هويتنا .. بين البقاء والزوال .


عندما نخر سوسُ الفشلِ في بنيانِ الهيكل الإشتراكي الذي كان يعرف بالكتلة الشرقية بزعامةِ ما كان يسمى بالإتحاد السوفيتي وهوى الهيكلُ مرةً واحدةً مخلفاً الدنيا من بعد ذلك غير الدنيا قبل " السقوط الكبير " ؛ وجد الناسُ أنفسَهم في عالمٍ جديدٍ . وفي هذا العالم الجديد لم تعد هناك قوتان عظميان ولم يعد هناك منهجان في كل شـئ كما كان الأمرُ من قبل . ومن رحم هذا الواقع الجديد (واقع إنتهاء الحرب الباردة بسببِ موتِ أحد اللاعبين بالسكتةِ المخيةِ المفاجئةِ) بدأنا نسمع عباراتٍ مثل (النظام العالمي الجديد) و (العولمة) إلى جانب مصطلحات أخرى مثل الجات (وإن كان المصطلح في حد ذاته قديماً إلا أن الواقعَ الجديد بعثه بعثاً جديداً) .

وخلاصةُ القول ، أن قادةَ العالم الجديد الذين وجدوا أنفسَهم بلا منافسٍ بدأوا محاولة تنظيم العالم وفق قواعدٍ يرونها سليمةً . ومن هذه القواعد ، فتح الأسواق إلى أبعد الحدود أمام السلع والمنتجات والخدمات من أي مكانٍ لأي مكانٍ دون " الحمائية القديمة " التي عاشت في ظلها الدنيا سنواتٍ طويلة . ومع الرغبةِ في الوصول بالمنافسةِ الإقتصادية إلى أبعدِ الحدود وإزالةِ الحواجز بدأ الحديثُ عن (العولمةِ الثقافيةِ) . فكما أن " التعاملات " ستكون بلا حواجزٍ من الناحية الإقتصادية ، فإن الثقافاتِ ستتعامل مع بعضها البعض أيضاً بشكلٍ مفتوحٍ لم يسبق له مثيل (أو هكذا يظن البعضُ) .

وعلى الفور وجد من يرى في ذلك كل الخطر على وجودِ مجتمعاته الإقتصادية ،وهو خطر حقيقي لا يمكن إنكاره ولكن (للأسف) لا يمكن أيضاً إلغاؤه وإنما يمكن التعامل معه إما بكفاءةٍ وهو ما يؤدي للنجاحِ أو التعامل معه بكسلٍ (مع الإكتفاء بالشكوى والعويل) وهو ما يؤدي لعواقبٍ وخيمةٍ للغاية . وليس الجانب الإقتصادي من هذا الوضع العالمي الجديد هو ما يهمنا في هذا المقال ، فما أكثر ما كتبنا عنه في غير هذا الموضع . وإنما يهمنا البعد أو الجانب الثقافي لهذا الوضع الذي بدأ يسود أو ينتشر في العالم بأسرهِ منذ بداية عقد التسعينات وهو ما واكب سقوط ونهاية الكتلة الشرقية (الإشتراكية) . ففي واقعنا المصري كثيرون يسيطر عليهم خوف مهول من أثر التعاملات الواسعة مع العالم الخارجي على خصوصياتنا الثقافية والتي في مجملها تتكون " هويتنا". وهذا ما أريد أن أسلط الضوء على جوانبه في هذا المقال :

