المستقبل : ننتظره .. أم نصنعه ؟

نبتت فكرةُ هذا المقال أثناء إنصاتي لجدلٍ بين شخصيتين مرموقتين على المستوى الفكري والثقافي في واقعنا. كان الحوارُ حول الإتفاق السوداني/ السوداني الذي أُبرم بين جنوب السودان والذي يمثله جون قرنق وحكومة السودان المركزية في العاصمة الكينية نيروبي منذ أيامٍ . كان المحاورُ الأول من أبناء ثقافة المنطقة الذين لم تسمح ظروفُهم بتجاوز مناهج التفكير التي كنا عليها حتى الستينات .. وكان المحاورُ الثاني (رغم كونه في الثمانين من عمره) يحلل ويفكر ويتكلم بما يعكس بوضوحٍ أنه قد تشبع بمتغيراتِ العالمِ خلال السنوات الثلاثين الأخيرة . وجه المحاورُ الأول سؤالاً إستاتيكياً للمحاور الثاني: "هل الإتفاق الذي أُبرم مؤخراً في نيروبي في مصلحةِ مصرَ .. أم أنه ضارٌ بمصالحِها؟" .. وأسهب المحاورُ الثاني في الإجابةِ والتي كانت خلاصتها: أن الأمرَ يتوقف على ما سنقوم نحن به .. فإذا بقينا نردد أن السودان إختراعٌ مصري .. وإذا أسهبنا في الحديثِ عن السودان الذي كان على يد محمد علي وأبناءه قطعةً من واقعنا .. وإذا واصلنا تكرار أن أي مساس بمصادر المياه يضر بمصالح مصر سيؤدي إلى كذا وكذا فإن هذا التفكيرَ الإستاتيكي الماضوي سيؤدي حتماً لواقعٍ سيكون فيه الإتفاقُ المُبرم ضاراً لنا وبنا . أما إذا تعاملنا مع الواقعِ بمفرداتِ العصر وأقمنا ديالوج صحي وبنّاء مع كلِ الأطرافِ وعلى أساسٍ من الإحترامِ وبمحاذاة ذلك قمنا بخلقِ مصالح مشتركة مع الواقعِ الجديد (مرة أخرى: مصالح مشتركة وليس شعارات مشتركة) فإن إتفاقَ نيروبي قد يؤدي لواقعٍ مفيدٍ لمصرَ . لم يفهم المحاورُ الأول الإجابةَ بل ظن أن المحاورَ الثاني لم يجب عن سؤاله ، فكرر السؤال أكثر من مرةٍ وهو ما نبهني إلى المعضلة التي كانت متجسدةً أمام عيني وهي أن عقولَ الكثيرين جداً منا (من العامةِ ومن الخاصةِ على السواء) عقولٌ إستاتيكية ماضوية تشغلها شعاراتٌ وأشياءٌ يسمونها بالثوابت وتغفل عن حقائقِ العصر وآلياتِ الواقع المُعاش . فالحقيقةُ أن عبارة (ثوابتنا) هي عبارة ماضوية بلا أي معنى . فإذا كان المقصودُ "خصوصياتنا الثقافية": فإن هذه الخصوصيات من جهةٍ فيها الإيجابي وفيها السلبي وكلاهما غير ثابت وإنما متغيرٌ وهو ما ينفي عما يسميه البعضُ بالثوابت صفةَ الثبات . وإذا أصر البعضُ على وجود ثوابتٍ ، فإن الثوابتِ الوحيدة في عالمنا هي : الإيمان بالعلم والمصالح وسوف ينمو بُعدٌ ثالثٌ هو "الإنسانية" وتضمحل في مواجهة ذلك "ثوابت أخرى" (!) مثل الإستغراق في القومية والماضوية والمحلية . ولا يوجد دليل على كون الأغلبية العظمى منا (من العامة ومن الخاصة على السواء) تقف اليوم خارج العصر في مناهجِ تفكيرها أكثر وأقوى من أن العالمَ الخارجي مندهشٌ من شعاراتنا كما أنه لا يقرأ لأيٍّ من كتّابنا ومفكرينا (بإستثناء المبدعين وهذا ما لا أقصده هنا وبإستثناء كاتب سياسي واحد يكتبُ بالعربية ويقرأ له العالمُ لا لصوابِ ما يقول ولكن للجودة الشديدة لعنصره: فالعالم الحديث يعجب بالعنصر القيّم وإن إختلف معه) . إننا نحفر لأنفسنا كهفاً خارج الإنسانية بطرائق تفكيرنا الإستاتيكية والتي تتجاهل حقائق العصر وموازين القوة الحديثة .. ولا أدل على ذلك من أن أنصارنا القدامى (مثل الهند والصين وأوربا الشرقية وروسيا) قد أخذوا يبتعدون عن وجهاتِ نظرِنا في العديدِ من المسائل لأنهم إنخرطوا في معادلة العصر أما نحن فقد وقف معظمنا يحفرون كهفاً خارج العصر ويتحدثون حديثاً سواده الأعظم إما ماضوي أو عن ثوابتٍ ليست هي من جهةٍ "ثوابت" كما أنها منبتة الصلة بالعصر .. ويؤدي ذلك لتفاقم إنعزالنا الفكري عن الدنيا وإنصرافِ عددٍ من أنصارنا التقليديين ناهيك عن كارثة الكوارث وهي تواصل إضاعة الفرص ثم تواصل البقاء في وضعٍ هو الوضع الأمثل ضد الديمقراطية والتنمية .

