الاعتقاد المطلق في"نظرية المؤامرة"



أَسيرُ على نهجٍ يرى الناسُ غيرَه.
                                 لكل امرئٍ فيما يحاولُ مذهبُ.            "أحمد شوقي . ."

لكلِ إِنسانٍ منشغلٍ بأمورِ الفكرِ ولاسيما ما يتصل بالعلومِ الاجتماعيةِ وحركةِ وفكرِ المجُتمعاتِ مسائل تكون محلَ اهتمامِه وانشغالِه أكثر من غيرِها. ومن المسائل التي لم تغادر تفكيري منذ سنواتٍ شيوع الاعتقاد في عالمِنا العربي وواقعِنا المصري "بنظريةِ المؤامرة". فمن المؤكد أَن هُناك الكَثيرين -بالملايين- في واقعِنا الذين لا يساورهم شكٌ في صحةِ المقولاتِ التالية:
  • أَن وقائعَ ماضينا القريب وحاضرنا جاءت وفقاً لمخططاتٍ وضعتها قوى كبرى وأن الواقعَ كان في معظمهِ ترجَمة عملية لهذهِ المخُططات.
  • أَن هذه القوى التي صاغت تِلك المخُططات والتي سار على دَربِها ماضينا وحاضِرنا هي في الأغلبِ القوى العالمية العُظمى وبالتحديدِ بريطانيا وفرنسا في الماضي والولايات المتحدة (وابنتها إسرائيل) في الأمسِ القريبِ والحاضرِ.
  • أَن مُخططاتِ هذه القوى موضوعة بشكلٍ تفصيلي وأن الأطرافَ الأقل نصيباً من القوةِ (ونحن من بينها) لم تَكن تملك (ولا تمتلك الآن) إلا أن تَنصاع لتيارِ تِلك المخُططاتِ.
  • أَننا -بناءً على ما سبق- غيرُ مسئولين مسئوليةً كبيرةً "عما حدث" . . . وبنفسِ الدرجة "عما يحدث" . . . ويضيف البعضُ "عما سَوف يحدث". وتلك نَتيجة مَنطقية -في رأى واعتقاد الكثيرين لتلك "المنظومة الفكرية".
وعندما يضاف "العامل الإسرائيلي" لتلك "النَظرة" تَكون الصورةُ بالغةَ "الحرارةِ" و"الإثارةِ". وإِذا انتقلنا من "العمومياتِ" "للجزئيات" كان من الطبيعي أَن يردد البعضُ -حَسب تلك "النظرة"- أَن أَكبرَ وقائعِ تاريخِنا الحديثِ ما هي إلاَّ نَتائج المخُططاتِ التي وضعتها القوى العظمى... فحرب 1956 وانفصال سوريا عن مِصرَ في سنة 1961… وحرب اليمن من سنة 1962 وكارثة 5 يونيه 1967 وعدم استكمال عملية العبور العظيمة لقناة السويس في أكتوبر 1973 حتى نحرر –عسكرياً- سيناء كلها… وزيارة الرئيس السادات للقدسِ في نوفمبر 1977 وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مِصرَ وإسرائيل وسقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار "هيكل الاشتراكية" في كلِ مكان ... وانفراد الولايات المتحدة بدورِ القوى العظمى وأشياء أخرى كثيرة مثل "النظام العالمي الجديد" و"اتفاقيات الجات" وخلافه... كل ذلك ليس إلاَّ نتائج مباشرة وترجمات عملية لتلك المخُططاتِ التي يعتقد كثيرون منا أَنها وُضعَتْ من طرفِ القوى العظمى ليسير التاريخُ وفق مفرداتِها.

