تحية لقرار "المرأة قاضية"

منذ أَيامٍ كنتُ أُتابعُ حواراً تلفزيونياً على القناةِ المصريةِ الأولى بين ثلاثِ شخصيات هي: السيدة القاضية المصرية الأولى التي عُينت مؤخراً كمستشارةٍ بالمحكمةِ الدستوريةِ العليا في سابقةٍ هي عند كاتبِ هذه السطور بمثابةِ إنجازٍ حضاريٍّ وثقافيٍّ عملاقٍ. أما الشخص الثاني فكان مستشار بمحكمةِ النقض تدل كلماتُه على غزير علمِه واستنارتِه وثالثاً وأخيراً: مذيعة معروفة. وعندما أسهب مستشارُ النقض المستنير في عرضِ المدارس الفقهية التي تؤيد واحدةُ منها كون المرأة قاضية وترفض مدرسة ثانية تولي المرأة القضاء بينما تقف المدرسة الثالثة موقفاً وسطاً إذ توافق على تولي المرأة القضاء في حدود معينة. أثناء إنصاتي للحوار القيم فوجئت بسؤالٍ من المذيعةَ موجه لمستشار النقض يقول: وما هو الصحيح في هذه التوجهات الثلاثة ؟(!!) ومرجع الإستغراب عندي أن المذيعةَ أوضحت بسؤالِها "لب مشكلة كبرى من مشاكلنا الثقافية". فالسيدةُ المذيعة لا تعلم (ولا عيب في ذلك) مثل الملايين في واقعنا أن الآراء الفقهية جميعَها "أعمالٌ بشريةٌ" وإنها ليست إلاَّ "محاولة للفهم". ولا أدل على ذلك من قول أبي حنيفة عن كل علم أصول الفقه (علمُنا هذا رأي – فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه). وقول مالك (ما منا إلاَّ ويخطئ ويرد عليه) وأكثر من كل ذلك التعريف المستقر لعلم أصول الفقه وهو (علم إستنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية)…وهو ما ينفي عن أي رأي فقهي أنه (الرأي المطابق للصواب) فالاستنباطُ "عملٌ بشري" ؛ وكل "عمل بشري" قد يكون "صحيحاً أو "غير صحيح" أو "صحيح في جوانب منه وغير صحيح في جوانب أخرى".

وكما قال مستشارُ النقض المستنير في ذلك الحوار التلفزيوني (لو أن الأمر غير محل خلاف لما وجدت بخصوصه آراءٌ فقهية متعددة ومختلفة). ومعنى ذلك : أن وجودَ آراءٍ فقهيةٍ مختلفة حول جواز أو عدم جواز كون المرأة "قاضية" هو دليل على "إمكانية الإختلاف" و "جواز تبني رأي فقهي دون آخر" : ويبقى السؤال: إذا كان أمامنا أن نختار من بين آراءٍ فقهيةٍ متعددة – فلماذا نختار الأكثر تشدداً ولا نختار الأكثر مرونة؟! والجواب: أن الناسَ بدايةً لا يعلمون انهم "مخيرون في هذه المسائل" ويرجع ذلك لوجودِ ثقافةٍ متزمتةٍ بين عدد من رجال الدين (أو الدعاة) …ومن جهة أُخرى فإن الناس لا يعلمون أنهم أياً ما كان إختيارهم فإنهم لا يمكن أن يكونوا "عصاة". وكما ينطبق هذا القول على مسألة كون المرأة قاضية، فإنه ينطبق على مسائلٍ أُخرى عديدة مثل إعطاء المرأة الحق في طلب التطليق (فحتى لو كانت أقليةٌ فقط من الفقهاءِ تسيغه – فمعنى ذلك أننا أمام اختيارات ومن حقنا أن نختار ما جنحت إليه الأقليةُ لأن إختيار ما جنحت إليه الأغلبية فقط ينفي فكرة الإختيار فلسفياً (!!). كذلك ينطبق نفس المنطق على مسألة "فوائد البنوك" – فطالما أن هناك أكثر من رأي، فإن ذلك يعني أن لنا حق ال إختيار – وبالتالي فإننا لا نكون "عصاة" إذ إخترنا إتجاهاً فقهياً دون آخر.

