لماذا كل هذا الشغف بتاريخ مصر الحديثة؟


رغم أن معظمَ مواضيعِ المعرفةِ (خارج العلوم التطبيقية) قد شغلتني منذ سنٍ مبكرةٍ إلاّ أن اهتمامي وانشغالي بتاريخ مصرَ منذ تولى أمرها باني نهضتها الحديثة "محمد على" وحتى سنة 1952 كان "إهتماماً مختلفاً" اذ كان مشوباً بانشغالٍ وجداني محاذاةِ الانشغالِ العقلي. وقد بدأ هذا الانشغالُ منذ سنِ العاشرة عندما عكفت على مطالعة عددٍ من المجلداتِ وجدتها ببيتنا تضم أعدادَ مجلةِ المصورِ التي صدرت خلال النصف الأول مكن الأربعينات. ولم يكن ذلك إلا بداية رحلة طالت لثلاثين سنة ... مررت خلالها بكل الصحف والمجلات المصرية التي صدرت منذ أوائل هذا القرن وحتى 1952 ... إلى جوار القراءة الجادة التي بدأت بمطالعةِ كل ما كتبه المؤرخُ المعروف عبد الرحمن الرافعي ثم تفرعت لتشمل معظم الأعمال الأكاديمية عن هذه الفترة بما في ذلك عشرات الرسائل التي أعدت لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراة في تاريخِ مصرَ ابان تلك الحقبة (1805/ 1952) ... مع إهتمامٍ مماثلٍ بما كتبه الأجانبُ عن تلك الفترة ولاسيما الأجانب الذين كان لهم دور في مجرياتِ الأمور مثل كتابات كرومر و أللينبي ومذكرات سير مايلز لامبسون ومعظم البرقيات الهامة التي كانت السفارةُ البريطانية في مصرَ ترسلها إلى الخارجية البريطانية في لندن والتي عكفت على مطالعةِ المئات منها بالمتحفِ البريطاني.

وعندما أسأل نفسي اليوم لماذا كان هذا الاهتمام العارم بكل التفاصيل الدقيقة لكلِ مجرياتِ الأمورِ وأحداث تلك السنوات (من 1805 / 1952) فانني أصل لإجابةٍ واضحةٍ في ذهني : ان اهتمامي الفائق بواقعِ مصرَ خلال تلك السنوات لا ينبع من إرتباطٍ عاطفيًّ بطبقةٍ كانت "الأسعد" ابان سني تلك الحقبة ... وكذلك فانه اهتمام لا ينبع من "الكراهيةِ" للتجربةِ التي تلت تلك الحقبة (أي تجربة ما بعد 23 يوليو 1952) ... وإنما هو اهتمامُُ ينبعُ من نقطةٍ واحدةٍ أساسيةٍ وهي أن هذه السنواتِ قد شهدت "المشروع النهضوى الوحيد" في تاريخ مصرَ والشرق الأوسط . ان مصر التي لم تتخل خلال سنى هذه الحقبة عن خصائصِها الثقافية هي مصر التي حلمت بمشروع نهضوىٍّ لا يقوم على "الرجوع للماضي" ولا على "مخاصمة الحاضر" وانما على اللحاق بركب المدينة انطلاقاً من إيمانٍ عميقٍ بأَن هناك ثقافات عدة في إطار حضارةٍ واحدةٍ هي الحضارة الإنسانية. من أجل ذلك بنت مصرُ دار الأوبرا ... وترجم لطفي السيد أعمالاً لفيلسوف الإغريق العظيم أرسطو... وترجم عبد العزيز فهمي مدونة جوستنيان ... وترجم طه حسين أعمالاً لعلَم التنوير الفرنسي فولتير ... وأُقيمت جسوراً هائلة بين "عقلنا المصري" و "عقل الإنسانية في طوره الأحدث" . ولا يعني ذلك اقتناعي بأن تلك الحقبة كانت "خيراً محضاً " – فلست من المؤمنين بذلك ، بل انني على يقينٍ أن لتلك الحقبة "مثالب عظمى" لعل أهمها عدم توسيع وتكبير الطبقة الوسطى الرائعة التي أوجدتها التجربةُ – ولو أن ذلك حدث لتواصل تطورُنا بشكلٍ مذهلٍ اقتصادياً وسياسياً ولتجنبنا "مغامرات" كانت (ولا تزال) عواقبها وخيمة. ولكن يبقى لتلك الحقبة أنها ضمت بين ثناياها "التجربة النهضوية الوحيدة" لمصر والمنطقة خلال القرنين التاسع عشر و العشرين وأَن ذلك قد أَفرز كادراً بشرياً لا مثيل له اليوم في أي دولة من دول العالم الثالث – ولو ان تلك التجربة قد طوّرت نفسها بشكلٍ ناجحٍ لما كنا اليوم من أعضاءِ ذلك النادي ( العالم الثالث !! ) .