تقلص السماحة في تفكيرنا المعاصر
"لكم دينكم ولي دين"
{ قرآن كريم.. }


الإنسانُ - بطبيعتهِ - قابل لأن يَكون ضَيق الصدر ورافضاً (وفى أحيانٍ غير قليلة: "معادياً") لمن يَختلفون عنه اختلافات كبيرة. ومن صور الاختلاف التباين في الدينِ والعرقِ والمعتقداتِ والعاداتِ والمقدساتِ والاختلافات الحضارية والثقافة بشتى صورِها. وعبر التاريخ، كانت هذه الاختلافاتُ (مع اختلاف المصالح) بمثابةِ الوقود الذي أَشعل - مراراً - الحروب والصراعات العديدة التي حشد بها تاريخُ الإنسانِ على الأرضِ.

ومن المؤكد، أَن تاريخ الإنسانية قد شَهد تحَولات إيجابية في نموِ ظاهرة قبول الإنسان لكونِ هذهِ الاختلافات من الأمورِ الطبيعيةِ والملازمة لحياةِ البشر على الأرض. بمعنى أَن الإنسان أَصبح عبر القرون أقل رفضاً وغضباً منْ تِلك الاختلافات وأَكثر قبولاً للتعايش معها. ومع تطور الحياة المدنية، نما شعور بأَن لوم الآخرين لمجردِ كونهم مُختلفين ، هو مَوقف غير إِنساني وقد يَبلغ حد أَن يَكون هَمجياً.

ومما لا شَك فيه، أَن الحضارة الإسلامية كانت أَفضل من الحضاراتِ القديمة الأخرى في اتسامِها بدرجةِ تَسامح عالية مع "الآخرين". والدَليل القاطع الذي نشير إليه دائماً، هو الفارق بين "المسلمين" و"المسيحيين" خلال العصور الوسطى. فبينما عاش "المسيحيون" و"اليهود" حَياة طيبة في ظلِ الدولةِ الإسلامية (من العباسيةِ حتى العثمانية) فإن المسلمين قد تَعرضوا في أسبانيا -بعد خروج العرب- لاضطهاد وتَعذيب بربري فظ. أَما اليهود فقد عاشوا في "حاراتِ اليهودِ" وكأنهم "أمراض خبيثة" يَخشى المجُتمع على نفسه مما بها من أوبئة فَتاكة.

ومن المُهم للغاية أن نُبرز أَن الدولة العثمانية التي عاش يهود ومسيحيو فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومِصرَ تحت رأيتها كان من الميسور لها عملياً أَن تَفعل -على الأقل - مَثلما فعلُه المسيحيون بالمسلمين في الأندلسِ عندما أَفل نجم الدولة الإسلامية في هذا القطرِ.

أَما إِذا عدنا للعصرِ الحديثِ، فإِن التَسامح بمعنى قبول أَن الآخرين مُختلفون في أشياءٍ عديدةٍ منها الدين والعرق والعادات والمقدسات والتقاليد، كان ولا يزال ظاهرة ثقافية في المقامِ الأولِ. فكلما تَشبع المجُتمع بالتعليم والثقافةِ، كلما كان أَبناؤه أََكثر تَسامحاً مع الآخرين وأَكثر قبولاً لفكرةِ أَن الاختلاف بين الناس أَمرٌ طبيعي ويجب أَن نَعيش معه في هدوءٍ وسكينةٍ.

