السياسة: بين "العقل" و"الغرائز".

عندما يقول حاكمٌ عربيٌّ أن ولاءَ معظمِ الشيعة لطهران... وعندما يقول نفسُ الحاكم أن ما قام به حزبُ الله يوم الأربعاء 12 يوليو إنما كان عملاً طائشاً لم تحسب ردودَ الفعل التي سيثيرها، ولم ير من قاموا به عواقبه... وعندما يقول نفسُ الحاكم أن المهمة الوحيدة لجيش بلده هو الدفاع عن هذا البلد لا أن يحارب من أجل أية دولة أخرى، فإن من يُعارض هذه المقولات ولا يرى حكمتها وواقعيتها ومصداقيتها (ومن المؤكد:وطنيتها) فلا يمكن اعتباره يفكر بعقلانية، وإنما هو يمارس غرائزاً قبلية بدائية. إن كاتب هذه السطور الذي لم يمدح في حياته مسئولاً واحداً (إحتراماً منه لكرامةِ وعزةِ المثقف الحقيقي) يجد لزاماً عليه تحية عقلانية الحاكم العربي (الرئيس حسني مبارك) الذي صرح (وسط طوفان جامح من الغرائز القبلية -لا الأفكار السياسية) بتلك التصريحات وإتخذ تلك المواقف "العقلانية والواقعية والوطنية والحكيمة" رغم علمهِ بسهولةِ مجاراة تيار الغرائز.

 

في أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي تعرضت مصر بوجهٍ عام والرئيس مبارك بوجهٍ خاص لضغوطٍ داخلية وخارجية عديدة لإلغاء إتفاقية كامب دافيد. وقد تصرف وقتها الرئيس مبارك كما تصرف منذُ أيام عندما قال أن طرد السفير الإسرائيلي من مصرَ سيكون عملاً بلا أية فائدة.إن العقل الناضج والذي يمارس السياسة من منطلقات كونها "فن ممكن" (وبالتحديد: "فن أفضل الممكن") لا يمكن إلاَّ أن يدرك أن مصرَ لو لم تكن قد وقعت إتفاقية كامب دافيد مع إسرائيل والتي استردت بمقتضاها كل أراضيها في شبه جزيرة سيناء... إن هذا العقل ليس من العسير عليه أن يدرك شكل الصورة التى كنا سنكون في مواجهتها (اليوم) إذا لم تحررْ سيناء بالكامل في ربيع سنة 1982. ولكن أصحاب الغرائز (لا العقول) كانوا يفضلون أن نواصل سب الولايات المتحدة ولعن إسرائيل ومجافاة المفاوضات... حتى ولو كان ذلك سيؤدي بنا إلى واقع تحتشد فيه سيناء بالمستوطنات الإسرائيلية.

 

إن إلغاء كامب ديفد (1982) وإطلاق تصريحات ساخنة (12 يوليو2006) هي أعمال أسهل بكثير من تصريحات وتصرفات ومواقف تقوم على عقلانية التصرف وتنطلق من منطلق أن السياسة هي "فن ممكن" (وبتحديد أكثر:"فن أفضل الممكن").

 

ويمكن للإنسان العاقل الحكيم الواقعي أن يقول بكل ما جاء في السطور السابقة دون أن يعني ذلك إنه يبارك ويؤيد أو حتى يقبل ردة الفعل الإسرائيلية على عملية حزب الله التي وقعت يوم الأربعاء 12 يوليو 2006... ودون أن يعني ذلك أن روحه وضميره لم يتأذيا -إلي أبعد الحدود- لما حاق بالمدنيين والأطفال...

 

كذلك... فإن العقلانية واعتبارتها تُملي علينا أن نرى عواقب إمتداد الهلال الشيعي الذي حذر منه الملك الأردني عبد الله الثاني وانعكاساته بالغة السوء على منطقتنا وواقعنا وأحوالنا وإدخاله لنا في مواجهةٍ دامية مع باقي الإنسانية (سترجعنا ألف سنة للوراء, عوضاً عن بناء وتنمية مجتمعاتنا).

 

إن كاتب هذه السطور يعرف ويدرك بوضوحٍ كامل أن كتابة مقالٍ كتلك المقالات التي تنشرها صحفُ الإثارة هو أسهل الأمور... فمن يملك ناصية الكتابة واللغة يعلم أن الإثارة أسهل من التعقل وأن الكتابة الحكيمة أصعب بكثير من كتابة تشبه صب البترول على النار.