ومن الجدير بالاهتمامِ والتحليلِ أن الأطرافَ أو المجموعاتِ التالية تشترك في هذا المفهومِ بدرجاتٍ مُختلفةٍ:
  • فكل من يمكن أن يندرجوا تحت مسمى "الإسلاميين" يؤمنون إيماناً صخرياً واضحاً كضوءِ الشمس بصحةِ هذهِ المقولات والتي من مجموعِها تكتمل "نظريةُ المؤامرة"… وينضوي تحت هذه الرايةِ الإخوانُ المسلمون وغيرهم كالجماعةِ الإسلامية وتنظيم الجهاد والحركات السلفية بل والمعتدلون للغاية من أصحابِ "الطرح الإسلامي" ويوجعني أن أصف فرقة هي مجرد "مجموعة سياسية لا غير" بمصطلح "الإسلامية" لأن ذلك يعني أَن "غيرهم" يجب أن يصنف ضمن "غير الإسلاميين" أو"ضد الإسلاميين"؛ وهو أمر خاطئ تماماً – ولكن ضرورات استعمالِ الشائعِ والذائعِ من "المصطلحاتِ" قد تملي على المرءِ أن يستعمل تسميةً هو أول المعترضين على صوابِ ومعقوليةِ استعمالِها وإذا كان لابد أن نختار أكبر المؤمنين “بنظرية المؤامرة”، فلابد أن نسلم للإسلاميين بهذه الرتبةِ.
  • أما كل من كانوا - بشكلٍ أو بآخر تحت اللواء الاشتراكي، من ماركسيين إلى اشتراكيين ومروراً بعشراتِ تصنيفاتِ الفرعيةِ للتوجهاتِ اليسارية أو الاشتراكية بما في ذلك الاتجاه الناصري -فإنهم يؤمنون بنظريةِ المؤامرةِ ولكن بدرجةٍ أقل من "التصخر" إن جاز لنا نحت هذا التعبير. فهم إن كانوا يؤمنون بالنظريةِ ككلٍ وبالتالي بالمقولاتِ التي أوردتها في مستهل هذا المقال ؛ إلاّ أن إيمانهم هذا غير مشوبٍ بما يمكن تسميته بالروحِ الجهاديةِ أو الحربيةِ أو "الضد –صليبية" التي تشوب موقف الإسلاميين في هذا الصدد. ولاشك أن الاختلافَ في "صخريةِ" الاعتقاد هنا و”نارية “ اليقين و”التِهابية" الموقف إنما ترجعُ للروحِ الثيوقراطية (الدينية) للحركاتِ المسماةِ بالإسلاميةِ وفى نفسِ الوقتِ للروحِ الأكثر علمية وتقدماً وعصرية للأفكار الاشتراكية (وإن ثبت أنها كانت كلها خاطئةً وعاجزةً عن تحقيقِ أهدافِها وشعاراتِها).
  • وثالثاً (وأخيراً) فإن السوادَ الأعظم من "المواطنين العاديين" في واقعِنا العربي والمصري والذين لا ينتمون للفريقِ الإسلامي (سياسياً) أو الفريق الاشتراكي (عقائدياً)، فإن معظمَهم يميلُ ميلاً واضحاً لتبني "نظرية المؤامرة والتسليم –بالتالي- بصوابِ وصحةِ "المقولاتِ" المنبثقةِ عن الإيمانِ بهذه النظريةِ.
ولكن من الضروري للغايةِ أن نذكر أن أسبابَ إيمانِ كل مجموعةٍ من هذه المجموعاتِ الثلاث الكبرى بنظريةِ المؤامرةِ إنما ينبعُ من مصادرٍ مختلفةٍ:
  • فالمجموعةُ الإسلامية (بمختلفِ فرقِها) ترى أَن تاريخَ منطقتنا هو تاريخُ الصراعِ بين (الإسلام) و(المسيحية واليهودية)... وأَن الحروبَ الصليبية لا تزال مستمرةً ولكن من خلالِ أشكالٍ مختلفةٍ. وتعطي هذه المجموعةُ للبعدِ اليهودي أهميةً كبرى، فهي تعزو له جل أسباب مشاكلنِا وكوارثِنا.
