" نعم " ثقافة للسلام .. لا للحرب .

نشرت جريدة الأهرام يوم الجمعة 19 نوفمبر 1999 مقالي ( بين ثقافة السلام وثقافة الحرب ) . وقد أثار هذا المقال "هياج" كاتب ناصري هو الأستاذ / السيد يسين فنشر بأهرام يوم 25 نوفمبر 1999 مقالاً يمثل إصرار البعض على أن يكون المستقبل "صورة كربونية" من الماضي . وفيما يلي تعليقي على بعض ما جاء بمقال الكاتب الغاضب (السيد يسين) :

أولاً : أن هناك فرق بين مفكر يكتب بهدوءٍ ورجل يهدر بالغضبِ فيكتب عباراتٍ مثل (كتابات رديئة) و(مزاعم الكاتب الرخيصة) و(طارق حجِّي وأمثاله) .. وغيرها . ولا شك أن هذه اللغة تنتمي لمدرسة فكرية رسخّت هذا الأسلوب غير الموضوعي في الكتابة والحوار في الحياة الثقافية المصرية . كيف لا ، وأصحاب هذا الأسلوب يقتدون بمن كان يُعلن لهم أنه (سينتف ذقن الملك " " شعرةً شعرةً) فتبلغ بهم النشوةُ منتهاها . ولا شك أن القارئ المحايد سيؤيد أن غوغائية الكلام هي المدخل الأرحب لغوغائية الفكر .

ثانياً : يرى الكاتبُ الغاضب أن عبارتي (منذ أكثر من عشرين سنة إختارت مصر أن تهجر طريق الحرب وإختارت طريق السلام) تعطيه الحق لأن يقول أن أول قصيدتي كانت "كفراً" . والحقيقة ، أن ما كتبته هو تعبيرٌ دقيقٌ عن تحول مصرَ من الإيمان بأن الصراع العربي الإسرائيلي يُحل بالحرب إلى الحل بالتفاوض . وكل ما في الأمر أن "الكاتب الغاضب" يرى في الحرب "مفخرة وبطولة" ويرى في التفاوض وبناء السلام "عار" . والكاتب الغاضب حر في أن يرى ذلك ، ولكنه ليس حراً في وصف من يرى أن مصر قد إتخذت موقفاً جديداً في سنة 1977 بأنه "كفر" . ولا شك أن أي كاتب رصين يعرف أن إستعمال كلمة "كفر" هنا هو إستعمال ديماجوجي لا علاقة له بالحوار الموضوعي .

ثالثاً : إن الكاتب الغاضب أقحم أموراً في الحوار لم ترد في مقالي الذي تناوله بالكتابة وهي بالتالي ليست محل جدل لكي تكون في هذا المجال محل حوار . فهو يقول بأن قواتنا المسلحة تبذل جهوداً فائقة لتحديث سلاحها ومواصلة تدريباتها . ونحن نسأله : ومن الذي دعى لكي لا تقوم قواتنا المسلحة بذلك ؟ وأين هو الكلام في مقالي الذي يشير من قريبٍ أو بعيدٍ لذلك ؟ .. بل وأين في كل كتاباتي الذي جعلك تكتب ما كتبت ؟ الحقيقة أن هذا الأسلوب معروف في "أدبيات" الكتّاب السياسيين الذين خدموا لسنواتٍ طويلةٍ نظماً شمولية (أو تنظيمات مثل "التنظيم الطليعي") فقد تدربوا على كتابةِ مقالاتٍ هي في حقيقتها "تقارير مباحثية" .

رابعاً : يقول الكاتبُ الغاضب أنني أمتنعت عن نقد التليفزيون المصري (لأنني لم أستطع أن أتجاسر) أن أنقده علناً . والحقيقة أنني كتبت في مقالي الذي أثار هياج (وليس فكر) الكاتب الغاضب عن وسائل الإعلام وهي تتضمن التليفزيون وهو ما قصدته وأعود هنا لأوكده . ويثير عجبي أن يظن السيد يسين أن هناك جهة "أخشى" من توجية النقد لها . وهو هنا ينطلق من خلفيته الشمولية التي لا علاقة لي بها ، فقد أمضيت معظم حياتي في مؤسسة عالمية كبرى يملك فيها كلُ إنسان أن يقول ما يريد وأن ينتقد (أي إنسان) مهما علت مكانته (ولكنه نقد بناء يقوم على فكرة أن النقد أداة تجويد ويتسم لذلك بالأدب ولا يستعمل مفردات الدهماء وينطلق من روح الرغبة في التحسين لا من روح الغضب والتعصب) .