* معالم ومصادر خصوصياتنا الثقافية :
من الأمور التي كان ينبغي أن تكون واضحةً وضوح الشمس في كبد السماء في يوم صافي أننا عربٌ (إلي درجةٍ بعيدةٍ ولكن ليس بشكلٍ مطلق) وأننا من أبناءِ شرق البحر المتوسط (لدرجةٍ بعيدةٍ ولكن ليس بشكلٍ مطلق) وأننا جزءٌ من الحضارةِ الإسلاميةِ (لدرجةٍ بعيدةٍ ولكن ليس بشكلٍ مطلق) وأننا إلي جانبِ ذلك قد دخل في تكويننا بشكل لا ينكر (بعدٌ مصري قديم) و (بعدٌ قبطي) … وأن نتاج كل ذلك أن " البعـد العربي " بعـدٌ أصيـل من أبعاد هويتنا ، فأدبنا كله عربي . ولكن الأمر لا يصل إلي أن نكون (عرب فقط) … ولا أدل على ذلك من البون الشاسع بين (المصري) و (القطري) على سبيل المثال . وبالمثل ، فإننا تأثرنا بشدة بموقعنا الجغرافي في شرق البحر المتوسط ، دون أن يؤدي ذلك لأن نكون صورة كربونية من الآخرين الذين يعيشون أيضاً في شرق البحر المتوسط . أما تأثرنا بالحضارةِ الإسلامية فمن العبثِ إنكاره ، ولكن من العبثِ أيضاً القول بأننا – من حيث الهويةِ – مجردُ "مسلمين" ولا شئ آخر . فإن المكون الإسلامي – على أهميته ووضوحه – مجرد بعد أساسي من أبعادٍ أخرى . فالمصـريُ ليس صــورةً من الإيـراني والبــاكستاني لمجرد الإشتراك في البعد الإسلامي . ولا شك أن المكوناتِ الأساسية للشخصيةِ المصريةِ قد تأثرت بمصرَ القديمة (إذ أنه من غير العلمي والمنطقي إنكار أثر ثلاثين قرناً من التاريخ المصري القديم) كما أن هذه المكونات قد تأثرت بالحقبةِ المسيحية ، إذ أنه من المستحيل إنكار أثر ستة أو سبعة قرون من " مصرَ المسيحية " وهكذا ، فإن هويتنا هي " هويةٌ مصريةٌ " تدخل الأبعادُ العربية والبحر متوسطية والإسلامية والمصرية القديمة والمسيحية في صناعةِ وصياغةِ مادتها الأساسية بما يعني الإتفاق (إلي حدٍ ما) مع المشتركين في تلك الأبعاد دون أن نصل لحد (الذوبان) في تيارٍ واحدٍ من هذه التيارات . وليس في ذلك أيُ عيبٍ أو خطأٍ لأن ذلك هو محصولُ وثمرةُ التاريخ والجغرافيا وهو محصول حتمي وثمرة من غير المنطق إنكارها .

* الخصوصيات الثقافية أقوى من أن تذروها رياح التعامل مع الآخرين:
وإذا كان ذلك كذلك ، فإن " هويتنا " ليست نتاج عوامل مؤقتة أو عابرة أو سطحية ، وإنما هي نتاج جذور طويلة وبعيدة وضاربة في الزمان والمكان . وبالتالي ، فإن من يتصوّر أن تلك الهوية أو بتعبير آخر " الخصوصية " أو " الخصوصيات الثقافية " يمكن أن تزال أو تمحى أو تطمس بفعلِ مستجداتٍ هي من طبائعِ الزمن والتجديد يكون واهماً للغاية . فإن الفهمَ الصائب لبنيةِ وتكوينِ " الهوية المصرية " يجعل المرء يدرك قدرَ " التركيب " وكثافة الطبقات المكونة لهذه الهوية ومدى إتصال كل ذلك بالزمان (المسيرة التاريخية) والمكان (حقائق الجغرافيا) . وهو ما يجعل القول بإمكانية أن تقوم المعاملات الحديثة المفتوحة مع العالم الخارجي بكنسِ معالمِ خصوصياتنا الثقافية المكونة لهويتنا يبدو كمزاحٍ سخيفٍ لا أساس له من العلم والمنطق . وبإختصارٍ ، فإن كل مصري يحمل من " الطبقات " المكونة لهويته آلاف الرقائق التي تنتسب لكلِ الأبعادِ المذكورة : العربية والبحر أوسطية والإسلامية والمصرية القديمة والمسيحية ، وأن إختلافَ درجاتِ وجودِ كل نوع من هذه الرقائق لا ينفي قدر " التركيبية " في الهويةِ المصريةِ .

