قرار تقسيم فلسطين (نوفمبر 1947).

كُتب هذا النص في مدينة بورسعيد في شهر أغسطس 1981 ولكنه يبقى صالحاً للقراءة والتدبر في موضوعه الذي يرصد بداية مسلسل اللاواقعية العربية التي وصفها سياسي إسرائيلي (أبا إيبان) بأنه مسلسل (عدم إضاعة أي فرصة لإضاعة كل فرصة). ويهدي المؤلف هذا النص لروح أنور السادات الذي خالف هذا الطبع.

 

 

في ديسمبر 1947 نظم الحزب الشيوعي العراقي مظاهرات صاخبة ضمت كل أعضائه وأنصاره وطافت المظاهرات في شوارع بغداد وغيرها من كبريات المدن العراقية معلنة تأييدها لقرار تقسيم فلسطين ومؤيدة لفكرة إقامة دولة يهودية، وفي مقدمة كبرى هذه المظاهرات سار عضوان بالحزب الشيوعي العراقي، أحدهما مسلم والآخر يهودي وقد تشابك ساعداهما كرمز للصداقة والمعايشة التي يدعو لها-منذ ذلك اليوم فقط-الحزب الشيوعي العراقي ويباركها.

 

وعندما دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين، يبادر الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان إلى عقد إجتماع مشترك في مدينة بيروت، وفي البيان الصادر عن هذا الإجتماع المشترك وصف المجتمعون-بالإجماع-حرب فلسطين بأنها-من الجانب العربي حرب دينية عنصرية، كما طالبوا الجيوش العربية (بأن تنسحب من فلسطين فوراً). والذي صاغ هذا البيان هو "خالد بكداش". وإذا بالحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان لا يكتفيان بهذا الموقف، بل يوجهان الدعوة للحزب الشيوعي العراقي وللحزب الشيوعي الفلسطيني (عصبة التحرر الوطني) لتوحيد الشعارات بشأن قضية فلسطين وإصدار بيان عام موحد يؤيد التقسيم ويستنكر الحرب في فلسطين ضد اليهود.

 

ووصف الحزب الشيوعي العراقي الحرب في فلسطين (بالحرب الفلسطينية القذرة) وطالب العرب بالتعاون مع القوى الديموقراطية في إسرائيل لمنع الحرب.

 

 

وفي يوليو 1948 أصدر الحزبان الشيوعيان السوري واللبناني منشوراً جاء فيه (إن الحرب ضد اليهود هي مؤامرة يدبرها الإستعمار) ونادى المنشور بضرورة (الإتحاد في سبيل سحب الجيوش من فلسطين).

 

أما الشيوعيون الفلسطينيون العرب، فقد أصدروا في 11 يوليو 1948، أي بعد يومين من إستئناف القتال بعد إنتهاء الهدنة الأولى وزعوه على السكان والجنود العرب طالبوا فيه بوقف الحرب (حالاً) والإعتراف لليهود بحق إقامة دولتهم في فلسطين. وفي نفس البيان يصفون الجيوش العربية بأنها محتلة دخلت أرض فلسطين وعليها أن تغادرها حالاً.

 

وقد تأخرت الحركة الشيوعية في مصر بعض الشيء عن الإعراب عن موقفها من الحرب الموشكة على الاندلاع. ولكن ما إن جاء شهر ديسمبر 1947 حتى إنضم الرفاق المصريون التابعون لسائر التنظيمات الشيوعية في مصر. لموقف الشيوعيين العراقيين والسوريين والفلسطينيين. ففي ديسمبر 1947 ينشر الحزب الشيوعي في نشرته (الوعي) بحثاً عن (المشكلة الفلسطينية) يقدم فيها براهينه على شرعية حق اليهود في تكوين دولة يهودية على أرض فلسطين.

