العقل العربي .. "مخدراً".

في يومٍ من أيامِ شهر مايو 1967 (السنة التي إنتقلتُ فيها من الدراسةِ الثانويةِ إلى الدراسةِ الجامعيةِ) عدتُ للمنزل بينما كان جمالُ عبد الناصر يتحدث. سأله صحفيٌّ عما سوف يكون رد فعله لو أن الأسطولَ الأمريكي السادس والذي كان متواجداً عندئذ بالبحر المتوسط تدخل لصالح إسرائيل في المعاركِ التي كانت يومئذٍ مرتقبة. كان ردُ جمال عبد الناصر إنه لن يكون أمامنا إلاِّ إغراق الأسطول السادس. تذكرتُ ذلك كثيراً خلال العقود الأربعة الأخيرة. تذكرت ذلك عندما أطلق صدام حسين على معركته مع القوات الأمريكية (والدولية) في سنة 1991 تسمية "أم المعارك". وهكذا أصبحت معاركُ روميل ومنتجومري في صحراء مصرَ الغربية وكذلك معارك ستالينجراد ونورماندي في أربعينيات القرن الماضي (أطفال المعارك) إلى جوار (أم المعارك). تذكرت ذلك أيضاً عندما قال صدام حسين في مطلع سنة 2003 أن القواتِ الأمريكيةِ سوف "تنتحر" على أبوابِ بغداد. ثم تذكرته بشكلٍ مكثفٍ للغايةِ والقواتُ الأمريكية تخرج صدام حسين من حفرةٍ في الأرض. ومنذ أيام ذكرنا حسن نصر الله وبشار الأسد بتلك الفحولات الكلامية. سمعت حسن نصر الله وهو يقول أن الإسرائلين (وهمٌ) .. وأن القتال معهم يشبه لعبة الأتاري … كان حسن نصر الله يقول ذلك في نفسِ الوقتِ الذي كانت إسرائيل تُعيد إليه فيه جثث ثلاثة من مقاتليه.

 

وخلال السنواتِ العشرِ الماضية تأملت طويلاً وكتبت كثيراً عن أربعِ ظواهر: ظاهرة ثقافة الكلام الكبير في واقعِنا ، وظاهرة مدح الذات التي لا يمارسها أحدٌ كالناطقين بالعربية ، وظاهرة الانفصال بين الأقوال والأفعال ، وظاهرة النظر إلى الأقوال وكأنها أفعال. ولهذه العلل (بالغة الضرر) جذور قديمة وحديثة. أما أبرزُ الجذورِ القديمة، فهو حقيقة إنه بينما عرفت الحضاراتُ القديمة أشكالاً شتى للإبداعِ كالموسيقى والملاحمِ والنحت والفلسفة ، فإن العربَ قد أبدعوا في مجالٍ واحدٍ فقط هو الشعر (فن الكلام).وكل إنجازات العرب خارج دائرةِ الشعرِ جاءت بعد دخولِ شعوبٍ غير عربية في الإسلامِ. والشعرُ العربي القديم عامرٌ بثقافةِ الكلامِ الكبيرِ والمغالاة في مدح الذات والافتخار بأشياء بعضها (وربما جلها) لم يحدث قط ، ناهيك عن نظرةٍ دونيةٍ للآخر (نشربُ الماءَ صفواً - ويشربوا الماءَ طيناً). وفي العصورِ الحديثةِ فإن غيابَ الإنجازاتِ الحقيقية من جراء سوء وفقر الطرق التي تدار بها مجتمعاتنا قد أضافت أسباباً أخرى جعلت هذه الظواهر تتفاقم وتستفحل. إن مساهماتنا في الطبِ والصيدلةِ والفضاءِ والهندسةِ والإلكترونيات والصناعةِ وتكنولوجيا المعلومات وغيرها لا تعلو فوق الصفر. ومع ذلك فإننا لم نهذب من تلك الفروع الشاذة في شجرةِ عقلنا: ثقافة الكلام الكبير … المغالاة في مدح الذات … الفصام بين القول والفعل … عدم إدراك الفارق بين الفعل (فَعَلَ) والفعل (قالَ).