 

والتعامل مع تحديات الواقع بمنهج إستاتيكي ينطلق من جهةٍ مما يسميه البعضُ بالثوابت كما أنه يتجاهل من جهةٍ ثانيةٍ معطياتِ الواقع المعاصر ويتسم من جهةٍ ثالثة بالإغراق في الماضوية هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لثقافاتٍ تؤمن بالمستقبل ككائنٍ أسطوريٍّ آتٍ بملامحٍ محددة لا محالة: والحقيقة أن المجتمعاتِ التي يؤمن أفرادُها بوجهٍ عام والصفوةُ من أبناءها بوجهٍ خاص بأنهم مشاركون حقيقيون في صنع الواقع والمستقبل لا يمكن أن يؤمنوا أن هناك كياناً مجرداً ومطلقاً ومحدد الماهية سلفاً إسمه المستقبل ولكنهم يؤمنون بعمق ودلالات ما قاله الفيلسوف الفرنسي العظيم جان بول سارتر ذات يوم : أنه لا يوجد شئ إسمه المستقبل ، وإنما المستقبل هو ما نصنعه اليوم . ففي غيبة المشاركة الحقيقية يتعاظم الإيمانُ بالمستقبلِ كقدرٍ محتوم ويتعاظم الإيمان بأن الآخرين هم الذين يصنعون هذا الكائن الإسطوري فيتفاقم الإيمانُ بحتميةِ حدوثِ المستقبل كما يصنعه الآخرون ثم نطلق على ذلك "المؤامرة" (!!!) . والحقيقة أن هناك صراعاً دامياً في الحياة ولكن وسط هذا الصراع هناك فاعلون مشاركون وهناك قاعدون إستاتيكيون : أما الفريق الأول فيسعى لتشكيل المستقبل بأقربِ صورةٍ لما يرغب فيه ، أما الفريقُ الثاني فينتظر شيئاً لا يمكن بالمنطق إلاِّ أن يكون غير سارٍ لأنه من صنعِ الآخرين . ويضاعف من تفاقم منهج التفكير الذي ينظرُ للمستقبل وكأنه كائنٌ إسطوريٌّ سيأتي لا محالة إما بما يسر أو بما لا يسر توفر ثقافة عامة تفسح المجال للقدر وتجعل مساحةَ الإرادةِ الإنسانيةِ والفعل الإنساني مساحة هامشية للغاية . ولا شك أن ثقافتنا العامة تتسم بهذا اللون وتلك الصفة بشكلٍ فريد بين الثقافات الأخرى (أعلمُ أن شيوع الإيمان بالقدر متوفر في كل الثقافات بنسبةٍ أو بأخرى - وليست هذه هي القضية ولكن القضية المحورية هي موقف أغلبية العقول من فكرة القدر: فالبعض من الذين يؤمنون بقدرية الأمور يجلسون في إنتظار القدر لأنه آتٍ لا محالة ووفق معطياتٍ لا سلطان لهم عليها .. وفي مجتمعاتٍ أخرى توجد فكرة القدرية ولكن تتعامل العقول معها وفق منطقٍ كأنه يقول : نظراً لأني لا أعرفُ ما هو القدر فإنني سأتصرف وكأنه غير موجود ونحن هنا بصدد موقفين أحدهما منتج للعطالة والثاني منتج للإيجابية).