  • أما المجموعةُ الاشتراكية (بالمعنى الواسعِ) فإنها ترى الأمرَ من خلالِ تصورِها المعروفِ للصراعِ بين القوى التي تسميها بالقوةِ الإمبرياليةِ والجانب الآخر والذي يضم الشعوب المقهورة والمستغَلة (بفتح الغين).
  • وأما مجموعةُ المواطنين العاديين، فإنها كوّنَت ميلها هذا للإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ كأثرٍ حتميٍّ إما لسطوةِ اللون الاشتراكي أو لسطوةِ اللون الإسلامي على مواقع غيرِ قليلةٍ من عالمِ الإعلام في واقعنا ومن كثرةِ تكرارِ المقولاتِ المنبثقةِ عن نظريةِ المؤامرةِ والتي غَدت وكأَنها من المُسَلماتِ. وفى المجتمعاتِ التي لا تتسم بمستوى عالٍ من التعليم والثقافة، فإن دورَ الإعلام (بما في ذلك منبر المسجد) قد يصل إلى حدِ (غسل العقول) و(تشكيل الوجدان)… ويكفي أن نذكر أن أولَ اسمٍ لوزارة الإعلام في بعض البلدان كان "وزارة الإرشاد" وهو اعتراف صريح وواضح بالرسالةِ الأساسيةِ وهي "الإرشاد" أي "التوجيه".
والحقيقةِ، أن هذه "المنابع" لإيمان كل مجموعةٍ من المجموعاتِ الثلاث بنظريةِ المؤامرةِ هي "منابعٌ وهميةٌ" ولا سند لها من الواقعِ والتاريخِ والمنطقِ ... فشعوبُ منطقتنا من العالمِ كانت سَوف تلقى نفسَ المسَارِِ التاريخي بما فى ذلك استعمار الغرب لها حتى لو كانت منطقتنا من العالم "مسيحيةً" تماماً. فالغرب لم يُستعمرَ منطقتنا لأننا مسلمون، ولكن لأننا من جهةٍ كنا متخلفين وفى وضعٍ يسمح بأن نُستعمر ... ومن جهةٍ ثانيةٍ فإن دافعَ الغرب لاستعمارنا كان دافعاً تحركه عواملٌ "إقتصاديةٌ" في المقَامِ الأولِ و"حضاريةٌ" في المقامِ الثاني. والعواملُ الحضارية أوسع وأرحب من العواملِ الدينيةِ. وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال لدحضِ هذه الوجهة الساذجة من النظرِ، ولكننا نعتقد أن كثرةَ ووضوحَ القرائنِ تغنى عن الاسترسالِ والإسهابِ :فمن الجلي للغايةِ أن منطقتنا كانت سوف تُستعمرَ حتى لو كانت شعوبُها كلُها مسيحيةً. ومن الغريب، أَن الذين يتبنون هذه الوجهة من النظرِ يغيبُ عنهم أن علاقةَ شعوبِ المنطقةِ بالدولةِ العثمانيةِ كانت أدنى ما تكون لعلاقةِ الضعيف ِالمستعمَر (بفتح الميم الثانية). بالقوى المستعمِر (بكسر الميم الثانية) رغم أن الطرفين مسلما ن (!!!). فقد كانت شعوب منطقتنا خلال القرن الثامن عشر مرتعاً للتأخرِ والتخلف والرجعيةِ رغم أننا كنا (مسلمين) يحتلهم (مسلمون)، بمعنى أن الغربَ (المسيحي) كان لا يزال بعيداً عنا... كذلك فقد كنا عندما ولدت الحركةُ الصهيونية المعاصرة على يد النمساوي المعروف تيودور هرتزل في أواخرِ القرنِ التاسع عشر قد قطعنا شوطاً بعيداً فى التخلفِ لأكثرِ من ستةِ قرونٍ لم يكن اليهودُ فيها قادرين على تحريكِ أيّ حدثٍ تاريخيٍّ.