ورغـم يَقيني أَن الحَضـارة التي تُعـرف الآن بالحضارةِ الغـربيـة إتسمت تاريخيـاً بالتـعصبِ العرقـي، إِلاَّ أَن الواقع يُحتم علينا أَن نَعتـرف أَن الازدهـار الثقـافــي في العالمِ الغــربي قـد حــوّل أبناء هـذه المجتمعات لدرجةٍ أفضـل من التَسامح. ويكفي أَن نُلاحظ التَحول الكبير الذي تم خلال نصف القرن الأخير في الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية. فإسرائيل لم تَعُد تجد اليوم في أَوروبا من التفهمِ والتأييدِ والمساندةِ ما كانت تجَده عندما تَكونت (في سنةِ 1948) لأن الثقافة والوعي جَعلا مُعظم الأوروبيين يرون شرعية الحق الفلسطيني ويرون إسرائيل وهى تكيل في العديد من الأمور بمكيالين، ولولا الوعي والثقافة لظلت الشعوب الأوروبية سادرة في غيها الذي كانت عليه منذ قرابة نصف القرن. ولكن هذا القول لا يَنطبق على الولايات المتحدة لاعتبارات لا تخفى عن أَحد وأَهمها أَن مُستوى مَعرفة المواطن الأمريكي بالعالمِ الخارجي هو مُستوى ضَحل بشكلٍ لا يكاد عقل الإنسان أَن يَتَصَوره - ناهيك عن كونِ الإنسانِ الأمريكي بَعيداً للغايةِ عن أَن يوصف بأنه إِنسان مُثقف.

ولكننا عندمـا نَعود لمنطقتـنا مـن العالـمِ، فإننـا لا نمَلك إِلاَّ أَن نَعترف بحقيقةٍ بالغـة الخطورة، وهى أَن درجة تَسامحنا قد أَخذت في التقلصِ والضمورِ خلال العقود الأخيرة بشكلٍ مُذهل. فمنُذ قرابة نصف القرن، كان المُناخ الثقافي العام لدينا مَشحوناً بعددٍ من القيمِ الإنسانية المُستقرة في وجداننا بوجه عام وفى وجدان الطبقة التي تمثل قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً بوجه خاص، وكان من هذه القيم أَن الإختلاف سنةٌ من سُننِ الحياة ومعلم من معالمِ التَواجد الإنساني على الأرض. وكان هذا الجو الثقافي يَجعلنا أَبعد ما نكون عن "الصيغةِ الفكريةِ" التي نمَت خلال السنوات الأخيرة والتي تُقَسم الناس إلى "نحن" و"هم" وفى نفسِ الوقتِ تجَعل "نحن" في "رصيفِ الصوابِ" أَما "هم" ففي "رصيفِ الخطأِ". وهى صيغة أقل ما يُقال عنها إنها تَتَسم بالسماتِ التالية:
  • أَنها صيغةٌ "غير إنسانية" و"عدوانية" وتُشكل حالة تَضاد فكرى وثقافي كاملة مع حقائق العصر العلمية والثقافية.
  • أَنها صيغةٌ "غير سلمية"، بمعنى أن مسايرتها حياتياً أمرٌ لا يؤدي لاشتراكنا في حياةٍ سلمية على الأرض مع الآخرين، إِذ أَنها صيغة تَقود إِلى "المواجهةِ" و"التضادِ" و"الصدامِ" مع الآخرين.
  • أَنها صيغةٌ تُخالف روح السلام والإنسانية العميقة الواردة في أصولِنا الحضاريةِ الدينيةِ الإسلاميةِ والمسيحيةِ على السواءِ.
كنا إذن - منذ قرابة خمسين سنة - نعيش في ظلِ مناخٍ ثقافيٍ يَسمح لمبدأ التسامح أَن يَحكم روحنا العامة. إِلاَّ أَن واقعنا قد شهد - في سنواتٍ لاحقة - أَشكالاً من الفشل، جعلت هذا المُناخ الثقافي العام يتزلزل. ففي صباحِ الخامس من يونيه 1967 تجَسد الفشل الكامل لتيار سياسي بُرمته. وخلال السنوات التالية، ظهرت معالم الفشل العام في إِدارة حياتنا الاقتصادية. وتبع ذلك، تَشققات كُبرى في واقعنا الإجتماعي. ولما تجَسَدت تلك الأشكال المُختلفة للفشلِ، صار من حق البعض أن يَظُن أَنه صاحب "طرح" أَفضل. وعندما سَمحت الظروف العامة لأصحاب هذا الطرح بأَن يروجوا لطرحِهم الفكري (المُجافى تماماً لروحِ العصر والتمدن والعلم) ظهر بوضوح أن هذا الطرح لا يحمل ذرة من التسامح الفكري، بل أنه التَجسيد الأوضح أَمام عيوننا لصيغة "نحن" و"هم" بكل ما تَعنيه من مُغالاة وتَشَدد.