 

إنني أكتبُ هذه السطور من هذا المقال بعد أن فرغتُ للمرة الثانية من مطالعة مدققة لكتابين طالعتهما لأول مرة منذ ثلاثين سنة وعدتُ لهما منذ أيامٍ ، والكتابُ الأول هو كتاب أبي حامد الغزالي (تهافت الفلاسفة) والكتاب الثاني هو لإبن رشد مفكر زمنه الأعظم (تهافت التهافت) .. طالعتُ الكتابين لأول مرةٍ وأنا في أوائل العشرينيات ثم طالعتهما منذ أيام فتمثلت أمام عيني تلك المعركةُ التي كانت مشتعلة بين "إمام النقل" وبين "إمام العقل" .. وأصبح من الواضح أمامي لماذا نحن هكذا: شعوب تجلس على مقاعدِ المتفرجين على مسرحِ أحداثِ الدنيا قصارى دورها إما الرضا أو الغضب (أو إنتاج فيضٍ من النكات) ، أما المشاركة والفعل والتأثير والصياغة فأبعدُ ما تكون عن إهتماماتها لأن معركةَ النقلِ مع العقلِ منذ عشرةِ قرونٍ إنتهت في حياتنا الثقافية بإنتصارِ مدرسة النقل وإنحسار مدرسةِ العقل بل وإستفادة أوروبا الغربية من إبن رشد في زمنٍ كانت أوروبا ذاتُها تشهد معركةً مماثلةً بين النقل والعقل وكان أثرُ إبن رشد في حسم هذه المعركة لصالحِ مدرسة العقل كبيراً في أوروبا على خلافِ ما حدث لدينا إذ توارى أثرُ إبن رشد وتعاظم أثر المدرسة الأخرى لدرجة أننا سمينا رائدَ مدرسةِ النقل بحجةِ الإسلام - وكان الأجدرُ بنا أن نطلق هذه التسمية على إبن رشد الذي ينضح عنوان أحد مؤلفاته بحجم النور الذي كان في عقله (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من إتصال) . أقترح على القارئ المهتم بأثر إبن رشد على أوروبا لا سيما في القرن الثالث عشر أن يطالع فصلاً رائعاً بعنوان (إبن رشد والتنوير) في كتاب "مُلاك الحقيقة المطلقة" للأستاذ الكبير الدكتور/ مراد وهبه - طبعة 1999 - الصفحات من 105 إلى 110 .

 

وإذا نظرنا لموضوع موقف العقول لدينا من المستقبل من زاويةٍ مختلفةٍ هي زاوية علوم الإدارة الحديثة والتي هي جوهرة العلوم الإجتماعية التي أُضيفت لها خلال النصف الثاني من القرن العشرين وصارت في نظرِ البعض أهم تلك العلوم فإننا سنجدُ تضارباً بين موقفنا الإنتظاري والموقف الذي تمليه النظرةُ للمستقبل من زاويةِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ . فحسب علوم الإدارة الحديثة لا يوجد شئ مستحيل طالما توفرت الرؤيةُ لما نريد أن نصل إليه في المستقبل وطالما حُددت الإستراتيجيات والخطط والبرامج والسياسات التي ستكون بمثابة الجسر بيننا وبين ما نريد أن نصل إليه ثم أخيراً طالما أننا أستعملنا الموارد المتاحة (وأهمها الموارد البشرية) بأنجح وأجدى الطرق فإننا واصلون لا محالة لما نريد الوصول إليه . ولكن هذه الرؤية تستلزم وجود ثقافة عامة إما أن تكون غير قدرية أو تفهم القدر بشكلٍ إيجابيٍّ كما أنها تقتضي وجود ثقافة مشاركة في كل المجالات الحياتية وهي أيضاً تقتضي وجود هرم إجتماعي صحي وسليم يوفر الحراك الإجتماعي الكفيل بإيصال المجتمع (عن طريق أفضل أبناءه وبناته) لغاياته المرجوة .

