السعودية والإختيار الحتمي

بقلم: طارق حجِّي
 


 

بعد محاضرةٍ لي كان جمهورُها هم أساتذة قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون العريقة قال لي أحد الأساتذة: "من الأمور المستقرة لدينا في الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة أن كراهية العرب للغرب إنما هي نتيجة لدخول الغرب في حياة شعوب المنطقة والذي بدأ بإستعمار الجزائر (1830) ومصر (1882) والمغرب (1912)… إلى آخر تلك التواريخ المعروفة… أما أنت فواضح أن رؤيتك في هذا الشأن مختلفةٌ تماماً". قلتُ: "أن ما ذكرته يخلط أشياءً كثيرة ببعضها ويضعها في سلةٍ واحدةٍ؛ وأنا أعتقد أن ذلك خطأٌ. فكراهية شعوب المنطقة للإستعمار ظاهرة (صحية) قائمة بذاتها. ولكن الحقيقة أن عدداً من شعوبِ المنطقةِ لم تكن كراهيته للإستعمار سبباً لكراهيته للتقدم الغربي. بل أكاد أُجزم أن المجتمعات ذات الخلفية الحضارية الثرية (مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق) كانت الأمور فيها واضحة جداً: كراهية للإستعمار… وإعجاب بالتقدم.. وفهم صائب لأن "التقدم" لا يعني "التغريب". وهذا موقف يدل على "ضمير شعبي بالغ الرقي"… والبديل هو أن "يقعوا في حب الإستعمار والتقدم"" وهو ظاهرة مهينة ولا تدل إلا على "موت أشياء كثيرة". ولكن علينا ألاَّ ننظر إلى كل مجتمعات المنطقة وكأنها كياناتٌ متماثلة. فما قلته الآن ينطبق على مجتمعات المنطقة ذات التاريخ المضفر بالحضارة وهو ما يضم إلى جوار ما ذكرت مجتمعات أخرى في المغرب العربي… كما يضم (بدرجة أقل) مجتمعات الجزيرة العربية الساحلية، إذ أن الجغرافيا/السياسية جعلتها أكثر قبولاً "للعالم الخارجي" من مجتمعات الجزيرة العربية القابعة (بشكل بدوي) داخل الجزيرة العربية في ظل ظروف جغرافية/سياسية من العسير أن تسمح إلا بذهنية محلية متشددة وقبلية ورافضة للآخر (أياً كان هذا الآخر). وتاريخ عداء هذه المجتمعات الصحراوية للآخر المختلف في ذهنيته ودينه معروف. وليس ذلك بسبب المذهب الحنبلي (بصيغته التي جاءت عبر إبن تيميه) وإنما العكس هو الصحيح: فهذا المذهب وتلك الصيغة لم تجد من يقبلهما في دنيا المسلمين الشاسعة إلا في هذه المنطقة. ولقرابة ألف سنة لم يكن لأفكار وفتاوى إبن تيميه (العامرة بالتشدد وكراهيته لغير المسلمين) إي ذيوع في مصر وسوريا الكبرى والمغرب العربي. وكيف يقبل أبناء الحضارات القديمة فكراً بهذه العزلة عن الإنسانية؟!
لقد طور محمد بن عبد الوهاب الخطوط العامة لدعوته (ولا أقول لمذهبه الفقهي-فالرجل كان داعية ولم يكن فقيهاً) قبل سنة 1798 والتي شهدت أول إحتكاك في الأزمنة الحديثة مع الغرب (وأعني قدوم نابليون وحملته لمصر). وقد شهدت سنوات الدولة السعودية الأولى (التي سحقها إبراهيم باشا في سنة 1818) وكذلك الدولة السعودية الثانية (والتي إنتهت في 1891) مئات النماذج التي تدل في الأساس على رفض التحديث وكل مظاهر المدنية وكراهية غير المسلمين، بل وكراهية المسلمين الذين يخالفونهم في فهمهم للإسلام. فالمسلم (المصري أو السوري) الذي لا يرى غضاضةً في الغناء، كان عند الدولة السعودية الأولى والثانية (مقلد للكفار). وعندما حارب الإخوان (إخوان نجد) الملك عبد العزيز من أجل مظاهر المدنية (كالراديو والتليفزيون والسيارة) ووجود أجانب بجزيرة العرب وذلك خلال عشرينيات القرن العشرين-فقد كان ذلك مجرد تعبير عن معالم أساسية في ذهنية أفراد ومذهب فقهي لا مكان لهما إلا في زمان غير هذا الزمان ولا مكان لهما في أي مكان إلا إذا كان مماثلاً لمكانهم في ملامحه وعناصره الجغرافية. إن فكر المذهب الوهابي هو من مكونات البناء العلوي أو الفوقي (الأفكار) التي أنتجها بناء تحتي معين (هو الحقائق الجيوسياسية والإقتصادية لصحراء نجد)… وهؤلاء لا يعرفون أنه لا يوجد مكان آخر على وجه الأرض يحتمل أفكاراً كهذه، لأن معادلة ماركس التي أخذها عن فويرباخ وهيجل لا تزال صائبة: وهي أن هناك علاقة مؤكدة بين (الأفكار) والبناء التحتي للمجتمع (إقتصاد+جغرافيا).