 

في خضمِ موجاة الصياح والصراخ والكلام الكبير والشعارات الساخنة التي عمت الواقع العربي في خلال الأيام المنصرمة منذُ 12 يوليو 2006 لم أقرأ مقالاً واحداً بكل صحف الإثارة عن صلب الكارثة اللبنانية أي "حتمية بسط نفوذ الدولة اللبنانية على كل التراب اللبناني". لقد عبر رئيس وزراء الحالي للبنان فؤاد السنوراة (وهو مسلم سني) وزعيم المعارضة اللبنانية كمال جنبلاط (وهو درزي) وعشرات السياسيين اللبنانيين مثل أمين الجميل وسمير فرنجيه وبطرس حرب وبطريرك الأغلبية المسيحية في لبنان (البطريرك صفير) عن كون هذه المسألة (أي بسط نفوذ الحكومة اللبنانية على مجمل التراب اللبناني) هي محور مأساة لبنان الحالية... ومع ذلك فلم نُطالعْ مقالاً واحداً بكل صحف الإثارة العربية ولم نتابع حلقة تلفزيونية واحدة (لا بقناة "المريرة" ولا بأية فضائية عربية أُخرى) عن هذا الموضوع الهام الذي سيحدد هل سيكون مستقبل لبنان عصرياً ومستقراً وزاهراً ومنتجاً للعبقرية اللبنانية للتألق أم عامراً بخراب ودمار وحريق الحرب الأهلية (بإعمار رفيق الحريري أم بدمار أبطال (!!!) 12 يوليو 2006 – من الجانبين).

 

لتتحدث الأغلبية من أصحاب الفكر والقلم عن فظائع ردة الفعل الإسرائيلية تجاه عملية حزب الله التي وقعت يوم الأربعاء 12 يوليو 2006... ولكن لماذا لا يوجد صوت واحد مرتفع يتحدث عن حتمية أن تصبح الدولة اللبنانية "دولة بالمعنى الحقيقي والكامل" وتكون وحدها صاحبة النفوذ السياسي والعسكري على كل ذرة من ذرات التراب اللبناني الوطني؟

 

وكما كتبتُ في مقالٍ آخر (نشر عقب إنفجار 21 يوليو 2006)؛ فإنه من المنطقي (بل وأعتقد: أنه من اللازم) أن يملك الإنسان القدرة على إتخاذ هذين الموقفين في آنٍ واحد... بمعني أن يرى ويستهجن بل ويستبشع قتل المدنيين وتدمير البنية التحتية التي هي ملك الشعب اللبناني... ولكن في نفس الوقت يرفض بشدة أن يقوم طرفٌ واحدٌ بمفرده (من أطراف الحياة السياسية اللبنانية) إتخاذ خطوة لم يشاور فيها الآخرين؛ ومع ذلك جعلهم يتحملون تبعاتها بأكثر من أي جهة أُخرى (بما في ذلك حزب الله نفسه).

 

بعد مفاوضات مضنية، كانت مصرُ هي اللاعب الأول فيها، وافقت حماس على دعوة الرئيس محمود عباس لإعتماد وثيقة الأسرى في السجون الإسرائيلية... وبعد ساعات قليلة قام البعض بخطف جندي إسرائيلي على حدود قطاع غزة. فكان ذلك تكراراً (بلا حصرٍ ولا عددٍ) لقيام ممثلي التهور والفوضى بنفس إحتمالات نجاح ممثلي العقل والواقعية. إن بيد كاتب هذه السطور رسم بياني يوضح كيف أن عملاً دموياً كبيراً أقترف في كل مرة كانت أطراف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مشارف الإقتراب من تسوية معقولة وعقلانية تعكس حقائق أمرين:

(1) الحقوق كما يتصورها كل طرف.

(2) موازين القوي كما هي على أرض الواقع.

 

وعندما كانت مصرُ على وشك إنهاء أزمة خطف الجندي الإسرائيلي قُرب حدود غزة، قام أنصارُ الدم والفوضى والتطرف بإفساد التسوية (ولديَّ وثائق وإثباتات توضح من قام بذلك والثمن الذي دُفع من أجل إفساد التسوية) المصرية الحكيمة والعقلانية لأزمة خطف الجندي الإسرائيلي من وراء حدود قطاع غزة عبر نفقٍ اُستعملت في حفره مُعدات وآليات مطابقة للمُعدات والآليات التي اُستعملت بعد ذلك لحفر نفق آخر بين الحدود اللبنانية والإسرائيلية (الخط الأزرق).

 

إن كاتب هذه السطور يدرك أن الشعبية (في أيامنا وظروفنا الحالية) لا تُستجلب بكتابة مقالٍ كهذا... بل إنها على النقيض تُستجلب بكتابة عكس ونقيض الأفكار الواردة في هذا المقال. ولكن كيف تبقى معان لأمانة الفكرِ وأمانة الكتابةِ وأمانة القلمِ إذا كتبَ صاحبُ فكرٍ وقلم من أجل إستجلاب شعبية أو إستداعاء جماهيرية؟؟