أما منطقُ المجموعةِ الاشتراكيةِ ففيه الكثيرُ من الصوابِ، دون أن يكون صواباً خالصاً. فمن المؤكد أن "الدافعَ الاقتصادي" هو العاملُ الأول الذي "ساقَ" الغرب في علاقتهِ التاريخية بنا خلال القرنين الأخيرين. إلاَّ أن الأمرَ -كما سنوضح بعد قليلٍ - كان في إطارٍِ آخرٍ مُختلف تماماً عن إطارِ "المؤامرة".

وأما منطقُ المواطنين العاديين، فإنه وإن كان متهافتاً ولا يصمد أمام التحليلِ والتفنيدِ الدقيقين، إلا أنه مفهومٌ. فمن الطبيعي أن كثرةَ ترديدِ مقولاتٍ معينةٍ على مسامعِ شعوبٍ نصفها من الأميين والنصف الآخر أصحاب نصيبٍ متواضعٍ للغايةِ من التعليمِ والثقافةِ والوعي من شأنِه أن يخلق انطباعاً بصوابِ مقولاتٍ لا تَستند إلا على "التوهمِ" و"الديماجوجية".

وجوهرُ القضيةِ في اعتقادي أن معظم من تناول "نظرية المؤامرة" لا يعرف إلاّ أقل القليل عن طبيعةِ وحقائقِ وآلياتِ الاقتصادِ الرأسمالي أو الاقتصاد الذي يسمى باقتصادِ السوق أو الاقتصاد الحر؛ فجوهر الاقتصاد الرأسمالي هو "المنافسة". وفكرةُ المَنافسة تعني –فيما تعني- أشياءً عديدةً إيجابيةً وصحيةً، ولكنها تعني أيضاً أشياءً سلبيةً وغير صحيةٍ. ولكن نظراً لأن كلَ البدائلِ الفكريةِ (للرأسمالية أو لاقتصاد السوق) قد باءت بفشلٍ ذريعٍ وأحدثت من الدمارِ والخرابِ لمجتمعاتها ما أحالها لمتحفِ الأفكارِ المنقرضة، فإن الواقعَ يحتمُ علينا ونحن نمعن النظر في حقائق وطبائع الاقتصادِ الحرِ ألاَّ يدفعنا الانفعالُ وجموحُه للعودةِ بأي شكلٍ لدوائرِ الأفكارِ الاشتراكية، فقد أحدثت هذه الأفكارُ من الأضرارِ والخسائرِ ما لا يسمح بإعطائها أيةَ فرصةٍ أُخرى. والواقع (لا الفلسفة) يؤكد أن كلَ ما هو اشتراكي (في الفكرِ والتطبيقِ) مآله إما لمتحفِ الأفكار وإما للانقراض التام بفعل ما يسببه من إخفاقٍ وفشلٍ وخسارةٍ. فإذا عدنا للمنافسةِ بوصفها العمود الفقري للاقتصاد الرأسمالي، كان علينا أن نعى أن "المنافسةَ" ليست فقط تلك "الفكرة الجميلة" التي تعنى فوائداً للأفراد، حيثُ تؤدى المنافسة لعملية تجويد مستمرة في نوعية ومستوى البضائع والخدمات وحيثُ تؤدى في أحيانٍ كثيرةٍ لخفضِ السعرِ أو التكلفة، وإنما هي – أيضا- صراعٌ شرسٌ بين المنتجين بعضهم البعض: صراع يتجسد في أشكالٍ عدةٍ.... كالطرد من السوقِ (إن أمكن) أو تهميش دور الآخرين والاستئثار بأكبر حصصٍ من السوقِ أو الأسواقِ. وهذه الطبيعة أو هذا المعلم من معالمِ النظامِ الاقتصادي الغربي هو الذي يفرزُ ما يبدو للأكثريةِ في دول العالم غير العريقِ في الصناعةِ والخدمات الرأسمالية المتقدمة وكأنه "مؤامرةٌ محبوكةٌ".

وهذا الجانب من جوانبِ "عنصر المنافسة" هو ما أود أَن أُسلط مزيداً من الضوءِ عليه، لأننا إذا لم نفهمه جيداً وبوضوحٍ تامٍ ونقبل فكرةَ حتميته ونوّلد استراتيچيتنا للتعاملِ معه كحقيقةٍ لا تقبل التجاهل من حقائقِ الحياةِ المعاصرةِ، فلن نبلغ أيَّ شيءٍ مما نريد. وأعني هنا أن المنافسة التي هي من أهم أسس الحياةِ الاقتصاديةِ القائمةِ على ديناميكيات اقتصادِ السوق هي التي كانت خلال القرونِ الثلاثةِ الأخيرةِ سببَ كلِ المنازعاتِ الداخليةِ في أوروبا بل وسبب الحروبِ التي كانت الحربان العظميان (حرب 1914/1918 وحرب 1939/1945) من أهم صورِها. ولكن أوروبا التي تطاحنت وتشاحنت طويلاً تطاحناً وتشاحناً داخليين وصلت خلال العقودِ الثلاثةِ الأخيرةِ ليقينٍ بأن فوائدَ عدمِ التشاحن الأوروبي الداخلي أعظمُ من فوائدِ استمرارِ هذا التشاحن الذي لا سبب له إلا "المنافسة". وبذلك خرجت المنافسةُ (في درجاتها الأعلى) من ملعبها الأوروبي لملاعبٍ أُخرى خارج القارةِ الأوروبية، وإن بقت الساحةُ الأوروبية زاخرةً بأشكالٍ وألوانٍ شتى من المنافسةِ ولكن التي يحكمها قانونُ التعايشِ معاً وقانون الإتفاق على عددٍ من الحدودِ الدنيا.

