دار الفرسان المعدلة .

أَ صدرت دار الفرسان في القاهرة (وستصدر في المستقبل القريب إحدى دور النشر الأمريكية الكبرى) كتاباً ضخماً في نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير باللغة الإنجليزية للمفكر السياسي والاقتصادي المصري طارق حجيّ – وقد صدرت الطبعة القاهرية بعنوان ( فصول سياسية مصرية) بينما ستصدر الطبعة الأمريكية بعنوان (مشكلات مصر – المسببات والعلاج). ويضم هذا "السفر الضخم" 36 فصلاً من الكتب الإحدى عشر التي صدرت للمؤلف باللغة العربية خلال اثنين وعشرين سنة(1978 / 2000).

ويمكن اعتبار هذا العمل الذي استغرق من صاحبه نحو خمس سنوات من العمل اليومي المتواصل (إذ قام بنفسه بترجمة هذا الكم الهائل من كتاباته بالعربية) نموذج مصغر للمشروع الفكري لطارق حجيِّ والذي بدأه باصدار أول مؤلفاته وهو (أفكار ماركسية في الميزان) سنة 1978 وكان كتابه الحادي عشر (الثقافة أولاً واخيراً) والذي اصدرت دار المعارف طبعتة الأولى في العام الماضي كما اصدرت مكتبة الأسرة طبعنه الثانية في نفس العام أحدث حلقات هذا المشروع الفكري المتكامل والذي يتكون من ثلاث رقائق أو طبقات هي كما يلي :

 

أولاً : تقديم نقد علمي رصين للفكر والتجارب الاشتراكية يثبت عدم قدرة هذا الفكر وتلك التجارب على تحقيق (المجتمع الفاضل) الذي كانت الاشتراكية تزعم أنها سوف تقوم بتشييده . وقد أصدر ثلاث كتب ما بين 1978 و1983 باللغة العربية واختار ثمانية فصول منها وترجمها إلى اللغة الإنجليزية وضمها لهذا السفر الذي نسميه (مختارات من مؤلفات طارق حجيّ). ويُعد هذا القسم بمثابة ( الأرضية الأساسية) لفكر طارق حجيّ – فهو يرجع العديد من عيوب واقعنا المعاصر للفكر والتجربة الاشتراكية في مصر كما انه يرجع لها فشل القطاع العام اقتصادياً وإدارياً وكذلك "سوء إدارة" مؤسسات بأكملها كالمؤسسة التعليمية والإعلامية والزراعية وغيرها. وكما أشارت تعليقات العديد من النقاد، فإن طارق حجيّ لم يكتف (في السبعينات) بتوقع انهيار المعسكر الاشتراكي – بل وصف عشرات الصفحات الكيفية التي سيتم بها هذا الانهيار وخلاصة كتاباته في هذا المجال ان الاتحاد السوفيتي والدول التي كانت تدور في فلكه لن ينهار بفعل مؤثر أو مؤثرات خارجية وانما بفعل (تآكل النظام السياسي) كنتيجة حتمية لتآكل النظام الاقتصادي وما يؤدي إليه من تفكك اجتماعي . بل ان طارق حجيّ كتب في سنة 1978 يقول ان المؤثرات الخارجية ( مثل الغزو الألماني) مدّت في عمر النظام الذي كان يسير بخطوات سريعة خلال النصف الثاني من الثلاثينات تجاه التآكل الاقتصادي الكلي كنتيجة طبيعية للنظم الإدارية الفاشلة التي تخلقها النظم الاشتراكية.
 
رغم ان كتب طارق حجيِّ الثلاثة عن الماركسية قد حظيت في الداخل والخارج بعشرات التعليقات التي اعتبرتها من أعمق وأَرقى ما كتب بالعربية في مجال نقد الماركسية (النظرية والتجارب)، فربما تكون كلمات الكاتب الماركسي (سابقاً) الراحل "عبد الستار الطويلة" في واحد من أخر كتبه أصدق ما كتب عن نقد طارق حجي للماركسية بقول الكاتب الراحل عبد الستار الطويلة :( وكان طارق حجي .. على حقٍ .. وكان يتميّز عن غيره أنه كان يؤصل نقده للنظرية الماركسية بأدواتها نفسها .. ويكشف عن تناقضاتها مع حقائق العصر .. وكان ينقد التطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي لكنه كان يركز على النظريةِ كنظريةٍ . ومع ذلك لم يبخس كارل ماركس وفريدريك انجلز حقهما كمفكرين كبيرين أضافا الى البشرية محاولةً لفهم الواقع واصلاحه .. كان طارق حجي من الكتاب القلائل المنظرين في موضوعية وتهذب علمي راق.. وكنا نحن اليساريين ندير ظهورَنا الى ما يكتبه..ونهاجمه...)

