لماذا يكره البعض "أمريكا"؟

إنشغل أمريكيون كثيرون بمحاولة الإجابة عن سؤَال هام: "لماذا يكره كثيرون الولايات المتحدة الأمريكية"؟ .. وعقب إحدى محاضراتي في مطلع هذا العام بالعاصمة الأمريكية سألني أستاذ أمريكي بإحدى جامعات الشمال الشرقي وكأنه قد فجر السؤًال ومحق معقوليته: "وفي نفس الوقت ، فإنهم لا يفتأون يسعون للهجرة إلى الولايات المتحدة!!". قالها بثقة تشيع بين الأغنياء الجدد (إينما كانوا) .. ولكني فأجأته بالرد التالي: "إنك أجبت عن السؤًال بأفضل إجابة وأنت لا تشعر!". ثم أسهبت في الشرح .. وكان فحوى ما قلته أننا لو وضعنا هاتين الحقيقتين إلى جوار بعضهما البعض: "كثيرون يكرهون الولايات المتحدة .. ومعظمهم يحلم بالهجرة إليها" لكان بوسعنا أن نضع يدنا على الحقيقة التي نبحث عنها. إن الملايين من البشر يحلمون بالهجرة للولايات المتحدة الأمريكية لأنها مجتمع ممتاز ، فيه قيم طيبة ، وفيه يمكن تحقق آمال الطموحين بشكل أفضل من أي مكان آخر .. وفيها ديمقراطية .. وحكام يخضعون مثل كل الناس لقواعد القانون .. وليس هناك من يعلو فوق القانون حتى لو كان رئيس أمريكا ريتشارد نيكسون الذي أسقطه صحافي شاب منذ ثلاثين سنة. ولكن الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية وسياساتها وممارستها الخارجية تقبل للبشر (خارجها) ما لا تقبله لأحد داخلها. تقبل أن يحكم مارشالات جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية شعوبهم في ظل ديكتاتوريات كاملة وفساد مطلق. وتقبل أن تحكم العالم الثالث نظم هي سبيكة من الجها والبطش والإستبداد والفاسد وإسترخاص البشر. وتقبل أن يكون شريكها في محاربة السوفيت (إبان علوهم) من لا يتفق معها في أي قيم من قيم مجتمعها .. وتقبل أن يحكم معظم شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا رجال لا نصيب لهم من العلم والخبرة والفكر والحنكة والثقافة .. وقبل ذلك كله: لا نصيب لهم من الخلق.

 

إن الهوة الشاسعة بين المبادئ التي يحب الناس الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية وبين الأسباب التي تدعوهم لكراهيتها خارج حدودها هي ما يجب على مراكز البحوث المعنية بمستقبل القوى العظمى الأولى أن يدرسوها ويرصدوا أسباب وجودها وطرائق علاجها.

 

وأخيراً ، فإن الصراخ العربي المعهود لن ينفع هنا أيضاً (كما لم ينفع في أي مكان أو مناسبة أخرى). وإنما الذي سينفع هو الحوار الخالي من الأحكام المسبقة أو الغايات المنوية سلفاً والذي يقوم طرفاه (العربي والأمريكي - مثلاً) ببحث هذه الظاهرة بشكل موضوعي وعلمي ليس له من هدف إلاِّ الفهم (فهم الظاهرة وأسبابها) وتشخيص الدواء (لكي يبدأ البشر في النظر للقوة العظمى الكبرى نظرة فيها قدر غير قليل من الإحترام – إذ أن القوة لا تجلب الإحترام وإنما تجلبه المصداقية).