وحتى تزداد الفكرةُ وضوحاً، فإنني أَودُ إبراز حقيقةٍ بسيطةٍ للغايةِ إلاَّ أَنها لا تحظى بالوضوحِ أمام الكثيرين، وهى أن النظامَ الاقتصادي القائم على المنافسةِ يحتم أن تكون مصالحُ المنتجِ أو البائعِ الاستراتيجية أن يظل "بائعاً" وأن يبقى "المشتري" لأطولِ مدةِ أو دائماً "مشترياً"؛ وألاَّ يحدث –هنا- تبادل في المواقع. هذا المفهوم البسيط هو جوهر جانب المنافسة الذي يراه الكثيرون في عالمِنا كمؤامرةٍ محبوكةٍ- والحقيقة أنه يشبه المؤامرة لحدٍ ما، إلاَّ أنه يختلف عنها تماماً في الدوافع وقوانين الحركة. وهذا "القانون” من قوانين حركة "الاقتصاد الحر" والمنافسة إنما هو قانون يعمل “داخل" المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبالتالي فإن "عمله" خارجها أمرٌ حتميٌ ومُنتظر ولا مَحيص عنه.

والمعنى هنا أن النظام الاقتصادي السائد في الدولِ الأكثر تقدماً صناعياً (والآن: تكنولوچياً وخدمياً) يقوم على صراعات لا يمكن تجنبها وقودها المنافسة وتتمثل في محاولاتٍ لا تنتهي للاستئثار بالأسواقِ أو بأكبرِ حصص ممكنة من الأسواق، وأن ذلك يعني أن "السمك الكبير" لا يتوقف عن محاولة "أكل السمك الصغير" وأن ذلك التفاعل وجوانبه السلبية (الشرسة) يعمل في داخل المجتمع الواحد وخارجه (وعندئذٍ يكون أكثر شراسة)، وأن مفردات علوم وممارسات الإدارة العصرية تتضمن العديد من المفاهيم التي تخدم في المقام الأول "المنافسة" بجوانبها المختلفة (الإيجابية والسلبية) ورغم أنني لا أريد أن أدخل بالقارئِ في دقائقِ علومِ الإدارة الحديثة، إلا أن السياق واكتمال التحليل في هذا المقالِ يحتمان أن أذكر أن المفاهيم الكبرى التالية من مفاهيم علوم الإدارة الحديثة: إدارة الجودة Quality Management تقنيات التسويق على مستوى العولمة Global Marketing سرية البيانات Data Confidentiality والزخم الهائل من نظم المحافظة على الصحةِ المهنيةِ Occupational Health والاعتبارات البيئية Environmental Considerations وعشرات غيرها من مفردات علوم وممارسات الإدا رة العصرية إنما تهدف - في أولوية عالية من أهدافها - إلى أن يكون أصحابها من "السمك الكبير" القادر عن طريق هذه المفاهيم وتطبيقها تطبيقاً ناجحاً إما لأكل السمك الصغير وإما لزيادة حجمه صغراً... ويمكن الآن أن نُضيف لقانون "إن السمك الكبير يأكل السمك الصغير" قانوناً جديداً يسير في موازاة هذا القانون وهو قانون "إن السمك الكفء السريع يأكل السمك الأقل كفاءة وسرعة"… وقد ظهرت خلال السنوات العشرين الأخيرة في عالم المؤسسات الصناعية والخدمية والتكنولوجية والتجارية الكبرى على مستوى العالم الأدلة القاطعة على مولد وتعاظم شأن هذا القانون الجديد. ومن المهم للغاية هنا أَن نمُيز بين "ما نحب أن نراه" وما لا وسيلة أمامنا "لكي لا نراه" إلا غش أنفسنا. فهذه القوانين موجودة وسائدة ولم يعد هناك أمل بعد نفوق (وفاة) الاشتراكية أن تستبدل بقوانين تضمن النجاح والوفرة وتتجنب هذه المثالب (عند الذين يرونها كعيوبٍ).