 

ثانياً :عمل استعراض تحليليي دقيق لمشكلات الواقع المصري المعاصر في ستة كتب بدأت بكتابه ( ما العمل؟) سنة 1986 وانتهت بكتابه (نظرات في الواقع المصري) سنة 1995 – وهو في هذه الكتب الستة يقوم بعملية تشريح سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لواقعنا المعاصر بوجه عام ولسلبياته بوجه خاص . وقد اختار المؤلف خمسة عشر فصلاً من فصول هذه الكتب الستة وترجمها إلى الإنجليزية وضمها لهذا السفر الضخم الجديد. وفي هذه الفصول تحليل تشريحي عميق لمشكلات الحياة الاقتصادية والصناعية والزراعية والسياحية والتعليم والإعلام في مصر بشكل يرسم صورة نهائية تتمثل فيما يسميه طارق حجيّ ( فشل إدارة المجتمع) خلال الخمسينات والستينات والسبعينات . وهو الفشل الذي يرى طارق حجيّ أنه البوتقة التي منها خرجت كل علل وعيوب وسلبيات حياتنا المعاصرة اليوم في مصر . كما أنها البوتقة التي أفرزت ( الطرح الأصولي) والذي يقول طارق حجيّ انه يفهم (غضبه) ولكنه يرفض كلية (الروشتة) التي يقدمها هذا الطرح الأصولي.
وعلى كثرة ما كتب عن مؤلفات هذه المرحلة من كتابات طارق حجيِّ، فربما تكون أفضلها أربع تعليقات هي كالتالي:

 

- طارق حجي يكتب بعقليةِ عالمٍ ، وأسلوبِ أديبٍ ، ومنطقِِ فيلسوفٍ …

مأمون غريب -مجلة آخر ساعة – 9/9/1992

 

- طارق حجي … إداري ناجح ومفكر متطور ، أفكاره تجئ على شكل عباراتٍ

حكيمة ، أي حقائق مكثفة مبسطة ، شكلها بسيط ولكن مضمونها ليس كذلك …

أنيس منصور – جريدة الأهرام – 4/3/1993

 

•  يعكس طارق حجي في كتبه نبض المثقفين المصريين وإتفاقهم حول أهمية إحداث

تغيير جوهري في حياة مصر العامة …

أحمد بهجت (1993)

 

•  إن كلام طارق حجي سليمُُ له حجية ولا يمكن ان يقال أنه كلام جرايد فهو صادر من

باحث سياسي وإجتماعي إشتهر بعمق التفكير والتجرد ..

نجيب المستكاوي- الأهرام الرياضي – 29/5/1991

ثالثاً واخيراً : فأن آخر كتابين لطارق حجيّ باللغة العربية وهما ( نقد العقل العربي) و (الثقافة أولاً واخيراً ) يمثلان ( رأس مشروعه الفكري) والذي يرى أن لكل مشكلات واقعنا المعاصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية نوعين من (أدوات العلاج) ، أما النوع الأول فله تأثير على المدى الزمني القصير والمتوسط وهو (تطبيق تقنيات علوم الإدارة والتسويق الحديثة) – إلا انه يرى ان قدرة هذه الأَداة على الإصلاح هي قدرة نسبية أي إنها يمكنها ( الإصلاح إلى حِد ما) ... أما الأداة الثانية والتي بمكنتها تحقيق الإصلاح الكامل ولكن على المدى الطويل فهي الإدارة التي تتمثل في إصلاح مؤَسساتنا التعليمية إصلاحاً شاملاً يتضمن عناصر المعادلة الأربعة ( المدرس – البرامج التعليمية – المنشئات التعليمية – التلميذ ) . وكما قال معلق أدبي منذ أيام فان أهم ما في المشروع الفكري لطارق حجيّ هو أنه صاحب أول فكر متكامل يربط ( القيم) و (التعليم) و (علوم الإدارة الحديثة) ببعضها ربطاً واضحاً للغاية ويبدو من وضوحه وبساطته أنه لا يمكن أن يكون صحيحاً – رغم أن أعظم الأفكار ليست بالضرورة معقدة ومركبة وتقدم في شكل فلسفي لا يستوعبه إلا خاصة الخاصة.
 