 

وكانت مبررات الحزب الشيوعي المصري يومئذ كالتالي : (يرجع فهم الواقع الحالي لفلسطين من تطور اليهود فيها ونموهم كأمة جديدة. إن الحالة الجديدة في فلسطين لم تكن نتيجة لبعث الوطنية لدى يهود العالم كما تدعي خطأ الصهيونية، بل كانت نتيجة لمولد وطني جاء على أثر تجمع عوامل تاريخية متعددة أدت إلى جعل يهود فلسطين أمة. وإذا قلنا أمة وجب أن نعترف بحق تقرير المصير. وإذا قلنا حق تقرير المصير فمعنى ذلك تخويل الأمة حق الإنفصال. فإذا إعترفنا بحقيقة تكوين اليهود في فلسطين كأمة فلا يمكن أن ننكر عليهم حق الإنفصال عن الأمة العربية وتكوين دولة يهودية في جزء من البلاد).

 

وفي 29 يوليو 1948 يصدر أقوى التنظيمات الشيوعية المصرية "حدتو" بيانه الرسمي عن حرب فلسطين وفي هذا البيان وصفت الحرب في فلسطين بأنها (حرب دينية) دفع الإستعمار البريطاني ومن خلفه الإمبريالية الأمريكية جيوش الرجعية العربية لخوضها، وعاونوها بالسلاح (الفاسد) وعشرات الآلاف من الجنود البريطانيين الذين يحاربون في صفوف الجيش المصري (!!).

 

ويقول البيان صراحة: (لجأ الإستعمار عن طريق حلفائه في الشرق العربي إلى إشعال نيران الحرب الدينية في فلسطين كوسيلة لتحقيق أهداف الإستعمار. فهذه الحرب الدينية وسيلة جبارة لتحويل أنظار الشعوب العربية عن قضاياها الوطنية ومطالبها الإقتصادية، وتحويل صراعها الوطني ضد الإستعمار إلى صراع عنصري ضد اليهود، فالصحف الآن مليئة بأخبار هذه الحرب، وكأنه لم بعد هناك قضايا وطنية لشعوب العربية) (!!).

 

وفي إفتتاحية عدد 2 نوفمبر 1948 من نشرة "صوت البروليتاريا" التي تصدرها "المنظمة الشيوعية المصرية" وصف تدخل الجيوش العربية في فلسطين بأنه (غزو)؛ كما لخص رأي "المنظمة" في الحرب الدائرة منذ سبعة شهور فيما يلي:

•  إن هذه الحرب مناورة إستعمارية.

•  إن هذه الحرب هي الحرب البرجوازية العربية ضد البروليتاريا.

•  إن هذه الحرب قاعدة للهجوم على الإتحاد السوفييتي.

•  إن هذه الحرب موجهة ضد البروليتاريا اليهودية.

 

وفي عام 1949 ينشر الحزب الشيوعي المصري تقريراً رسمياً عن (تطور الرأسمالية وكفاح الطبقة العاملة في مصر) يجيء في صفحاته الأخيرة أن من أهم دوافع الحرب في فلسطين هو بالحرف الواحد (تمرين الجيش المصري على القتال إستعداداً للحرب العالمية القادمة ضد الإتحاد السوفييتي).

 

لقد كان الشيوعيون العرب وعدد قليل للغاية من الليبراليين العرب مع قبول قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة عربية ودولة يهودية. أي أنهم كانوا مع "الشرعية الدولية". وكان أوضح الليبراليين العرب في موقفه إسماعيل صدقي الذي رأس الوزارة في مصر من 1930 إلى 1933 ثم مرة ثانية خلال سنة 1946. وفي كلمته أمام البرلمان المصري بعد قرار التقسيم (نوفمبر 1947) أكد إسماعيل صدقي أن شن الحرب على الدولة اليهودية التي ستؤسس بناء على قرار مجلس الأمن سيكون كارثة على العرب وقد تحقق ما توقعه الشيوعيون العرب (قبل أن يبدلوا موقفهم) وتحقق ما توقعه إسماعيل صدقي – ومع ذلك فليس بين الكتاب العرب من لديه الشجاعة ليقول أن إسماعيل صدقي كان حكيماً وذا رؤية صائبة. بل أنهم يغفرون للذي ضيع سيناء والضفة الغربية والجولان وفوق ذلك القدس الشرقية – فهل هناك حاجة لدليل (بعد ذلك) أن الكثيرين منّا لا يزالون في طور "طفولة الشعوب" من الناحية الإدراكية؟