ومن غيرِ الممكنِ أن نتجنب هنا التصريح بأن المثقفين أوسعَ ثقافة عالمية لن يكون بوسعِهم أن يروا بوضوحٍ هذه الحقائق والقوانين وجوانب هذه القوانين المختلفة إذا كانت ثقافتَهم تعنى معرفةً شاملةً بكلِ العلومِ والمعارفِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ دون علوم العصرِ الحديثِ في مجالاتِ الإدارةِ والتسويقِ والمواردِ البشريةِ وما انبثق عن هذه المسميات الكبرى من عشراتِ المجالاتِ الجديدةِ المتخصصةِ. فالإنسانُ الذي يعرف كلَ ثمارِ الثقافةِ والمعرفةِ الإنسانيةِ من "سقراط" إلى "براتراند رسل" ومروراً بآلافِ الأسماءِ ومناطق المعرفةِ الإنسانية الاجتماعيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والأدبيةِ والفلسفيةِ يظل عاجزاً عن رؤيةِ هذه الحقائق وقوانين الحركة وجوانبها المختلفة إذا كانت جعبتهُ الثقافية لم تتسع لتشمل علومَ العصرِ في مجالاتِ الإدارةِ والتسويقِ والموارد البشريةِ- ويكون الإنسانُ عندئذٍ مثل عالم فيزياء أمضى نصف قرنِ في دراسةِ الفيزياء منذُ فجرِ تاريخِ هذا العلمِ خلال نصف القرنِ الأخير، فإنه عندئذ يكون ملماً بمعظمِ تاريخ هذا العلم إلا أن ما لديه يكون مثل متحفٍ للماضي دون أن يصلح بأي شكلٍ للحاضرِ - وللأسف الشديد، فإن عدداً غيرَ قليلٍ من م ثقفي العالم الثالث يندرجون ضمن هذا الفريق الذي يعلم أصحابُه الكثيرَ دون أن يمتد علمُهم ليغطي المناطق الحديثة والتي بدونها يكونون شخصياتٍ متحفيةٍ لا تقدر بأيةِ حال على فهمِ قوانين الحركة المُعاصرة وجوانبها المخُتلفة - بل أن هؤلاء لا يكتفون بذلك وإنما يستمرون في حوارات طويلة لا يستعملون فيها إلا مفردات ومفاهيم تعيد تأكيد حقيقة أنهم يواصلون العيش في الماضي وإنهم بنفسِ الدرجةِ غيرُ قادرين على فهمِ ما يحدث" بل أن هذه المفردات والمفاهيم تصبح أداة إعاقةِ للمجتمعِ عن ركوبِ وسيلة المواصلات الوحيدة القادرةِ على الوصولِ للأهدافِ المرجوةِ، وأعنى الاشتراك في اللعبةِ حسب قواعِدها القائمة لا حسب القواعد المُثلى التي لا وجود لها إلا في خيالِ أصحابِها.

وإذا وصلنا بالتحليلِ لهذهِ النقطةِ المتقدمة، كان من المحتم علينا أن نُلقى بعض الضوء على "الظاهرةِ اليابانيةِ" لما تتصل به من أوثقِ الصلاتِ بهذا التحليل. ففي محاضرةٍ ألقاها كاتبُ هذهِ السطور في طوكيو في ديسمبر 1996(بمعهد الشرق الأوسط المنبثق عن وزارة الخارجية اليابانية) قال إن اليابان قد لعبت في حياتهِ الفكرية واحداً من أخطرِ الأدوارِ، إذ أنها كانت أكبر دليلٍ أمامه على أن نظريةَ المؤامرةِ إما أنها "متوهمةٌ" وإما حقيقية، ولكنها ليست بالقيمةِ التي يعتقد الكثيرون أنها تتسم بها. فإذا كانت هناكَ "مؤامراتٌ" فلاشك أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه المؤامرةُ هو ما حدث لليابان في سنةِ 1945، إذ تكون أبشع وأفظع المؤامرات قد بلغت ذروتها القصوى بإلقاءِ قنبلتين ذريتين على اليابانِ. فالمؤامرة إذا وجِدت فإن هدفها يكون هو "الإضرار بالطرفِ الذي حيكت المؤامرة ضده"، ولاشك أن ضرب اليابان بقنبلتين ذريتين لا يجسد الرغبة في الإضرارِ فقط بل يُجسد قمة تِلك الرغبة.