في يدي فتوى سعودية بأن شراء الزهور وإرسالها للمريض حرام لأنه تقليد جاءنا من بلدان الكفر. إنه مثال واحد (وقد يبدو للبعض بسيطاً)… ولكنه ليس كذلك. إنه يكشف ذهنية كانت ولا تزال تكره كل ما يجيء من الخارج! ولكنها أيضاً متناقضة: فنص فتوى الزهور تقول أن إرسال الزهور للمرض "حرام" لأن ذلك (ليس من هدى المسلمين على مر القرون)!!! وكأن ركوب الطائرة والسيارة وإستعمال الكمبيوتر… بل وإستعمال الأسلحة الحديثة-في قتلهم لأعدائهم كان (ليس من هدي المسلمين على مر القرون)!! إن أي مسلم (خارج عالم إبن تيميه) لا يمكنه إلا الشعور بالغثيان من تضمين فتوى الزهور (الفتوى 21409 بتاريخ 29/3/1421هـ) كلمات مثل: (وإنما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعفاء الإيمان) وليتصور معي القراء "ذهنية" تعادي الزهور… رمز الخير والجمال والصداقة والبراءة والمحبة في كل الثقافات… بل أن لغات عديدة تستبدل عشرات الكلمات الرائعة الجميلة بكلمات مثل (الورد) و(الزهرة) و(الفل) و(الياسمين)… إلا أن ذهنية القبيلة الرحّالة لا تريد لنا إلا أن نصبح "ثقافة أعداء الزهور"!
ويتساءل الإنسان: إذا كانت هذه هي الذهنية العامة والنظرة لغير المسلمين-أفليس من الطبيعي أن يفرز المجتمع (على فترات) أفراداً يحملون السلاح ويطلقون النار على مظاهر المدنية وعلى الأجانب (الكفار) الذين "ينجسون" تراب جزيرة العرب؟ (رغم أنهم يطلقون النار من أسلحة من إبتكار الكفار!!).
وخلصت في محاضرتي، لأن كراهية الإستعمار ظاهرة قائمة بذاتها-وهي ظاهرة لا يمكن إلا أن توصف بكل الصفات الطيبة-ونقيضها لا يوصف إلا بكل الصفات المشينة والمهينة. أما شعوب المنطقة ذات الخلفية الحضارية، فهم من جهة لا يكرهون الحداثة والتقدم والأجانب ولكنهم يكرهون أن يكون معنى التقدم هو "التغريب"… وهذا أيضاً موقف ليس فقط إيجابياً بل حكيماً وكريماً. أما كراهة مذهب معين ومجتمعات معينة لكل ما هو من الخارج، فحقيقة لا شك فيها-وهي التي جعلت محمد علي يرسل جيشه بقيادة إبنه إلى جزيرة العرب ليحارب هؤلاء "المهووسين" ويأتي (في 1818) بكبيرهم (مأسوراً) ليحاكم ويقضي نحبه… بل أن هذا هو ما جعل مؤسس الدولة السعودية الثالثة يدخل معهم في حرب (في عشرينات القرن العشرين) لهوسهم السيكوباتي بمحاربة كل مظاهر المدنية.
والمطلوب اليوم من السعوديين المتعلمين والمثقفين أن يدركوا بوضوح أن مشكلتهم هي في المقام الأول والأخير مع "ذهنية" لم يعد لها مكان في أي أرض أو وقت. وليس من اللائق أن يتعايشوا مع فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة.. وغيره. ولا أعرف هل هناك نص قرآني يمنع السعودية من تكوين هيئة فتوى جديدة تنتقى من مذاهب أرقى بكثير من مذهب إبن تيميه وإبن حنبل؟… إن قيمة "إبن تيميه" بين الفقهاء وبالمقارنة برجل مثل أبي حنيفة أو إبن رشد هي كقيمة "الناقة" بالمقارنة بالسيارة الروز رويس كوسيلة مواصلات!
كانت تلك (في عجالة) الخطوط العامة لما قلته بجامعة برنستون العريقة أمام جمع من أكثر الرجال والنساء علماً ومعرفة داخل قاعة ألبرت أينشتين يوم الجمعة الماضي (29 يونية).