في إعتقادي أن "الأتباع" هم لب المشكلة. بمعنى أن السؤَال لا ينبغي أن يكون: لماذا يفكر قادةُ الجماعات المتطرفة بهذه الكيفية؟ وإنما أن يكون: لماذا يتبع شباب مسلمون بالآلاف تلك الأفكار؟ إن كل القياداتِ السياسيةِ والفكريةِ والتنظيميةِ لتياراتِ التطرف تبقى بلا قيمة بدون "أتباع بأعدادٍ كبيرةٍ".

•  أن أتباع الأفكار المتطرفة تزايدت أعدادهم بفعل ظروف حياتية (سياسية وإقتصادية وإجتماعية) بالغة الظلم وعامرة بشتى أشكال الفساد – وتفشي عدم معقولية أسباب القوة والثروة والمكانة (الشعور بالخلل والظلم أقوى بمراحل من مجرد الفقر).

•  منذ بدأت عملية المواجهة ما بين أطراف شتى وتيارات العنف ، فإن التركيز كان دوماً على "القادة" مع شبه إنعدام تعامل مع لب المشكلة وهو: لماذا يتبع الكثيرون أفكاراً كهذه؟ وهو ما أدى لتقدم التعامل الأمني مع المشكلة ، وفي ذات الوقت "تأخر التعامل السياسي" معها.

في محاضرتي بجامعة فيينا منذ أقل من أسبوعين (والتي أشرت إليها آنفاً) حملت معي عشرات التقارير ذات المصداقية العالية عما يسميه الغرب (الإرهاب الإسلامي). وقلت للحاضرين (وكلهم أساتذة من دارسي الشرق الأوسط من سائر الجوانب): أن كل التقارير عن أنواع وأعمار وخلفيات العناصر التي شاركت في كل عمليات العنف في العالم خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تشير لوجود عناصر مخططة أو منفذة من سائر المجتمعات الإسلامية بإستثناء ثاني أكبر هذه المجتمعات ، وهو مجتمع المسلمين في الهند. فبينما تضم إندونيسيا أكبر مجتمع مسلم فإن الهند (وليست باكستان) تضم ثاني أكبر مجتمع مسلم. وهذا المجتمع (مجتمع المسلمين في الهند والذي يتجاوز عدد أبناءه وبناته المائة وخمسين مليون إنسان) لم يصّدر للعالم هندي مسلم واحد خطط أو شارك في عملية عنف في أي مكان خارج الهند.

وفي هذه المحاضرة قمت بمقارنةٍ مستفيضةٍ بين مسلمي الهند ومسلمي باكستان. وخلاصة هذه المقارنة أنهم من نسيج واحد تماماً ، فكل مسلمي باكستان هم من مسلمي الهند الذين إختاروا عدم البقاء في الهند (سنة 1947) عند تكوين باكستان. وأن الخلاف الوحيد بينهم هو أن مسلمي الهند يعيشون في مناخ عام ديمقراطي وأن مسلمي باكستان يعيشون في مناخ عام أبعد ما يكون عن الديمقراطية.

إن مسلمي الهند (والذي يمثلون أكثر من عشرة في المائة من مسلمي العالم) يثبتون بجلاء أن "أتباع الأفكار المتطرفة" لا يوجدون (ولا يتزايدون) إلاِّ بفعل المناخ العام. وأن العنف هو البديل عن المشاركة الديمقراطية الفعّالة عندما تنتفي هذه المشاركة أو توجد بشكل مسرحي كما هو الحال في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات الإسلامية.

وللأمانة العلمية ، فإن علىّ أن أذكر أن أستاذاً بجامعة ألمانية حضر تلك المحاضرة دعاني لأن أؤمن معه بأن التفسير الحقيقي للظاهرة التي أعرضها هو تأثر مسلمي الهند بثقافة اللا عنف الهندوسية. وكان ردي كما يلي:

•  أن آباء وجدود كل الباكستانيين المعاصرين عاشوا عقوداً (وقروناً) في ظل المناخ الهندوسي المتسم بعدم العنف (قبل سنة 1947) ؛ فكيف يمكن أن نعقل أن الصفات الحضارية التي تكتسب خلال قرون يمكن أن تزول بهذه الدرجة وهذه السرعة؟ (نصف قرن)

•  حتى لو قبلنا هذا التفسير ، فإنه لا ينفي أن "ذهنية العنف" هي "منتج ثقافي" ليس إلاِّ. وهنا فإنه لن يكون فقط منتجاً ثقافياً للبيئة الهندوسية وإنما (وبنفس الدرجة) للمناخ العام الهندي الديمقراطي – وهو ما يعيدنا لنفس النقطة.

والخلاصة ، أن مشكلة إنخراط العديد من الشباب المسلم في تيار العنف سببه الأكبر هو "مناخ الفساد العام لمجتمعاتهم" وفي ذات الوقت "إنعدام طرق التعامل السياسي المشروعة مع هذا الواقع" أي إنعدام الحياة السياسية الحرة التي تسمح لشباب مسلمين بالتعامل مع عناصر بيئتهم الفاسدة (بشتى أشكال الفساد السياسي والإقتصادي والإجتماعي) تعاملاً سياسياً من فوق الأرض لا من تحتها. فبداخل عدد غير قليل من البشر كائن سياسي ، إما أن يجد قنوات صحية وشرعية لممارسة الطاقة السياسية الموجودة داخله ، وإما يتجه إتجاهات أخرى أبرزها العمل السياسي غير الشرعي.