تأملات في جنازة الملك الحسين .

إتفقت الآراءُ علي "الذهول" من حجم إهتمام العالم بوجهٍ عامٍ والعالم الغربي بوجهٍ خاصٍ بالأيام الأخيرة للملك حسين ثم موته وجنازته الفريدة. ولكن في المقابل، اختلفت الآراءُ في تفسير هذه الظاهرة وتباينت وجهاتُ النظر إلي أبعد حدود التباين. فالبعضُ أرجع تلك الظاهرة إلي إهتمام العالم بالدور الأردني في الشرق الأوسط، وهو أضعف الآراء قاطبة، لأن الوزن الإستراتيجي للدور الأردني اقلُ –بكثيرٍ- من الوزن الإستراتيجي لأدوار كل من مصر وإسرائيل وسوريا. ولا يعني ذلك "انعدام" أهمية الدور الأردني، وإنما يعني أن هذا الدور أصغرُ بكثيرٍ من حجم الاهتمام العالمي والدولي (والغربي بوجه خاص) بمرض وموت وجنازة الملك حسين. وهناك من قال بأن الملك حسين كان حليف الغرب، وأن ذلك التحالف هو الذي أغرى بتلك الحفاوة البالغة من الغرب بمرض وموت وجنازة الملك حسين . وهذا الرأي (وإن كانت له وجاهته ومساهمته في الظاهرة التي يتناولها في هذا المقال) هو رأي غير سليم بشكل تام ، لأن العديد من الحكام حلفاء الغرب قد ماتوا دون أن يحظوا باهتمام مماثل للاهتمام الذي حظي به الملك حسين بن طلال في مرضه الأخير وموته وجنازته التي شغلت أكثر محطات التليفزيون العالمية لعشرات الساعات المتتالية بل ولدرجة أن قناة تليفزيونية بشهرة وعالمية قناة "سي – إن - إن" استمرت في تقديم جنازة الملك حسين لأكثر من 12 ساعة دون انقطاع وهو ما لم يسبق حدوثه حتى بالنسبة لوقائع وأحداث على أعلى درجات الأهمية .

 

فما هو التفسير الحقيقي لهذا الاهتمام المذهل وغير المسبوق ؟

 

يعتقد كاتبُ هذه السطور (وعلى أساس تجربة عمرها أكثر من عشرين سنة من الحياة والتعامل مع العقل الغربي من خلال عمله في واحدة من أكبر المؤسسات متعددة الجنسية) أن الكلمة التي أدلى به أحد الساسة الأمريكيين المعروفين وهو في نفس الوقت منظر استراتيجي عالمي معروف – هذه الكلمة التي أدلى بها عقب جنازة الملك حسين تحمل في طيّاتها مفتاح هذا اللغز . فقد قال هذا السياسي والمنظر الاستراتيجي العالمي المعروف (أن الملك حسين ربما يكون السياسي العربي الوحيد الذي كان (أي المتحدث)يشعر أنه يفهم حديثه وكلامه وآراءه فهماً كاملاً وبوضوح) . ورغم أن بالعبارة المذكورة قدر غير خفي من المبالغة ؛ فإن المعنى يبقى واضحاً .

لقد ذكرتني هذه العبارة ذات المعنى العميق للغاية بمئات الاجتماعات التي كنت أشارك فيها (ضمن آخرين من الإدارة العليا لإحدى المؤسسات الاقتصادية الغربية) مع مسئولين كبار في أكثر من بلد عربي ، وكيف كان كلُ طرفٍ يعتقد أنه يفهم الطرف الثاني ، ولكن ما أن تنتهي الاجتماعات وتبدأ مرحلة المتابعة والتنفيذ حتى يتضح أن الفهم المزعوم لم يكن إلا سراباً محضاً ، وأن كل طرفٍ قد فهم شيئاً مختلفاً. ومع مرور الأعوام ، أصبحت أدرك النقاط التي يبدأ فيها فهمُ كل طرفٍ في الانشقاق والابتعاد عن الفهم الذي يتكون في عقل ومخيلة الطرف الآخر . وأصبحتُ – بمرور الزمن – أقدر على إيقاف الحوار وطرح أسئلة على الطرفين تظهر بوضوح – من خلال الإجابات – أن الفهم متباين وأن ما يحسبه الطرفان "تفاهماً" هو أمر وهمي ليس له أيّ وجودٍ حقيقي . وربما من خلال إتقان هذه الجزئية أصبح بوسع كاتب هذه السطور أن يقوم بمهمةٍ كبيرةٍ لقرابة عشر سنوات تقوم في الأساس على معرفة الاحتياجات الاستراتيجية والممكن وغير الممكن لطرفي المشروعات العملاقة التي كانت محور هذه العلاقات .