ومعنى هذا الكلام أننا لو افترضنا وجود مؤامرة ثم افترضنا أن هذه المؤامرة ستبلغ الحد الأقصى وهو محاولة إنزال أكبر الأضرار بالطرفِ الذي تقصده المؤامرة فإن تحقيق الغاية المرجوة من طرفِ الجهةِ المتآمرة لا يمكن حدوثه إلا إذا كان الطرفُ الآخر (الذي توجه المؤامرة ضده) قابلاً ومستعداً لأن ينكسر. فاليابان التي ضُربت بالقنبلتين الذريتين هي اليوم المنافس الاقتصادي الأول للقوى التي كانت تبدو في سنة 1945 وكأنها قد قضت قضاءً مبرماً على اليابان.

يبقى بعد ذلك أهم ما يجب أن يقال عن نظريةِ المؤامرةِ إذ أن الإيمانَ بها بالكيفيةِ المتفشيةِ إنما يعتبرُ - بلا أدنى شك عندي - نقضاً كاملاً لأسسِ لا يجب أن نفرط فيها:
  • فمن جهةٍ أولى، فإن الإيمانَ بنظريةِ المؤامرةِ بالشكلِ الذائعِ حالياً يعني أن "إرادة الفعل" بقدرِ ما توجد بشكلٍ مطلقٍ عند المتآمِر (بكسر الميم الثانية) فأنها تكون مُنعدمةً عند المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية). وهو وضع يلصق صفات الكفاءةِ والقدرةِ والعزمِ والإرادةِ ومُكنة الإحداث بالطرفِ "المتآمِر" (بكسر الميم الثانية) وفي نفسِ الوقتِ يجرد الطرف المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية) وهو جانبنا نحن من كل تلك الصفات، فيكون "الفاعل" هو "المتآمِر" (بكسر الميم الثانية) أما المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية) فيكون "المفعول به" دائماً والجهة التي تسّير وكأنها جمادٌ أعجم.
  • ومن جهةٍ ثانية، فإن الإيمانَ بنظريةِ المؤامرةِ بهذهِ الكيفيةِ ينفي عنا (أي عن المتآمر عليهم) صفة الوطنية ويسبغُها أَسباغاً كاملاً على الجهةِ (أو الجهاتِ) المتآمرة وبنفس الدرجة.
  • ومن جهةٍ ثالثة، فإن هذا الاعتقاد يجعل من المتآمِر كياناً أُسطورياً في مخيلةِ المتآمَر عليه.
  • ومن جهةٍ رابعة، فإن هذا الإيمان يحتم ترسيخ الواقع ويفرض السلبية والانهزامية ويعارض كرامة الاعتقاد بأن "الإنسان يصنع واقعه ومستقبله" وأن الأممَ تملك بنفسِ القدرِ أن تصنع واقعها ومُستقبلها.
ويبقى كل ما كتبته عن نظريةِ المؤامرةِ ناقصاً (ومخالفاً لتصوري) إذا فهم القارئ أنني أُروج لهذين المفهومين:
  • أَن "المؤامرة" هي "الصراع"، وبالتالي فإنني أنفى وجود "صراع دائم" بدوام مسيرة التاريخ الإنساني.
  • أو أَنني أنفي وجود "مؤامرات" عبر مسار التاريخ الإنساني.
فالواقع أنني أؤمن إيماناً قوياً بأَن التاريخ الإنساني هو سلسلة من الصراعاتِ، كما أَنني أؤمن بنفس القدر أَن واقعنا العالمي المعاصر هو مسرح لصراعات مريرة وكبيرة. ولكنني أؤمن أَن "الصراع" مفهوم مختلف عن معنى المؤامرة.