خامساً : يقول الكاتبُ الغاضب أنني أريد أن يتحول الناس إلى دراويش في حلقة (ثقافة السلام) يدورون ويدورون مخدرين حتى تفاجئهم الصواريخ الإسرائيلية ذات يوم . وهو وصفٌ خاطئ لما أريده ؛ فأنا أريد أن ننظر للمستقبل بالطريقة التي نظر بها الألمان والفرنسيون خلال السنوات الأربعين الأخيرة ، فبدلاً من "عجن العقول" بدماء الإنتقام قاما بصنع "مستقبل أفضل" لأنهم كانوا ينظرون إلى المستقبل ولا يسمحون لعقولهم أن تدخل "مغارة الماضي" لتدور وتدور في غياهب هذا الماضي . والغريب أن يقول الكاتب الغاضب (حتى تفاجئنا الصواريخ الإسرائيلية ذات يوم) ، وكأن العهد الذي يُدافع عنه لم تفاجئه الصواريخ ذات يوم مشئوم (5 يونيه 1967) . إن الكاتبَ يخلط الأمور خلطاً غير مُستغرب عمن لا يملكون أدوات فهم الحاضر والمستقبل . فأنا أؤمن بضرورة وجود قوات مسلحة على أعلى مستوى ممكن من القدرةِ والتدريبِ والحداثةِ .. ولكنني أؤمن في نفس الوقت أن الإنشغالَ بصنع مستقبل أفضل (وأشير مرة أخرى للمثال الألماني الفرنسي) أجدى من الإنشغال بإضرام نار الثأر والإنتقام (تحت مسمى "الحفاظ على الذاكرة التاريخية") .

سادساً : يقول الكاتبُ الغاضب أن السلام العادل (يتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأرض الفلسطينية المُحتلة) . وكاتب هذه السطور يؤمن بشرعيةِ وحتميةِ قيام الدولة الفلسطينية .. ولكن ما يحتاج لتفسير من السيد يسين هو تعبير (على كامل الأرض الفلسطينية المُحتلة) وهو مُطالب بأن يذكر لنا قصده ، فهل يعني قسمي فلسطين الذين منحت الأمم المتحدة أحدهما للعرب والآخر لليهود سنة 1947 ؟ وهنا ، فإنه يكون أكثر تشدداً من كل القيادات الفلسطينية (بإستثناء حماس) .. أم أَنه يعني الأراضي التي ضمتها إسرائيل لها بعد حرب 5 يونيه 1967 ؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا يستعمل تعبير (كامل الأرض الفلسطينية المُحتلة) ؟ أم أن الكلام دائماً (أمرٌ سهلٌ) ولا يكلفه ذلك الإ أن يجري قلمه بكلامٍ مستحيلٍ يُظهِره بمظهر الأبطال .

سابعاً : يعتقد "الكاتبُ الغاضب" أن كون الشعب المصري قد عاش (وربما أَيد) تجربة سنوات الخمسينات والستينات يجعل من تلك التجربة (ذاتاً مصونة لا تُمس) وأن نقدها يُعتبر بالتالي (إهانة للشعب) ، وهو منطق بالغ الوهن . فحتى لو افترضنا إجماع الشعب على تأييد سياسات معينة (وهو مجرد فرض نظري) فإن ذلك لا يعني أن نقد هذه السياسات أمر غير مسموح به .. والإ لكان معنى ذلك أن نؤيد الحقبة النازية في ألمانيا لأن معظم الشعب الألماني كان مؤيداً لشعاراتها . كذلك فإن هذا المنطق "يروّج" لإمكانية وجود (رأي واحد) في مسائل عامة لا يمكن إستبعاد التعددية في الآراء ووجهات النظر بشأنها. وحتى لو كان منطق "الأستاذ الغاضب" سليماً ، فإننا عندئذٍ سنستعمله معه ونقول له أن غالبية الشعب المصري أَيدت زيارة السادات إسرائيل (سنة 1977) وما تلاها من نتائج ، فكيف سمحت لنفسك بمخالفة ذلك الإجماع ؟ (والحقيقة أنه منطق فاشي في الحالتين) .

