للفلسطينيين أَقولُ ...

كان لمتابعتي للصراعِ الفلسطيني الصهيوني من السنواتِ التي تلت مؤتمر بازل (1897) حتى هذه اللحظة أسوأ الأثر النفسي علىِّ. فلم أر كماً من الأخطاءِ أو إضاعةِ الفرص مثلما رأيته في مسلك وتصرفات وقرارات وإختيارات بعض الفلسطينيين منذ بداية الصراع وحتى وقتنا هذا. وضمن تلك المسيرة من الأخطاء/الخطايا جاءت تصرفات بعض الفصائل الفلسطينية مؤخراً لتكون من بين كبريات هذه الأخطاء/الخطايا.

 

إن المقاومة لا يمكن أن تكون هدفاً في حد ذاته إلاِّ لمن كان يرزح في طور الطفولة الفكرية أو الفوضى المستغرقة في عدم المسئولية والغوغائية. فالمقاومة لا يمكن إلاِّ أن تكون وسيلةً وليست غايةً بالنسبة لكل ذي عقلٍ وضميرٍ وشعورٍ بالمسئولية.

 

كذلك ، فإن السعي لوجود أكثر من قيادة للفلسطينيين إلى جوار القيادة الشرعية (أي محمود عباس) هو عارضٌ أخر من عوارضِ تلك الأمراض: الطفولة الفكرية وعدم الشعور بالمسئولية والغوغائية.

 

وإذا كان من المستحيل إلاِّ أن يسلم كلُ إنسانٍ عصريٍّ ينتمي للإنسانية والمدنية والإيمان بالقانون والشرعية بهاتين الركيزتين: أن المقاومة وسيلة لا غاية وغوغائية محاولة قيادات غير شرعية للتساوي مع القيادة الشرعية – فإن موقف بعض الفصائل الفلسطينية (وعلى رأسها حماس والجهاد) خلال الأسابيع القليلة الماضية هو موقف لا يمكن إلاِّ رفضه وإستنكاره. بل والإقتراب من الإعتقاد بأن الواقفين وراءه لا يمكن تجنب إتهامهم بترتيب الأولويات بشكلٍ يخالف ويناقض المنطق والحكمة والمنفعة والمصلحة الفلسطينية.

 

فما الذي يمكن أن يجعل إنساناً يقبل أن يكون القرار الفلسطيني مشاركةً بين القيادة الشرعية وبعض الفصائل وما الذي يجعل إنساناً عاقلاً يقبل بأن السلاح الفلسطيني لا يكون تحت إمرة القيادة الفلسطينية؟ .. غير سوء النوايا وعدمِ النضج الفكري وبداوة العقل وعدم النضج الكافي لفهم معنى الشرعية.

 

وكما كان المنطق والحكمة والمصلحة الوطنية والمنفعة تحتم أن يستجيب الفلسطينيون لدعوة الرئيس أنور السادات منذ أكثر من ربع قرن من الزمان لحضور مؤتمر مينا هاوس – فإن المنطق والحكمة والمصلحة الوطنية والمنفعة كانت تحتم على كل فلسطيني أن يدرك أن ما قامت به فصائل الجهاد وحماس مؤخراً إنما يخالف كل جوانب المعادلة الفلسطينية ، إذ أنه يأتي قبل الإنسحاب الإسرائيلي من غزة ليعوقه لمجرد أن يبدو الإنسحاب وكأنه تحت ضغط بنادق المقاومة وليس إنجازاً سياسياً: فالمجد للمقاومة أهم من الإنتصار السياسي للفلسطينيين - وهذا ما عنيته بحمق ترتيب الأولويات ترتيباً خاطئاً. كما أن الأخطاء/الخطايا الأخيرة قد تعني أن جل ما يشغل قادة حماس والجهاد هو أن يكونا هما المسيطرين على غزة بعد الإنسحاب وليست الإدارة الفلسطينية – وهو شكلٌ أخر من أشكال الأخطاء/الخطايا.

 

لقد كان محمود عباس (أبو مازن) محقاً وصائباً وحكيماً عندما قال أنه سيوقف صواريخ الفصائل على المستعمرات الإسرائيلية بأي شكل ومهما كانت الكلفة. أنه هنا وطني عظيم (مثلما كان السادات) بصرف النظر عما قد يظنه المراهقون السياسيون ، في أي جانبٍ كانوا – والذين لا توجههم رؤية سياسية وليس لديهم فكر سياسي وإنما محض غرائز سياسية.

 

إن أي فلسطيني يظن أن بوسعه إقامة سياسة فعالة وناجحة على أساسٍ من هدفٍ علوي يخالف المصلحة النهائية لمبادرة جامعة الدول العربية في بيروت منذ سنتين أو لتوجهات القيادة الشرعية الفلسطينية ، بمعنى سياسة تستهدف إزالة إسرائيل من الوجود ، إنما هو حالمٌ وواهمٌ. ولا يقتصر الأمر على الحُلم والوهم ، وإنما هو مدمرٌ للمصلحة الفلسطينية ذاتها بشكلٍ كاملٍ. فالذي يضيع "الممكن" من أجل "المستحيل" هو خاطئ من زاوية ومقترف خطية من زاوية ثانية ومخربٍ من زاوية ثالثة.