وربما يكون طارق حجيّ هو المفكر العربي الوحيد الذي يقول دعنا نتفق على مجموعة القيم الأساسية التي سنسميها (قيم التقدم والإبداع) ثم دعنا نضع البرامج التعليمية على أساس خدمة هذه القيم وأنا أضمن لكم أننا سنكون قادرين على ( تفريخ) مئات الآلاف من البشر الذين يمثلون النموذج العصري الذي قاد كل المجتمعات التي تقدمت اقتصادياً وما تبع ذلك من تقدم سياسي (توسيع لدوائر الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان) وفي نفس الوقت تقدم اجتماعي ( يتمثل في بناء طبقة وسطى قوية ومتماسكة وصلبة وعصرية وغير متروكة نهباً لقوى الظلام والتخلف والماضوية – مع ما يعنيه ذلك من سلام اجتماعي).
وقد تضمن السفرُ الضخم الذي أصدره طارق حجيّ حديثاً بالإنجليزية ثلاثة عشر فصلاً من الفصول التي تنتمي لهذا الطور من أطوار مشروعه والذي يدور حول المحاور الثلاثة التالية : الإدارة – التعليم – الثقافة .
 
ونظراً لأن هذا السفر الضخم الجديد الذي صدر مؤخراً بالإنجليزية قد وضع في نفس الوقت (بأكمله ومجاناً ) على موقع خاص بشبكة الإنترنت ؛ فقد اتفقت مجموعة من الجامعات الأمريكية الكبرى (عشر جامعات) من بينها جامعة برينستون وجامعة كولومبيا وجامعة ميريلاند وجامعة كاليفورنيا بيركلي على استضافة طارق حجيّ لمدة شهر بدأ يوم 26 يناير الماضي ليحاضر عن مشروعه الفكري الوارد بكتابه الجديد بأقسام دراسات الشرق الأوسط بهذه الجامعات وأمام جمهور يقتصر عل طلبة الدكتوراه وأساتذة العلوم السياسية المهتمين بشئون الشرق الأوسط .
 
وربما لا توجد كلمات تشييد بالجهد الفكري الكبير الذي بذله طارق حجيّ في مؤلفاته بوجه عام وفي هذا الكتاب بوجه خاص أفضل من كلمات الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش التي نشرت بالأهرام يوم 28 مايو 2000 عندما وصف طارق حجيّ في عنوان مقاله ( بناقد العقل العربي) وقال (ضمن ما قال) : (طارق حجيّ قارئ ممتاز وعاشق للثقافة الى حد التصوف ، وهو بعيد كل البعد عن الافتعال والادعاء . وهو من الذين يحملون في قلوبهم وعقولهم قلقاً نبيلاً من أجل المعرفة والكمال الفكري والروحي ومن الذين يحملون في أعماقهم يقيناً بأن الثقافة هي الأداة المثالية التي تعتمد عليها المجتمعات الحية في تكوين الأخلاق العامة و الأخلاق الشخصية بصورتهما المثالية). كما يضيف الكاتب الكبير في نفس المقال قوله عن كتاب نقد العقل العربي (والذي ترجمت معظم فصوله للانجليزية ونشرت بهذا السفر الضخم الجديد) يقول رجاء النقاش: ( كتاب"نقد العقل العربي" كتاب رائع ودقيق وملئ بالإلهام لكل الذين يريدون أن يتحرروا من الامراض العقلية وينطلقوا في طريق صحة العقل وسلامة التفكير . والكتاب لا يتجاوز 172 صفحة من سلسلة أقرأ ومع ذلك فهذا الكتاب يبدوا لي موسوعة كبيرة هي ثمرة شديدة التركيز لثقافة واعية وخبرة واسعة وحطة فكرية وروحية عالية القيمة لنهضة مصر والعرب وليس المجال مناسباً لتلخيص هذا الكتاب البديع تلخيصاً وافياً.