ثامناً : تعبير "الذاكرة التاريخية" تعبير يمكن لأديب أن يستعمله كذلك يمكن لسياسي ينتمي لحزب فاشي أن يستعمله ، ولكن هل يجوز لعالمٍ أو مفكرٍ أن يتحدث عن "الذاكرة التاريخية" (وهي كما يعرف الكاتب الغاضبُ "انتقائية" بطبيعتها) عوضاً عن الحديث عن "التاريخ" ؟ وإذا كانت الذاكرة التاريخية هي التي ستوجه حركتنا المستقبلية ، وهي التي وجهت حركتنا (في هذا الصراع) خلال الستينات ، فما هو دليل "الكاتب الغاضب" على أننا سنصل لنتائج تختلف عما وصلنا إليه في الستينات (وبالتحديد صبيحة الأثنين 5 يونيه 1967) ؟ وكيف يسمح مفكرٌ لنفسه أن يتكلم عن (السلام) و(الإستسلام) وكأنهما أمرٌ واحدٌ ، مما لا يُبقي أمامنا خيار الإ الحرب ؟ وكيف يضع الكاتبُ الغاضب كاتب هذه السطور واليونيسكو وإسرائيل والولايات المتحدة في "سلة واحدة" ؟ ويبقى منهجه بعد ذلك علمياً . وعن أي إسرائيل يتحدث؟ إسرائيل اليمين الذي يتحدث مثله إنطلاقاً من "الذاكرة التاريخية" أم إسرائيل قوى السلام وهي غير قليلة؟ إن كم "اللا علمية" في مقال "الكاتب الغاضب" بلا حدٍ .

تاسعاً : ذكر الكاتبُ الغاضب أن مصر الخمسينات والستينات قد أقامت أكبر قاعدة صناعية في تاريخ مصر . وهناك ثلاثة تعليقات موجزة على ذلك ، أولها أن مصرَ لم يكن لها في تاريخها (السابق) أية قاعدة صناعية لجواز المقارنة بالماضي . ثانياً أنني أُحيل الكاتب الغاضب لعددٍ من كتبي (بالإنجليزية) التي توضح الفارق بين "المشروعات الكبيرة" و"المشروعات الناجحة" (الأولي تركز على حجم الآلات والمعدات والثانية تركز على تنمية العنصر البشري وإدارة التسويق والنتائج) .. وثالثاً فإنني أود أن أؤكد له أن ما تم إنجازه (من ناحية القاعدة الصناعية) خلال السنوات العشر الأخيرة في مصر يبلغ أضعاف كل ما تم في الخمسينات والستينات ..

أما وقد فندت في هذه النقاط التسع دعاوى متهافتة لا تستند لمنطق أو واقع ، فإنني أقول لكاتب مقال (ثقافة للسلام أم محو للذاكرة التاريخية؟) أنني لا أدافع عن أمريكا ولا أدافع عن إسرائيل وإنما أدافع عن وطني في مواجهة من ساقوه على طريق وعرة بدون رؤية وبدون معرفة وجعلوا قاطرته تصطدم بالصخور أكثر من مرة . وأقول له أنني أدعو لنهاية مرحلة الصراعات الخارجية (بأفضل صورة ممكنة وليس بالخنوع وليس أيضاً بإستهداف المستحيل) حتى يتفرغ مجتمعُنا لثلاث قضايا أهم بكثير من صراعات الخارج : يتفرغ لقضية التنمية وقضية إستكمال الديموقراطية وقضية الحداثة . فإذا نجح مجتمعُنا في إحراز تنمية حقيقية (مثل تجارب جنوب شرق آسيا) وإذا ترسخت الديموقراطية وأفرزت آلية للداروينية الإجتماعية تجعل أفضل أبناء وبنات المجتمع يشاركون في صنع واقعه ومستقبله وإذا نجحنا في قضية الحداثة فستكون لدينا طبقة وسطى عصرية كبيرة وصلبة هي القادرة على التعامل بنجاح مع صراعات الخارج أياً كان شكل أو مصدر هذه الصراعات . أما الطبقةُ الوسطى الهزيلة التي كانت بمصر قبل 1952 وأما الطبقة الوسطى شبة المنعدمة التي وُجدت بعد 1952 فكلاهما غير قادر على التعامل مع صراعات الحياة المعاصرة بكل أشكالها وألوانها . إن إحرازَ النجاح في الصراعاتِ الحضاريةِ الكبرى يحتاج لأحرارٍ أقوياء ، وبدون "قوة الداخل" فإن كل حديثٍ عن نجاحٍ في صراعاتٍ خارجيةٍ يبقى من مفرداتِ "ثقافةِ الكلامِ الكبيرِ" .