 

إستعادت الذاكرةُ عشرات الصور التي كان فيها "العقل الغربي" يفهم – من نفس الحوار والمناقشة – شيئاً مختلفاً تماماً عما يفهمه "العقل العربي" . وقد استغرقتني – بعد ذلك – محاولةُ فهم جذور هذا التباين لسنوات . وخلصت لحقيقة أن استعمال اللغة بين العقل الغربي والعقل العربي مختلف إلى أبعد الحدود . كذلك فإن اختلاف مكونات الثقافة (من تاريخ إلى دين إلى عشرات المناطق الأخرى) يُساهم بقوةٍ في خلق هذه الظاهرة : ظاهرة عدم الفهم المشترك لنفس الكلام والمواقف والآراء بين العقل الغربي والعقل العربي . وقد درجت على تسمية هذه الظاهرة بالفجوة الثقافية بين العقلين : الغربي والعربي . فالظاهرة في أساسها ظاهرة ثقافية (بالمعنى الواسع للثقافة) .

 

ولا شك عندي أن الموضوع الساخن الذي أثير ثقافياً منذ سنوات قليلة عن "صدام الحضارات" هو موضوع بالغ الاتصال بهذه الظاهرة – ظاهرة الفجوة الثقافية بين العقلين : الغربي والعربي . وكما قلت في محاضرةٍ دعاني لها معهدُ العلاقات الخارجية الألماني (في مايو 1998) فإن التساؤل عن مستقبل العلاقة بين "الحضارة الغربية" والحضارة العربية أو الإسلامية هو في أساسه سؤال عن هذه الفجوة الثقافية . فإذا عملت البشريةُ على تفهم مكونات الاختلاف ، كانت النتيجةُ تقلص (وليس اختفاء) الفجوة الثقافية . وبالعكس ، فإذا ظلت البشريةُ مهملةً لهذه الظاهرة ، فإن الفجوة الثقافية سوف تزداد اتساعاً . وحسب السيناريو الأول ، فإن التعايش بين الحضارات سوف يسود ، بينما سيؤدي السيناريو الثاني لصدام مؤكد بين الحضارات . وهنا ، فإن من الواجب تذكر أنه حسب فهم الفيلسوف الفرنسي الشهير سارتر – لا يوجد شئ أسمه المستقبل ؛ المستقبل هو نتيجة ما نصنعه الآن .

 

تذكرت كل ذلك وأنا أتأمل ظاهرة جنازة الملك حسين ، لكونها التجسيد الحقيقي لحالةٍ نادرة لم تكن هناك فيها فجوة بين العقل العربي (ممثلاً في الملك حسين) والعقل الغربي (ممثلاً فيمن تعاملوا معه عبر عقود الزمان) من الغربيين الذين وجدوا في تعاملهم معه دفئاً ثقافياً منبعه عدم وجود تلك الفجوة الثقافية – والفضل الأول والأخير هنا للتكوين العقلي والثقافي للملك حسين .

 

ولا شك عندي ان الكثير من حالات ومواقف التأزم في العلاقات السياسية والاقتصادية بيننا وبين العديد من الجهات الأمريكية والأوروبية إنما يتصل اتصالاً وثيقاً بظاهرة الفجوة الثقافية التي أشرت إليها آنفاً. كما أن الكثير من التعاطف والتقارب السائد بين إسرائيل وتلك الجهات إنما يرجع لعدم وجود هذه الفجوة الثقافية . ولا شك أيضاً عندي أن شكل القيادات السياسية والاقتصادية والإدارية التي ستقود حياتنا العامة في المستقبل سوف يحدد نصيبها من النجاح قدر تمكنها من معرفة وفهم ثقافة (ومنهج تفكير) الحضارة المتربعة حالياً على عرش قيادة العالم . وسيكون من العبث المحض أن يفهم البعض أنني أدعو للإيمان ما يؤمن به الغربيون وإلى اعتناق وجهات نظرهم في العديد م الأمور ، فذلك لم ولا يمكن أن يكون جوهر ما أقصد إليه. فقصدي يتعلق بفهم مكونات العقل الغربي ، وهي مسألة قائمة بذاتها ومستقلة عن تبني وجهات نظر الغرب ، لا سيما وأن تعبير "وجهات نظر الغرب" هو تعبير غير علمي ، فلا توجد وجهة نظر واحدة للغرب في أية مسألة من المسائل ، ولكنني أتحدث عن معرفة عميقة بنشأة وتكوين العقل الغربي ومناهجه في الوصول إلى الآراء . وأكرر أن المفيد هنا (وهو المتوفر لمعظم الشخصيات الإسرائيلية) هو المعرفة العميقة بنشأة وتكوين وآلية عمل العقل الغربي ومناهجه في التفكير والتحليل والتبرير – وليس المهم هو الانصياع لنتائج كل ذلك وللآراء ووجهات النظر المنبثقة عن كل ذلك .