ظاهرةٌ هندية؟ … أم ظاهرة ديموقراطية؟

في الوقتِ الذي لا يوجد مجتمعٌ مسلمٌ واحدٌ في العالمِ لم يقم بتوريدِ "مجاهدين" (؟) لتنظيمِ القاعدةِ أو لتنظيماتِ القاعدةِ (إذ أن هناك أعضاءً في تنظيمِ القاعدةِ وما يشابها من كافةِ المجتمعاتِ المسلمةِ)؛ فإن مجتمعاً مسلماً واحداً لم يشارك في هذه الظاهرة. هذا المجتمع هو ثاني أكبر مجتمع للمسلمين على وجه الكرة الأرضية وأعني مجتمع مسلمي الهند. إن هذا المجتمعَ والذي يضم أكثر من مائة وخمسين مليون مسلم والذي هو ثاني أكبر تجمع للمسلمين بعد إندونيسيا، هو المجتمع المسلم الوحيد الذي لم يخرج بعض أبنائه خارج حدود الهند لتنفيذ أو المشاركة في أو التخطيط لعمليات عنف يسميها أصحابها جهادية ويسميها العالم إرهابية.

 

إن مجتمعَ مسلمي الهند ليس مجتمعاً ثرياً وإنما يشترك مع المجتمع الهندي في ظروفه الحياتية والتي تجعل نسبةً كبيرةً من أبناءه أبعد ما يكونون عن الثراء والرفاهية.

 

ومع ذلك فإن هذا المجتمع المسلم (150 مليون نسمة) لم يفرّغ مَنْ خَطَطَ أو نَفَذَ أو شَارَكَ في أية عمليةٍ مثل عملية نيويورك (11 سبتمبر 2001) أو العمليات التي تلتها في مدريد ولندن وإسطنبول وطابا وشرم الشيخ وغيرها.

 

كذلك، فإن مجتمع مسلمي الهند (رغم كونه أقلية) فقد أفرز عالماً كبيراً أصبح اليوم يشغل منصب رئيس جمهورية الهند.

 

والأهم، هو مجتمع الهند المسلم هو المجتمع المسلم الوحيد الذي يعيش في ظلِ ديموقراطيةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ.

 

ما الذي يخرج به الإنسانُ من تأملِ تلك الحقائق وتفحصها؟

 

يخرج بنتيجةٍ واضحةٍ هي أن في داخلِ كل إنسانٍ على وجهِ الأرض "كائن سياسي". وأن حجم هذا الكائن يختلف من إنسانٍ لآخرٍ، لكنه لا يختفي أبداً. وأن هذا الكائن إذا وجدَ في محيطِه العام قنواتٍ واضحة وشرعية وفعالة يستطيع من خلالها ممارسة الأنشطة الطبيعية لأي كائن سياسي؛ فإنه من المستحيل أن يبحث عن أنشطةٍ سياسيةٍ تحت الأرض أو خفية أو سرية.

 

إن الهند ليست مجرد "دولة ديموقراطية" ولكنها أكبرُ ديموقراطية على وجه الأرض. وهذه الديموقراطية الكبيرة لم تنجح فقط في تحقيق حلم شعب عظيم في حياةٍ ديموقراطية سليمة؛ وإنما خطت به خطوات كبيرة في عوالم الاقتصاد والبحث العلمي والإنتاج والتسويق والتعليم العصري … كما أنها احتوت تنوعات المجتمع الهندي احتواءً فذاً … فإذا بأقليةِ السيخ (2% من مجمل الشعب الهندي) تفرز رئيس الوزراء الحالي (أي القائد التنفيذي الأول في الهند) ……

وإذا بالأقلية المسلمة تفرز رئيس الجمهورية الحالي …… وإذا بجامعات الهند (على خلاف جامعات كل دول العالم الثالث) هي وحدها المدرجة على المستوى العالمي العالي (بينما لم يرد اسم أقدم جامعة في العالم العربي وهي جامعة القاهرة ضمن أفضل 500 جامعة في العالم). والأهم من كل ما مضى، أن الهند أثبتت أن المسلمين (مثل كل البشر) إذا عاشوا في مُناخٍ عام يوفر لهم المشاركة الكاملة في صياغة الحياة السياسية؛ فإنهم لا يلجأون لأنشطة تحت الأرض ولا يقادون من كهوف جبال شمال باكستان ولا يغادرون الهند لتفجير طائرة أو قطار أو حافلة ركاب مدنيين أبرياء.

 

إن الهند تقدم تلك المعادلة المعجزة رغم الصعوبات الكبرى التي تواجه من يتصدى لإدارة شئون مجتمع عدد أفراده أكثر من مليار نسمة.

 

إن المشكلة الكبرى في قضية ما يسميه الغرب بالتطرف الإسلامي ، هي أن الغرب أمضى وقتاً طويلاً يفحصُ تلك الظاهرة ويدرسها بالإشتراك مع صناعها (!!!) أي نظم الحكم في المجتمعات الإسلامية والتي أفرزت الظروف الحياتية وبالذات السياسة والفكرية التي دفعت بآلاف الشباب المسلم للإنتقال من جانب الإعتدال إلى جانب التطرف. ولم يفق الغرب من تلك الدوخة إلاِّ منذ وقتٍ قريب. ومنذ أفاق وهو يتخبط متسأئلاً: ما العمل؟ .. وفي حالة التخبط هذه تأتي إجاباتٌ شتى معظمها لا يشير بأصبع الإتهام لمصدر وصناع المناخ الذي أفرز هذا المرض وأولئك الذين أصبحت شرعيتهم الحالية مستمدة من عناصر من بينها البقاء لمحاربة المارد الذي هم من صناع حجمه الحالي وتغلغله في معظم المجتمعات المسلمة.

 

وإذا كانت بريطانيا زمن كونها القوى العظمى الأكبر في العالم تفهم الدنيا والمجتمعات والحضارات (ولم يثنها ذلك عن ترك معضلات بلا عدد وقنابل قابلة للانفجار في أكثر من مكان) فإن القوى العظمى الأكبر في العالم اليوم لا تكاد تعرف شيئاً عن (الآخرين) (بكل معاني الغيرية). وهو ما ينذر بأسوأ الاحتمالات إذا لم يقم نفرٌ منا بحوارات مع "عقل أمريكا" حتى لا تفاجئ البشرية في مجال التطرف هذا بمفاجأة في الوزن والحجم الأمريكي (!!!) …