ضيق الصدر بالنقد



لأقل قليلاً من عشرين سنة أتاح إلى العملُ في مؤسسةٍ اقتصاديةٍ من أكبرِ ثلاث مؤسسات صناعية في العالمِ أن أكتشفَ -وبجلاءٍ تامٍ- قدرَ التباين بين ثقافةِ ما يسمى بالعالمِ الغربي وثقافتنا فيما يتعلق بجزئية مُحددة هي "رحابة الصدر للنقدِ". وخلال النصف الثاني لهذه الفترة -غير القصيرة- أتاح لي تبوأُ الموقع القيادي الأول في هذه المؤسسة رؤيةً أَعمق لهذه الجزئيةِ ولحقيقةِ أَن "النقدَ" هو أهمُ أدواتِ الفكرِ التي صنعت المجتمعاتِ الغربيةَ المتقدمةَ، وأَن النقدَ يوجه للكبار بنفس قدر توجيهه لمن هم أقل منهم أهمية وموقعاً على خريطةِ الهرمِ الإجتماعي.

لقد أَثبتت لي تجربةُ السنوات العشرين أَن الهوةَ بين ثقافتِنا وثقافتهم في هذا المجال شاسعةٌ. فالنقدُ للأشياء والظواهرِ والأفكارِ والأشخاصِ والمسلماتِ هو "معلم"ٌ من "معالمِ" الثقافة التي ساهمت في بناءِ المجتمعاتِ الغربية المتقدمة. والنقدُ أداةٌ يتعلمها ويكتسبها الإنسانُ منذ فجرِ وعيه وإدراكِه. فهو يتنفس هواءً يسمحُ بالنقدِ -من البدايةِ- لكل ما حوله. فالصغيرُ يتعلم أن كلَ ما يحيطُ به من "أشياء وأشخاص" قابلٌ للنقدِ، كما يتعلم أَن يُمارس هذا النقد في ظلِ قبولٍ عامٍ له ودرجةٍ عاليةٍ من الهدوءِ وعدم التوتر والغضب الذين يحدثهم النقدُ في أَجواءٍ ثقافيةٍ أُخرى.

وتأَتى برامجُ التعليمِ لترسخ هذا الإهتمام بالنقدِ. كما أن المناخَ العام (بعناصرِه السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ) يعملون على ترسيخِ نفسِ الاهتمامِ بالنقدِ كأَداةِ بناءٍ بالغةِ الأهميةِ وكأَهمِ وسائلِ الارتقاءِ بكلِ النظمِ والمؤسساتِ والأفكارِ والممارساتِ.

أَما ثقافتُنا، فقد واصلت نظرتَها العاطفية الممزوجة بالغضبِ تجاه النقدِ بوجهٍ عامٍ وتجاه نقدِ المسلماتِ (وما أَكثرها في واقعِنا) والشخصياتِ التي تتبوأ مواقعَ القيادةِ. بل أَننا -في حالاتٍ غير قليلة- ننظر لنقدِ هذه الجهاتِ وكأَنه عملٌ تخريبي وهدّام بل ويصل الشعورُ تجاهه أَحياناً لحدِ اعتباره عملاً يقرب من أعمال الخيانة.

وضيقُ الصدرِ بالنقدِ من المسائلِ التي تتغلغل في عقولِ أبناءِ وبناتِ مجتمعنا منذُ الصغر ويترسخ كأحدِ ملامحِ ثقافتنا ثم تأتى سلبياتٌ أُخرى شاعت في تفكيرِنا المعاصر لتجعل المسألةَ بالغة الحدة: فعندما يجتمع ضيقُ الصدر بالنقدِ مع تقلصِ السماحةِ واتسامِ التفكيرِ بالشخصانيةِ (والبعدِ عن الموضوعيةِ) مع النظرةِ الضيقة للآخرين (بصفتِهم إِما معنا أَو ضدنا) والتعصبِ الشديدِ لأمجادِ ماضينا والميلِ الجارفِ لمدحِ الذاتِ -عندما يجتمع "ضيقُ الصدرِ بالنقدِ" مع هذه المعالم الأخرى الواضحة التي شاعت في جونا الثقافي، فإن حدةَ ودرجةَ الضيقِ بالنقدِ تبلغ أبعدَ مدى وتصبح النظرةُ للنقدِ مشوبةً بالغضبِ والتوترِ والشكِ في النوايا والإحساس بوجود خطر متربص بنا، ولن يكون من العسيرِ علينا إِدماج كل ذلك في الاعتقادِ بوجودِ تآمرٍ كاملٍ ضدنا.