ومن المهم للغاية أن نبدأ عملية التصحيح الثقافي لهذا العيب الخطير والذي أصبح يشوب تفكيرنا المعاصر بالوقوف على حقيقة وكنه المشكلة: فنحن -اليوم- أقل تسامحاً وأكثر تعصباً لمعتقداتنا عن الحد الذي كان يجب أن يكون أقصى مدى نصل إليه في هذا الصدد. ويجب أَن نُدرك أَن عدم تَعاملنا - بموضوعية وعلمية - مع هذا العيب من عيوب تفكير معظمنا سوف يؤدي لاتساع الهوة بيننا وبين العالم (لاسيما العالم السائر على طريق التقدم).

كذلك يجب أَن نَرى العلاقة الوثيقة بين هذا العيب من تفكيرنا (تَقلص التَسامح) وبين عيب آخر شاع وذاع في طرائقِ تفكيرنا وهو الإيمان الغريب بنظريةِ المؤامرة. فاجتماع العيبين سيؤدي بنا لعزلةٍ هائلةٍ عن العالمِ الخارجي وبالذات الأجزاء ذات القيمة والأهمية الاقتصادية والثقافية والاستراتيچية من هذا العالم الخارجي.

ورغم أَننا أَصحاب حق تاريخي لا يدحض في عددٍ من المعضلاتِ السياسية الكُبرى في واقعِنا، إلاَّ أَن اتسـام تَفكير معظمنا بهذين العيبين (الإيمان المُطلق بنظريةِ المؤامرةِ وتَقَلص التَسامح) جعل خطوط التفاهم والحوار بيننا وبين القوى المؤثرة في العالمِ الخارجي إما مقطوعة أو شبه مَقطوعة. كذلك فإِن اجتماع العيبين أَعطى أَعداءنا التاريخيين (في قضايا ليسوا هم أصحاب الحق الأقوى فيها) مكانة أَفضل في عينِ القوى المؤثرة في العالمِ الخارجي.

ومن المُؤكد أَن تَقَلص التَسامح هو عيب لا يشوب تَفكيرنا -فقط- في تعاملاتنا مع الغير أي مع العالم الخارجي، بل أَنه عيب يؤثر فى مواقفِنا الداخلية، بمعنى أَننا في حواراتِنا الداخلية أصبحنا محكومين بهذا العيب الكبير بشكلٍ مهول بل أن الآراء المُختلفة داخل كل جبهة أصبحت تتناحر بروحٍ لا تُعبر عن شئ مثل تعبيرها عنْ تَقَلصِ التَسامح.

ومما لا شك فيه أَن "مؤسسات التعليم" ثم "وسائل الإعلام" ثم "سائر الجهات الثقافة" هي المنابر ذات القدرة على التعامل العلمـي والموضوعي مـع هـذا العيب الفتــاك من عيـوبِ تفكير السـواد الأعظـم فـي واقعِنـا. وللأسف الشديد أَن إِحـراز نجاح وتقدم كبيرين في هذا المجال هو أمرٌ بالغ الصعوبة، إِذ أَن آثار وثمار برنامج إصلاحي فعّال في هذا المجال (من خلال المنابر المذكورة) لا يمكن أن تُلمس قبل بضع سنين، فكل الإصلاحات التي تَتم منْ خلالِ مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة هي من قبيل الاستثمار طويل الأجل، وإن كان استثماراً مضمون النتيجة ومُجدياً وفعالاً على المدى البعيد، ولا يتوفر أي بديل يغنينا عنه.