عالم بلا أيديولوجيات.

 

 

من المؤكد أنه لم يكن يجول بخاطر مثقف معني بالفكر والشئون السياسية حتى أوائل الثمانينات أن العالم – وقبل إنتهاء القرن الحالي – سيتحول إلى عالم بلا أيديولوجيات. فخلال العقود الثمانية الأولى من هذا القرن كان الفكر والواقع السياسيان في العالم محكومين بالإنقسام الكبير بين معسكر الإشتراكية ومعسكر الليبرالية. ورغم أن الساحة – ساحة الفكر والواقع السياسيين- قد شهدا خلال تلك السنوات عشرات المدارس والمذاهب الفكرية ، إلاِّ أن الساحة كانت – في مجملها – منقسمة إلى تيارين أساسيين: تيار الإشتراكية وتيار الليبرالية. وفي هذا الوقت، كان معظم المعنيين بالفكر والشئون السياسية يتوقعون إستمرار هذا الوضع وهذا الحال لسنوات طوال ، مع إستمرار كون الصراع العالمي – بين القوى المختلفة – محكوماً بجوهر وطبيعة هذا الإنقسام. ولكن سنوات العقد الماضي – سنوات الثمانينات – قد شهدت واحدة من أكبر المفاجآت في تاريخ الفكر والشئون السياسية على مستوى العالم: فبسبب الفشل الكبير لكل التجارب الإشتراكية إقتصادياً ، وما نجم عن تطبيقات الإشتراكية العملية من تأخر إقتصادي ودرجة كبيرة من الفقر وتدهور البحوث العلمية وتفاقم مشكلات البيروقراطية والفساد ، وبالإجمال إنهيار المؤسسات الصناعية والزراعية – في البلدان الإشتراكية – من الناحية الإقتصادية ، فقد حدث ما وصف بحق الزلزال ، حيث مادت الأرض تحت أقدام النظم الإشتراكية ، وأخذت أعلام ورايات هذه النظم في السقوط واحدة وراء الأخرى. ومع الفشل الإقتصادي الكبير للنظم الإشتراكية ، سقطت شعارات السياسية والإجتماعية .. ووصلت الأمور بالإتحاد السوفيتي – الآن – لحافة الإنهيار الكامل والتصدع الشامل.

 

وهكذا ، فإن البشرية تدخل العقد الأخير من عقود هذا القرن ، وأحد أكبر معالم الفكر والشئون السياسية في هذا القرن قد زالت وتهاوت: فالدنيا لم تعد محكومة بالصراع بين الإشتراكية والليبرالية ، والدنيا لم تعد منقسمة إلى معسكر يقوده الإتحاد السوفيتي ومعسكر تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ، وإنما أصبح العالم منقسماً إلى (ناجحين) و(فاشلين)؛ ويمكن أيضاً أن نقول: إن العالم أصبح منقسماً إلى قسم يسوده الرواج والنجاح والإزدهار الإقتصادي وما ينجم عن ذلك من إستقرار سياسي وإجتماعي ، وقسم يسوده الكساد والفشل والإنحدار الإقتصادي وما ينجم عن ذلك من قلق سياسي وإلتهاب إجتماعي.

 

إن الحقيقة الكبرى التي علينا أن نعيها ، أن الدنيا قد تحولت إلى دنيا بلا أيديولوجيات أي دنيا بلا مذهبية .. وأن الإنقسام القائم هو الإنقسام بين (أهل الصواب والعمل والإتقان) وبين (أهل الخطأ والكسل والسوء).

 

وعلينا أن نعي أن سلاح النظم الإشتراكية الأكبر وهو (الكلام) و(الشعارات) وبتعبير أدق (الديماجوجية) قد أصبح سلاحاً يثير الرثاء دون أن يكون بوسعه أن يحدث أي أثر آخر. ومع هذا التحول الكبير في العالم وفي طبيعة العلاقات بين (القوي) و(الكتل) و(الدول) ، فإن علينا أيضاً أن نعلم أن الدنيا – بحكم هذا التحول الكبير في الأوضاع – قد أصبحت تنقسم إلى دنيا الذين يساهمون في صنع مستقبلهم ولا ينتظرون هذا المستقبل بالذات حتى يأتي ، ودنيا (المتفرجين) من (السذج) و(الطيبين) الذين يقفون من الحياة والمستقبل بالذات موقف المتفرج ؛ فهم ينتظرونه ويشاهدونه دون أن يعملوا على صناعته وتشكيله. إن المستقبل سيكون من نصيب أولئك الذين يعملون – من الآن – على المساهمة في صنعه دون الرضا بموقف الإنتظار لما سيأتي به القطار.

 

وهكذا ، فإننا في كل لحظة نجد أنفسنا ونجد بلدنا مصر في موقف تاريخي مصيري: فكل أحداث العالم من حولنا (وأهمها إنهيار قلاع الإشتراكية وزلزال الخليج) قد أوضحت أن مصر – بحكم الحتمية الجيوبوليتيكية – هي دولة ذات وزن وقدر وأهمية تفوق كل دول المنطقة ، وأنها مؤهلة – إن أرادت – لكي تلعب دوراً بالغ الأهمية والحيوية. ويحتم هذا قيامنا بإختيارات مصيرية كبيرة سيكون من الضار (بلا حدود) عدم الإسراع بها. إن علينا أن نلتحق بركب لناجحين إقتصادياً ، وليست هناك حاجة لتكرار ما كتبناه مراراً في هذا الشأن: فإن الفشل يصنعه الفاشلون والنجاح يصنعه الناجحون ؛ وعلينا أن نكون شديدي الإيمان بأن إختياراتنا الإستراتيجية (سياسياً) خلال الشهور الماضية (منذ الثاني من أغسطس 1990) كانت كلها إختيارات صائبة وعقلانية ومتحضرة وراجحة ، وأن علينا أن نتسق معها في المستقبل القريب في كل إختياراتنا السياسية (الداخلية والخارجية) وكذلك في كل إختياراتنا الإقتصادية ؛ فمصر دولة غنية بكل المعايير ، ولا يوجد سبب وراء مشاكلها الإقتصادية الحالية إلاِّ مجموعة الإختيارات الخاطئة التي حان وقت إسقاط ما تبقى منها ؛ ناهيك عن ضرورة التخلص من (صناع الفشل) والذين يتساقطون الآن في الداخل والخارج كتساقط الذباب الميت.