الإصلاح الإقتصادي في الميزان.

لا شك أن الإستثماراتِ الهائلة التي أُنفقت على القطاع العام المصري إبّان سني التجربة الإشتراكية لم تحقق النتيجة الأساسية المرجوة والتي هي تحقيق عائد على الإستثمارات لا يقل عن 15% سنوياً (بعد خصم نسب التضخم) . وإذا كان البعضُ يفتخر بما تم تشييده من مصانعٍ ومؤسساتٍ صناعيةٍ إبّان تلك الفترة فإننا نقول لهم أن علومَ الإدارةِ الحديثة قد علمتنا أن الفخرَ في الإقتصاد لا يكون بالحجمِ (أي حجم المنشآت وحجم الإستثمارات) لأن "الإنفاق" لا يمكن أن يكون هو الغرض . وإنما يكون الفخرُ بالعائدِ الإقتصاديِ على الإستثمارِ . وكما يقال في علومِ الإدارةِ الحديثةِ ، فإن أكبرَ كارثةٍ أن يحكم تفكير الإدارة العليا في أيةِ مؤسسة إقتصادية منطقُ الحجم وليس منطق العوائدِ على الإستثمار . وحتى الذين يقولون بأنه إذا كانت العوائدُ الإقتصادية ( Return on Investment ) متواضعةً فإن العائدَ الإجتماعي كان عظيماً ، فإننا نقول لهؤلاء أن الوظيفةَ الإجتماعية ذاتها لا يمكن إستمرارها بدون عائدٍ إقتصادي مجزٍ ، فكيف يمكن في ظلِ عوائدٍ إقتصاديةٍ متدنيةٍ تواصل توظيف المواطنين وإعطاءهم مرتبات إنسانية مع معاملات أخرى آدمية في مجالات التأمين الصحي وأجور التقاعد وخلافه ؟ ومعنى هذا الكلام أن الوظيفةَ الإقتصادية هي الضمانُ الوحيد لإستمرارِ الوظيفةِ الإجتماعيةِ للإستثماراتِ والأعمال والمشروعات . ونظراً لأن مشروعاتِ الحقبةِ الإشتراكية في مصرَ قد فشلت في تحقيقِِ مردوداتٍ إقتصاديةٍ جيدةٍ فإنها بعد فترة أصبحت عاجزةً عن مواصلةِ وظيفتها الإجتماعية الهامة والتي كانت متمثلةً في التوظيفِ لأعدادٍ كبيرةٍ من المواطنينَ وعلاجهم . ومع ثبوت أن هذا (النموذج) لم يفشل فقط لدينا وإنما فشل في كلِ مراتِ وأماكنِ تطبيقه ، وهو ما أدى في النهاية لإنهيارِ العالمِ الإشتراكي ، فقد بدأت في مصرَ مرحلةُ مواجهةٍ مع الذاتِ أدت إلى التيقن من أن الإستمرارَ في تسييرِ الحياةِ الإقتصادية بناءً على أُسسِ التجربةِ الإشتراكيةِ سوف يؤدي إلى كارثةٍ إقتصاديةٍ تخرجُ من رحمها كارثةٌ إجتماعيةٌ ، وهو ما فرض التخطيط لعمليةِ إعادةِ هيكلةٍ ماليةٍ وإقتصاديةٍ تنقلُ مصرَ من إطارِ الإقتصادِ الموجه القائمِ على دورِ القطاع العام المحوري إلى إطارِ إقتصادِ السوقِ القائمِ على دورِ المؤسساتِ الخاصةِ في النهوضِ بمعظمِ الأنشطةِ الإقتصاديةِ ، وبهدفِ أن تتمكن هذه المؤسسات الخاصة من تحقيقِ مردوداتٍ إقتصاديةٍ إيجابيةٍ تسمحُ بالنموِ الإقتصادي المنشود والذي هو "أرضيةُ" الوظيفة الإجتماعية للحياةِ الإقتصاديةِ والمتمثلةِ في خلقِ فرصِ عملٍ حقيقيةٍ (لا سيما للشباب) بما يكفُلُ توفيرَ أحدِ أهمِ أسبابِ السلامِ الإجتماعي .

 

ولا شك أن الجهودَ التي تمت في مرحلةِ إعادةِ الهيكلةِ الماليةِ والإقتصاديةِ كانت جهوداً عملاقةً وبالغةُ الأهمية وساعدت بشكلٍ واضحٍ للغاية على تجنبِ حدوثِ الإنهيارِ الذي شهدتهُ مجتمعاتٌ أخرى أوصلتها تجربتُها الإقتصاديةُ الإشتراكيةُ ليس فقط للإفلاسِ الإقتصادي بل ولإضطراباتٍ إجتماعيةٍ بالغةِ الخطورةِ .