فالصراع يعني العمل الدؤوب من جانب (أَو من جوانب معينة) بهدف استمرار تفوقها أَو حتى توسيع دوائر هذا التفوق وما يصاحبه من مزايا وامتيازات ولكن الصراع يعني أَن هناك "لعبةً لها في كلِ زمن قواعد" وأَن على من يريد لنفسِه مكانة بارزة فوق الأرض أَن "يخوض الصراع" بأدواتٍ وقواعدٍ تضمن أَطيب النتائج. وهنا فإن المثال الياباني يَبرز مرةً أخرى كأحد أقوى الأدلة على هذا التشخيص. ومن بديهيات الأمور أَن "الصراع" هو لعبة مفتوحة (نسبياً) عن المؤامرة، كما أَن قدر الغموض الذي يكتنف "لعبة الصراع" (بل والكثير من المعالم التي تشبه معالم "السحر" و"الشعوذة") هو غموض أقل (نسبياً) مما يكتنف "لعبة الصراع". كذلك، فإن تصوير الأمر على أَنه "لعبة الصراع" وليس "مؤامرة عامة محبوكة" تحكم مسار التاريخ، يحفز أصحاب الإرادة والكرامة والهمم على أَن يدخلوا اللعبة بنية إحراز نتيجة طيبة، وهو وضع يختلف عن "الروح العامة" التي أفرزها الإيمان المترامي بنظرية المؤامرة العامة، وهى روح تميل إلى جانب الشكوى والبكاء والاستسلام والرضى بالنتائج (الوخيمة) سلفاً وليس التحدي والانخراط فى لعبة الصراع (رغم ضراوتها) بنية بلوغ نتائج كريمة وعظيمة كالتي حققها اليابانيو ن الذين خاضوا خلال نصف القرن الأخير واحدة من أشرس لعبات الصراع على مستوى التاريخ الإنساني. كذلك فإنني لم أقصد على الإطلاق أَن أقول إن التاريخ خال من المؤامرات. فمن الميسور لأي قارئ واسع الإطلاع على التاريخ أن يرصد العديد من "المؤامرات" المحددة، ولكنى أقول إن التاريخ ، وإن عرفَ مؤامرات عديدة، فإنه ليس "مؤامرة عامة" وإنما هو صراع دؤوب لا يهدأ ولا مجال فيه للكرامة والظفر لمن دخله مهزوم الروح والوجدان مبلل الخدود بدموع البكاء والشكوى.

وأخيراً، فإنني أجد من اللازم هنا أن أُبرز جانباً هاماً من كوارث الإيمان المستسلم بنظرية المؤامرة العامة وهو الجانب الذي يتعلق بالحكام غير الديمقراطيين (مثل بعض حكام العالم الثالث ).

فالحاكم غير الديموقراطي يساهم بأفكاره وأقواله وأجهزة إعلامه في ترسيخ الإيمان بالنظرية العامة للمؤامرة، لأنه بذلك يكون قادراً على إخفاء خطاياه وأخطائه وراء الادعاء المستمر بأن "كل هذا الحجم من الفشل والمشاكل والمعاناة" إنما يرجع لعناصر خارجية (على رأسِها "المؤامرة العامة") وليس للسبب الأكبر والحقيقي وهو غياب الديمقراطية ووجود حكام على شاكلته (ليسوا هم في معظم الأحوال من أكثر أبناء المجتمع كفاءة وقدرات ورؤية ونزاهة وثقافة).

أما كاتب هذه السطور، فإنه يؤمن أَن "الصراع العالمي" شرس ومضني وبالغ الصعوبة ولكن الأمم تكون أكثر قدرة على خوضه بنجاح وكرامة إذا كانت مستعدة ومهيأة له، وهى لا تكون كذلك إلاَّ إذا كانت تُقاد قيادة فعَّالة وناجحة وذات رؤية صائبة وعن طريق كوادر تتسم بأعلى درجات الكفاءة والقدرة والنزاهة والثقافة (وأكرر: والثقافة لأنه لا "رؤية" في اعتقادي لمن لا ثقافة له).

وخلاصةُ وجهة نظري هنا، أن دعاةَ نظريةِ المؤامرةِ يتحدثون كوطنيين يحبون أوطانهم واعتقادي الراسخ أنهم وإن كانوا بلا شكٍ وطنيين يشغلهم همّ الوطن العام، إلا أَنهم بالطريقةِ التي يؤمنون بها بنظريةِ المؤامرة العامة وبتداعيات وآثار هذا الإيمان المطلق فإنهم يكونون انهزاميين و"دعاة استسلام وخنوع وخضوع" قبل أن يكونوا "وطنيين" يبكون على الحظِ العاثرِ الذي جعلهم في موضعِ الطرفِ "المتآمَر عليه".