 

ونظراً لأن شعوباً بهذه السبيكة هي أفضل ما يمكن تصوره لأي حاكمٍ مستبدٍ، فإن برامج التعليم ووسائل الإعلام المملوكة والخادمة لنظم الحكم المستبدة لم تساهم مرة واحدة في التصدي لتلك الأمراض، بل أدلت بدلوها وضاعفت من حجم الورم والداء وباعدت بيننا وبين البرء والشفاء.

 

ونظراً لأن مشاكلنا الذهنية متداخلة، فقد تفاعلت تلك العيوبُ التي أشرت إليها آنفاً مع عيوب أخرى مثل إرجاع كل المصائب والكوارث لطرفٍ آخرٍ متآمرٍ علينا … كذلك قادتنا تلك العيوب لنظرةٍ للعالمِ لا علاقة لها بالواقع. فالعالمُ ليس (ملائكة) كما يحلم بعضنا أن يكون. والعالم ليس (ذئاباً) كما يكرر البعض في واقعنا مع كل شهيق وزفير. كل دولة في العالم تخدم "مصالحها الحقيقية" إلا الظاهرة العربية … فالعرب يبحثون عن مجد لفظي وإنجازات قولية ونصر عرمرم من كبريات الكلام.

 

إن بدايةَ الوقوفِ على دربِ الصوابِ والإصلاحِ يقتدي تفعيل "العقل النقدي" ، وهو غدة خامدة وخاملة في جسدِ معظمِ الكيان العربي. وتفعيلُ العقل العربي مستحيلٌ في ظلِ ذهنيةٍ كانت ولا تزال تعشق كبريات الكلام مثل أننا قد نضطر لإغراق الأسطول الأمريكي السادس أو أن معركة الجيش العراقي مع الجيش الأمريكي سنة 1991 ستكون أم المعارك. أو أن القوات الأمريكية ستنتحر (2003) على أبواب بغداد أو مثل وصف السيد حسن نصر الله لقتاله مع الإسرائيليين بأنه يشبه ممارسة لعبة الأتاري. إن حكامنا وأنظمتنا السياسية وبرامجنا التعليمية ووسائلنا الإعلامية وكبيرنا وصغيرنا غارق حتى الأذنين في وحل تلك النواقص العقلية والعيوب الفكرية.

في كتابه الرائع (العواصف) يقول جبران خليل جبران (1920):

 

(بالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية المفكهة ويكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية المجردّة التي تلسعهم وتنّبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة. إنما الشرق مريض قد تناوبه العلل وتداولته الأوبئة حتى تعوّد السقم وألف وأصبح ينظر إلى أوصابه وأوجاعه كصفات طبيعية بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة والأجساد الصحيحة فمن كان خالياً منها عُد ناقصاً محروماً من المواهب والكمالات العلوية .

 

وأطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه ويتآمرون في شأنه ولكنهم لا يداوونه بغير المخدّرات الوقتّية التي تطيل زمن العلّة ولا تبرئها. أنا أبكي على الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل كبير. أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة لأن الغناء أمام المصيبة غباوة عمياء).

 

ولكن من أَين تكون نقطةُ البدايةِ؟ .. أمن "التعليم" أم من "الإعلام" أم "من أين"؟ .. لا يساورني شك أن نقطةَ البدايةِ في هذا الشأنِ هي "توفر الإرادة السياسية للتغيير". وهذه الإرادة إما أن تتوفر لدى "الحاكم" .. أو لدى "قادة الفكر ومنظمات المجتمع المدني" أو لديهما معاً. وما لم تتوفر إرادة التغيير هذه ، فإننا سنبقى مخدرين بحشيشة ذهنية وثقافة الكلام الكبير وأفيونة مدح الذات وقات الشبق الداهم للفخر (بما هو غير موجود على الإطلاق).

 

إننا سنكون في إنتظار "العنقاء" إذا تصورنا أن حكاّم المجتمعات العربية سيأخذون جميعاً (أو معظمهم) مبادرة البداية في إفاقة العقل العربي من خدر الكلام الكبير والمجد اللفظي والفحولات اللغوية .. قد يحدث هذا في بلد أو بلدين ، ولكن التغيير لن يحدث ما لم تهب ريحُ حركةٍ ثقافيةٍ من قادة الفكر وحملة الأقلام والإعلاميين تقول للناس الحقيقة رغم مرارتها – هل هذا محتمل؟ .. الله وحده يعلم.

لمزيد من كتابات طارق حجِّي :

http://www.heggy.org