 

ومع ذلك ، فإنه من غير المنطقي أن نقول أنه ليس في الإمكانِ أبدع مما كان . فكلُ الأعمالِ الإنسانيةِ الكبيرةِ (بما في ذلك الناجحة منها) تحتاج للمراجعةِ وإعادةِ التقييمِ والنقد الذاتي الموضوعي . وهذا ما يحاولُ هذا المقال أن يُلقي الضوءَ عليه مع عدم الإنقاصِ من حجمِ الإيجابياتِ الهائلةِ فيما تم من برامجِ إعادةِ الهيكلةِ الماليةِ والإقتصاديةِ والعملِ على تكوينِ مؤسساتٍ إقتصاديةٍ خاصةٍ تساهمُ في خلقِِ النجاحِ الإقتصادي المنشود بهدفِ تحقيقِِ الوظيفةِ الإجتماعيةِ في نفسِ الوقت .

 

وأولُ ما يجب لفت الأنظار إليه أننا بحاجةٍ لمزيدِ من المواجهةِ مع النفس فيما يخصُ تجربةَ القطاعِ العام . بمعنى أننا يجبُ أن نجعلَ المجتمع مقتنعاً بأن التجربة (مهما كان نبل النوايا التي كانت وراءها) لم تنجح بسببٍ محددٍ هو (الإدارة) . فالقطاعُ العام المصري فشلَ في تحقيقِِ العوائدِ الإقتصاديةِ المرجوةِ (عائد على الإستثماراتِ لا يقل عن 15% سنوياً) بسببِ الإدارةِ غيرِ القادرةِ على تحقيقِ ذلك . ويجب أن يكونَ الإقتناعُ أيضاً كاملاً بأن الإدارةَ دائماً تكونُ فاشلةً في القطاعِ العامِ (وإن وجدت حالاتٌ إستثنائيةٌ ناجحةٌ لكنها تبقى بمثابةِ الإستثناءِ الذي يُثبتُ القاعدةَ) . فتجربةُ القطاعِ العامِ في أوروبا الشرقية والعديدِ من الدولِ الآسيويةِ و الأفريقيةِ والأمريكية اللاتينية تثبت إستحالةَ إفرازِ مؤسساتِ القطاع العام لكادرٍ إداريٍ تنفيذيٍ كالذي حقق النجاحاتِ الكبيرة في المؤسسات الإقتصادية (الخاصة) الغربية . والسببُ الرئيسي يكمن في حقيقةِ أن بيئةَ العملِ في مؤسساتِ القطاعِ العام تفتقدُ من جهةٍ لوجودِ ما يماثل (صاحب المال) في المؤسسات الخاصة وما يقوم به من رقابة طبيعية (لأنه صاحب مال) . أما في تجاربِ القطاعِ العام ، فإن من يمثلون (الملاك) هم أيضاً موظفون لا يمكنهم القيام بدورٍ هم ليسوا أصحابه (ولا يمكنهم أن يكونون) . وهكذا ، فقد تحولت الجمعياتُ العمومية في مؤسسات القطاع العام (والتي يفترض أنها تمثل المالك والذي هو "الشعب") إلى مجموعةِ موظفين غير مسئولين في الحقيقةِ أمام أحدٍ عن عدمِ تحقيقِ العوائدِ الإقتصادية المرجوةِ .

 

وفي موازاةِ ذلك ، فإن بيئةَ العملِ في مؤسساتِ القطاعِ العام الإقتصادية تغمرها (ثقافةٌ إداريةٌ حكوميةٌ) عوضاً عن (الثقافةِ الإداريةِ الإقتصاديةِ) فإذا بنا في معظمِ الحالاتِ أمامَ (رؤساء عمل) وليس (مديرين) بالمعنى المعروف في علومِ الإدارةِ الحديثةِ . وتكون النتيجةُ الطبيعيةُ أن توجد للمؤسساتِ الإقتصاديةِ (في القطاع العام) أهدافٌ أساسيةٌ تسبقُ الهدف الأكبر لأية مؤسسة إقتصادية وهو تحقيق عائدٍ على الإستثماراتِ لا يقل عن عوائدِ ودائعِ البنوك لأن ذلك يؤدي في النهايةِ للإفلاسِ الإقتصادي وما يعقبه من توقفِ مؤسساتِ القطاعِ العامِ عن القيام بوظيفتها الإجتماعية .