 

إنني أطالب القطاعات الواسعة من الطبقة الوسطى الفلسطينية من فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة ومن فلسطيني المهاجر وأيضاً عرب إسرائيل أن يرفعوا صوتهم والذي أعرف أنه في جانب القيادة الفلسطينية الشرعية وليس في جانب الفوضى. على هؤلاء أن يقولوا للحالمين والواهمين والمدمرين للمصلحة الفلسطينية أنه قد آن الأوان للتوقف عن تدمير ما تبقى من المصلحة الفلسطينية. كما يجب أن يقولوا لتلك الفصائل الشاردة أنه لا يوجد على الأرض معين لقوى التشدد والظلم على الجانب الآخر أكثر منهم هم أنفسهم. وأعني هنا أن أمثال قادة حماس والجهاد لابد وأن يكونوا مغمورين بقبول التطرف على الجانب الإسرائيلي بشكلٍ كامل – فالمتطرفون على الجانب الآخر لا يمكن إلاِّ أن يكونوا راضين بالكلية هذه الأيام عن صواريخ القسام ومطلقيها.

 

وأقولُ لرمز القيادة الفلسطينية الشرعية (محمود عباس) أن عليه أن يثبت على إيمانه بأن مستقبل الإستقرار في فلسطين مرهونٌ بتنفيذه لكلماته التي أعرب عنها منذ أيام وفحواها أنه عازمٌ على إيقاف الفوضى بأي شكلٍ وأياً كانت الكلفة. إن محمود عباس يعرف كيف بذرت قيادات سابقة بذور الفوضى لكي لا تستقر الأمور أبداً لقياداتٍ غيرها. ولمحمود عباس أيضاً أقول: أن السياسة هي فن الممكن ، وأن طالبي المستحيل ليسوا أبطالاً وإنما مخربين.

 

إن محمود عباس اليوم في موقف يماثل موقف الرئيس السادات سنة 1981 عندما كان يبذل قصارى جهده لكل لا تفسد خطة إنسحاب إسرائيل من سيناء. وعلى محمود عباس أن يواصل الإيمان بأن الفوضى هي لمصلحة أي طرف إلاِّ أن تكون في مصلحة الفلسطينيين. وأقول للفصائل الشاردة ، إن أفضل ما تقومون به اليوم للمصلحة الفلسطينية هي أن تسلموا للقيادة الشرعية بحقها في أن تكون القيادة الوحيدة وأن تتجنبوا الوصول لذلك بعد مواجهة من اثنتين: إما مع إسرائيل أو مع فتح – وفي المواجهتين ستخسرون ويخسر الفلسطينيون.

 

وأخيراً (وأنا أعرف كم ستثير هذه العبارة القادمة من تشنجات المتشنجين) فإنني أدعو قيادات حماس والجهاد (وأملي ضعيف في أن تجدي هذه الدعوة) أن يقوموا بما يسمى في علوم الإدارة الحديثة بـ Break Through بمعنى تغييرٍ جذريٍّ ويعلنوا أنهم وإن كانوا متمسكين بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة حتى تُعلن الدولة الفلسطينية المستقلة ، فإنهم يعلنون من الآن ما يلي:

 

أولاً: أن المقاومة المسلحة ليست غاية في حد ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق الأماني الوطنية الفلسطينية.

ثانياً: أن المقاومة المسلحة قد تكون فعالة في أوقاتٍ وقد لا تكون كذلك في أوقاتٍ أخرى.

ثالثاً: أن المقاومة المسلحة لا تهدف للإستيلاء على مكانةِ القيادة الشرعية للفلسطينيين.

رابعاً: أن الفلسطينيين يسعون لمرحلةٍ من النضج والتمدن تكونُ فيها القرارات السياسية والعسكرية بيد القيادة الشرعية للفلسطينيين فقط.

خامساً: أن المقاومة الفلسطينية تعتبر أي إعتداءٍ على غير العسكريين أي على المدنيين في أي مكانٍ وفي أي زمانٍ في عالمنا هذا هو عملٌ إجرامي وإرهابي في آن واحد. ويشملُ ذلك القتل العشوائي الذي يصيب المدنيين.

 

هل تقبل قيادات حماس والجهاد على خطواتٍ تتسم بالذكاء والتحضر كهذه الخطوات .. وتخيب عندئذٍ أبا إيبان وتزعجه في قبره لأنه هو الرجل الذي قال ذات يوم (أن الفلسطينيين لا يضيعون فرصة لإضاعة أي فرصة). أم أنهم يرضونه في قبره ويزعجون رجلاً كان بالغ الحكمة وهو إسماعيل صدقي (رئيس وزراء مصر من 1930 إلى 1933 ثم مرةً أخرى خلال سنة 1946) والذي قال في جلسة مجلس النواب المصري لمناقشة قرار دخول حرب 1948 إن أشد ما يخشى أن يضيع الجانب العربي (الممكن) ويمضي ساعياً وراء (المستحيل).