ولا أعتقد أنني بحاجةٍ لضربِ أمثلةٍ على اتسامِ جونا الثقافي العام بالضيقِ الشديدِ من النقدِ، فخلال سني العقود الأخيرة تكررت مئاتُ الحالاتِ النمطيةِ التي جسدت هذه الظاهرة بل وأَكدت أَن هذه الصفة (ضيق الصدر الشديد بالنقد) قد أصبحت من معالمِ الكثيرين بما فيهم قيادات فكرية وثقافية، فأصبح الجدلُ والحوارُ حولَ مسائلَ فكريةٍ تجسيداً جديداً لدرجةِ ضيقنا من النقدِ وتوترنا وغضبنا منه.

ولنأخذ أمثلة قليلة تكررت وقائع مماثلة لها بأَشكالٍ تكاد تكون مضاهية تماماً:
  • فالذين يدعون للاحتفالِ بمرورِ قرنين على العلاقاتِ المصريةِ الفرنسيةِ يتبادلون مع الذين يستهجنون هذا الاحتفال أنماطاً من التهمِ وأساليبَ من التجريحِ تُجسد عجزنا عن الاختلافِ والنقدِ بتعقلٍ ورويةٍ.
  • والذين يعتقدون أَن الحوارَ مع العدو التاريخي هو السبيل الوحيد للخروجِ من واقعٍ مترعٍ بالجراحِ، يواجهون بطوفانٍ من الكلماتِ والألفاظِ الحادة التي تجردهم من كلِ ميزةٍ وصفةٍ طيبةٍ بما في ذلك صفة المواطن المحب لوطنِه الحريص على واقعِه ومستقبلِه.
وعشرات . . . بل مئات الأمثلة التي تؤكد أَننا إِما أن نتفقَ تماماً وإما أن ننطلق إلى مرحلةِ التراشقِ بأَشدِ الكلماتِ حدة وتجريحاً. أَما مرحلةُ النقد الهادئ والموضوعي والقائم على أُسسٍ عقلانيةٍ، فمرحلة يندر أن نمر بها، لأن مُعظمنا لم ينشأ ولم يتدرب عليها ولم يكتمل وعيه وإِدراكه في جوٍ ثقافيٍ عام يؤمن بجدوى وإيجابيةِ وفعاليةِ النقد. ولا يدل على أَننا لا نعترف بالنقدِ (إلاِّ عند التشدق بالشعاراتِ) من خلاءِ وسائل إعلامِنا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من مقالٍ أو حديثٍ واحدٍ يتضمن نقداً لرموزِ الحكم السياسي في مجتمعِنا. فإذا كنا نسلم بوجودِ النقدِ في حياتِنا العامة، وإذا كنا نسلم أَن الذين حكمونا خلال السنوات الأخيرة هم بشرٌ غيرُ معصومين، وإذا كنا نؤمن بأَن اختلافَ الرأي لا يفسد للود قضية، فليدلنا من يقدر على مقالٍ أو حديثٍ واحد نشر في مصرَ في وسائلِ إعلامِنا المرئية أو المسموعة أَو المطبوعة ويتضمن نقداً للتوجهات السياسية الأساسية للحكمِ. فإذا لم يوجد كان ذلك أوضحَ دليلٍ على ضيقِ الصدرِ بالنقدِ ضيقاً يجب أن يقلقنا ويجعلنا متحمسين لمعالجةِ هذا الداء من أدواءِ جونا الثقافي العام بكلِ السبلِ التي تسمح بنموِ قبولنا للنقدِ والذي بدونه لا يمكن صنع المستقبلِ المنشودِ.

وهنا فإِنني لا أَجد عبارة أفضل من عبارةِ الفيلسوف العظيم "كانط" والتي أوردتها في مقدمةِ هذا الكتاب والتي تقول "أن النقدَ هو أفضلُ أداةِ بناءٍ عرفها العقلُ البشرى".