 

وفي مرحلتنا الراهنة فإننا يجب أن نبرز هذه الجزئية ولا نقول للشعبِ أننا ننتقل من القطاعِ العامِ إلى الخصخصةِ لتوسيعِ دائرةِ الملكيةِ فليس هذا هو السبب الحقيقي ، وإنما السببُ الحقيقي أن (الإدارةَ) في مؤسساتِ القطاعِ العام قد فشلت وأن الخصخصة تهدف لأن تكون المشروعاتُ في يدِ من سوف يوفرون لها الإدارةَ الفعالة القادرة على تحقيقِِ العوائدِ المنشودةِ لضمانِ إستمرارِ النشاطِ الإقتصادي ثم الوظيفة الإجتماعية .

 

والإهتمامُ بهذهِ الجزئيةِ يفرض على الفور الإهتمام بالتعليمِ الإداري وتوجيهِ التعليم في العديدِ من المعاهدِ والكلياتِ لكي يكون في خدمةِ الهدفِ المنشود مع إستثماراتٍ كبيرةٍ على معاهدِ تدريبِ الإدارةِ المتوسطةِ والإدارةِ العليا لأنهُ بدون تكوينِ كادرٍ إداريٍ تنفيذيٍ عصريٍ وفعّال ومتصل بعلومِ وأساليبِ وتقنياتِ الإدارةِ العالمية العصريةِ لن يكون من المستطاعِ أن نعظمَ مردودُ ما تم من جهودٍ في مجالِ إعادةِ الهيكلةِ الماليةِ والإقتصادية ، لأن الإدارةَ هي التي تترجم النظم الإقتصادية الجيدة إلى نتائج وثمار حقيقيةٍ ملموسة .

 

وبنفس القدر ، فإننا يجب أن نولي علومَ التسويق الحديثة أقصى درجات الإهتمام ، فالعالمُ لا يهتم بإنتاج سلعةٍ أو خدمةٍ وإنما بتسويقها . فما هي جدوى أي عملية إنتاجية (لسلع أوخدمات) لا توازيها عملياتُ تسويقٍ ناجحةٍ لما ينتج من سلعٍ أو خدماتٍ . وعالم التسويقِ يأخذنا لقلبِ نظامِ العولمةِ ، ففي التسويقِ لا يمكن تجاهل معطيات العولمة والتي تعني في هذا الجانب أن الناسَ لن يشتروا سلعةً إلا لمواصفاتها التي تشبع متطلباتهم ولكونها الأفضل من حيث السعر ، دون كثير إهتمام بالإعتبارات الأخرى (ومنها مكان إنتاجِ السلعةِ أو الخدمة) فهذه الإعتبارات الأخرى سوف تلعب في المستقبل دوراً أقل بكثيرٍ في دنيا التسويقِ . وفي عالمِ التسويقِ يستحيلُ النجاحُ على من لا يتكلمونَ بلغةِ العصرِ ويفهمونَ حقائقهُ ولا يقفونَ موقف المتأمل السلبي الذي لا يكفُ عن التساؤل : هل هذا الواقع الجديد عادل ومشروع أم لا ؟ وإنما يتساءلون كيف نحققُ في ظلِ هذه المعطياتِ الجديدةِ أفضلَ النتائجِ لما ننتجهُ من سلعٍ أو خدماتٍ .

 

كذلك لا بد من دراسةِ الأسباب الحقيقية لضعفِ الإستثماراتِ العالمية المباشرة لدينا مع التسلح بالقدرةِ على مواجهةِ الذات والنقد الذاتي وسوف تكون لنا عودة لهذه الجزئية بالتحديد (لماذا كانت الإستثمارات العالمية المباشرة قليلة للغاية خلال السنوات العشرِ الأخيرةِ ؟) وهي ظاهرةٌ لها أسبابها ويمكن معالجتها بشرطِ عدم الحساسيةِ المفرطةِ تجاهَ النقد الذاتي والذي لا ينكرُ الحجمَ العظيم لما تم من إنجازات ولكنه في نفس الوقت يسعى للمزيد من النجاح . وستكون لنا عودة لهذه الجزئية الهامة بالذات والتي تتعلقُ بدورِ الجهازِ الحكومي وهل سيبقى كما هو دوراً واسعاً للغاية كما أنه دورٌ يلعبُ فيه "أفرادُ" (وإن كان بعضهم على أعلى درجات الكفاءة) أدواراً بالغة الأهمية أم أن دورَ الجهاز الحكومي سيتقلص (من حيث الحجم والإتساع) ويتركزُ في وضعِ السياسات وضمانِ تنفيذها كما سينتقل الدور الفعّال من (أشخاص) إلى (مؤسسات) ؟ وهذا بالتحديد مادة المقال التالي في هذا الموضوع .