وفي إعتقادي أن عقليةَ التزمتِ والإنغلاقِ والتعصب والبحثِ عن مناطقٍ جديدةٍ للتحريم قد تلقت خلال السنوات الأخيرة ثلاث ضربات قوية: أولها قانون الخلع والثانية قرار إعتبار يوم السابع من يناير عيداً رسمياً لكل المصريين والثالثة قرار تعيين إمرأة قاضية - ويبقى أن نستثمر تلك الإنجازات العقلية والحضارية والثقافية لتدعيم مدرسة العقل في واقعنا في مواجهةِ طوفان مدرسة النقل – فهذا هو السبيل الوحيد لحدوثِ تطويرٍ حقيقي في "حالتنا الثقافية".

إن الميلَ لكلِ الأراء الفقهية الأكثر تحرراً (حتى لو كانت "آراء عدد قليل من الفقهاء" – بل حتى لو كانت مستحدثة) والعمل على تقليص مساحاتِ التعصبِ في تفكيرنا هما أهم ما هو مطلوب من القائمين على الثقافة العامة والثقافة الدينية وبرامج التعليم والإعلام في واقعنا، إذ أَن التطوير الذي سيأتي من رحمِ ذلك هو "النجاة الحقيقة" من تطويرٍ يأتي بفعلِ "قوى ضغط خارجية" ستكون غالباً مخطئة في حساباتها أو مراميها أو أدواتها.

ولا شك عندي أن وجودَ مؤسسةِ الأزهر حالياً تحت قيادة يشهد لها جلُ العقلاء بالوسطيةِ والحكمةِ والاعتدالِ والسماحةِ هو فرصةٌ هائلةٌ لمناصرةِ "مدرسة العقل والتطوير" في مواجهة "مدرسة النقل والجمود"- كذلك ينبغي ألاَّ نكتفي بتعيينٍ رمزي لأمرأةٍ واحدةٍ كقاضيةٍ - وإنما ينبغي أن يتحول ذلك إلى أمرٍ واقعٍ متكرر عشرات المرات: فهذا هو الأساس الوحيد لبناء لا يُنقض.

كذلك ينبغي مراجعة برامج التعليم بهدفِ وضعِ أُسسٍ راسخةٍ لإيمانٍ عامٍ وشائعٍ بأن المرأةَ ليست فقط نصف المجتمع بل أكثر من ذلك بكثير (فهي نصف المجتمع كامرأة وأكثر من ذلك بكثيرٍ كأمٍ) وأن أي آراء تدعو لغير ذلك هي أراء ضارة بمستقبل هذا الوطن – فالوطنُ الذي يستأمن المرأة على "كل أبناءه وبناته" لا يجب عليه أن يتردد في إستئمان المرأة على منصبٍ أو موقعٍ (وان سمى لأعلى ذري المناصب). وكما قالت القاضيةُ الفاضلة التي أُختيرت كأولِ مستشارةٍ مصريةٍ بالمحكمِة الدستورية العليا (كيف نقبل أن تقوم المرأة بتدريس القانون للرجل بكلياتِ الحقوق ثم لا نسلم بحقها في "كرسي القضاء"؟)…

وفي إِعتقادي: أن الإنسانَ السوي يعتبر أن مناقشةَ موضوعِ جوازِ أو عدم جواز وصول المرأة لأي موقع هو "إهانة فكرية" ، فينبغي أن نتجاوز مجرد السؤَال بمعنى أن يكون يقيننا أن أهل التعصب وضيق الأفق فقط هم الذين يطرحون هذا السؤَال: أما أنصار العقل والتقدم والإستنارة والإنصاف فإنهم يحرجهم مجرد التصدي للسؤال الذي ما كان ينبغي أن يُطرح اليوم في واقعنا… ولكن العزاءَ أن ثلاثة إنجازات كبرى قد جاءت (في الإتجاه الصحيح) لتدفعنا لتجاوز مجرد طرح أي سؤال حول جواز أو عدم جواز بلوغ المرأة أي موقعٍ أو أية مكانةٍ.

إن التحمسَ الشديد لقضايا المرأة والذي يهدف لإزالة كل الموروث الذكوري الذي ظلم المرأة ظلماً بيناً عبر قرون المسيرة الإنسانية هو أحد أركان التقدم المنشود مثله مثل الإيمان بالديموقراطية والعلم وعالمية المعرفة وهي أركان لا يفيد التحمس لبعضها فقط – فالتقدم مستحيل بدون التحمس لها "كلها وعلى قدم المساواة".


(الأهرام 15/2/2003)