 

وهكذا تتضح صعوبةُ الموضوعِ الذي يحاول هذا المقالُ أن يتناوله وهو في الحقيقة موضوع لكتابٍ بل ولكتبٍ ولا يمكن أن يكون مقالٌ واحدٌ إلاِّ مجرد دعوة للنظرِ في أمرِ هذا الموضوع . فإيجابيةُ العقولِ البناءة مع تحديات الواقع والمستقبل وعدم سقوطِها كجثةٍ هامدة أمام الفهم السلبي للقدر وقيامها بالمشاركةِ بكل معاني المشاركة موضوع يتعلق بفهمِ الناسِ للدينِ وبالثقافةِ الدينيةِ الذائعةِ وبالتكوينِ الثقافي لرجالِ الدينِ وببرامج ومناهج التعليم وبدرجةِ ومُناخ الحرياتِ العامة ومدى ذيوع جوهر فكرة الديمقراطية في المجتمعِ كما أنها تتعلق بالمُناخ الثقافي العام بنفسِ القدرِ وأيضاً تتعلق بقضيةٍ من أهم قضايا أي مجتمعٍ كمجتمعنا وهي قضية المرأة ، فالمجتمع الذي يُهمّش دورَ نصفِ المجتمعِ لا يجوز لنا أن نستغرب أن يكون ضعيفَ المشاركةِ بوجهٍ عام ، بل إن كاتبَ هذه السطور يعتقدُ أن قضيةَ المرأةِ في المجتمع هي من أهم محاور ثقافة المجتمع وتوجهات العقول: فحتى نصل لدرجةٍ تشيعُ فيها في مناخِنا الثقافي العام المساواة الكاملة بين المرأة والرجل وتحويل هذا الشعار العام إلى آلياتٍ عديدةٍ فسنبقى مجتمعاً سلبياً إلى حدٍ بعيد وسيكونُ من الطبيعي بفعل هذا العامل وعوامل أخرى ذكرتُها أن نكون من الفريق الذي يجلس على المقاعدِ وينتظر المستقبل ولا يقف على قدميه ويعمل بيديه لصياغته وصناعته .

 

ومن حقِ قارئ هذا المقال أن يتسأل: وما هو القاسم المشترك بين هذه المجموعة من الجزر المختلفة التي طوّف بها هذا المقالُ؟ .. وهو سؤالٌ هامٌ والإجابةُ عنه بإيجازٍ هي: أن نموذج موقفنا من الإتفاق السوداني/ السوداني وهل سنتعامل مع معطياتِ هذا الواقع الجديد تعاملَ القاعدين على كراسي إنتظار المستقبل أم تعامل الذين إستقر عزمُهم على المشاركةِ في صنعِ المستقبلِ .. إن هذا المثال وكل الجزر التي طوّف بها هذا المقال يربطها قاسمٌ مشتركٌ هو (عقولنا .. وكيف تتعامل مع تحدياتِ العالمِ الخارجي الآنية والمستقبلية) . فالعقلُ الفاعل والحر والعصري هو وحده الذي بمُكنته التعامل مع عناصر الواقع الحالية والتحديات المستقبلية : فكلما كنا مشاركين وفاعلين ومدركين لحقائقِ العصر ومعطياتِ الواقع وموازين القوة وكلما تحررنا من أثرِ الشعارات الماضوية ، كلما كان بإمكاننا أن نحرز مكاسباً حقيقية في كل تعاملاتنا ولم يكن نموذج السودان إلاِّ مثالاً يمكن أن يتغير دون أن تتبدل الرسالةُ الجوهريةُ في هذا المقال وهي أن العقلَ الإستاتيكي لن يقودنا إلاِّ لمزيدٍ من الخسائر ، أما التعامل الديناميكي القائم على المشاركةِ الفعالة هو الذي يمكن أن يحقق نقيض ذلك. في سنة 1784 نشر الفيلسوف الأشهر عمانوئيل كانط مقالاً فذاً بعنوان (جواب عن سؤال: ما التنوير؟) قال فيه ما هو جدير بالتأمل اليوم: (إن الثورة قد تُسقط طاغية ، ولكنها لا تستطيع أن تغير من إسلوب التفكير ، بل على الضد من ذلك فإن الثورةَ قد تولد سطوة تكبل الجماهير . إن التنوير ليس في حاجةٍ إلاِّ إلى الحرية .. وأفضل الحريات خلواً من الضرر هي تلك التي تسمح بالإستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا) .. لقد قال كانط (الإستخدام العام لعقل الإنسان) ولم يقل (غرائز الإنسان) ولم يقل (روابط الإنسان الماضوية) .. ولم يقل (عواطف الإنسان) .. ولا يساورني شك أن المعنى الذي أقصده هنا واضحٌ وضوح الشمس في سماء يومٍ صافٍ .