* الخصوصيات الثقافية ذات طبيعة ديناميكية أي غير إستاتيكية:
ورغم ما ذكرت ، فإن الإعتقادَ بثباتِ أو إستاتيكية الخصوصيات الثقافية هو أمرٌ على أعلى درجاتِ الخطأ والإختلاف مع طبيعة مكوناتِ ورقائقِِ الخصوصية الثقافية . فرغم قولي بأن هذه المكونات والرقائق ذات جذورٍ بعيدةٍ في الزمان (التاريخ) والمكان (الجغرافيا) فإن خصوصيتنا الثقافية كانت ولا تزال في عمليةِ تغييرٍ بطيئةٍ مستمرةٍ يحدثها واقعُ أن الزمان (ومحتواه) يتغيران ، ولكنها عمليةٌ بطيئةٌ وتستغرق أزمنةً طويلةً . ومعنى هذا الكلام أننا وإن كانت لنا (خصوصيات ثقافية) هي أساس هويتنا إلا أن الواقعَ يؤكد أن شكلَ وطبيعة وملامح هذه الخصوصيات اليوم في مستهل القرن الحادي والعشرين تختلف عنها في مستهل القرن التاسع عشر ، وهي وتلك يختلفان عن شكل وطبيعة وملامح خصوصياتنا الثقافية في مستهل القرن السادس عشر … وهكذا دواليك .

ورغم معرفتي أن الجو الثقافي العام في مصر قد أصبح أسيرَ (البعـدِ الواحدِ) في أمـورٍ عدةٍ ، إلا أنني أجاسر وأقول أن خصوصياتنا الثقافية تعرف في آن واحد طبيعتين ... طبيعة الثبات أو ما يشبه الثبات … وطبيعة التغيّر الكمي البطئ الذي يؤدي إلى طريق التراكم لتغيّر كيفي بطئ أيضاً . فهناك ثبات (أو شبه ثبات) مع تغيير (أو شبه تغيير) في آنٍ واحدٍ .

* الخصوصيات الثقافية بعضها إيجابي وبعضها سلبي :
كذلك من غير العلمي أو المنطقي أن نعتقد أن خصوصياتنا الثقافية كلها إيجابية . فهناك العديد من مفردات خصوصياتنا الثقافية " إيجابي " وهناك العديد من مفردات خصوصياتنا الثقافية " سلبي " . وإذا كانت الأمثال الشعبية مرآة (من مرايا عديدة) للخصوصيات الثقافية والهوية ، فإن مراجعة مئات الأمثال الشعبية يؤكد وجود معالم إيجابية وإلى جوارها معالمٌ سلبية وهذا أمر منطقي في ظلِ التجربةِ المصريةِ التاريخيةِ وما إعتراها من مراحلٍ كان من الحتمي أن تنتج السلبي إلى جوار الإيجابي .

* درس التجارب الآسيوية والخصوصيات الثقافية :
تمتلئ عقول وصدور الكثيرين من أبناء هذا الوطن برعبٍ من آثارِ التعاملِ الواسع مع العالم الخارجي والذي يرون أنه أصبح كالطوفان الذي يصعب إيقافه ، فهو من طبائع ومعالم وثمار المرحلة التاريخية الحالية . وجوهرُ هذا الرعب هو الخوف من ضياع الخصوصيات الثقافية لنا وبالتالي ضياع الهوية أمام خصوصيات ثقافية أخرى وافدة من العالم الأكثر تقدماً وقوة وثراء . ورغم يقيني بأن خصوصياتنا الثقافية هي أمور أعمقُ من أن تكنسها التعاملاتُ مع الخارج وأن جذورها عميقةٌ وضاربةٌ في تربةِ الزمانِ والمكانِ وأن " تعقدَ التركيبةِ " التي من مجملها تتكون خصوصياتُنا الثقافية يجعل القول بإمكانيةِ ضياعِ خصوصياتنا الثقافية " مزحة سخيفة " كما قلت آنفاً ، فإنني أود أن أدعو هؤلاء "المرعوبين" لدراسة أحوال اليابان وعددٍ من دول شرق آسيا التي تعاملت على أوسعِ نطاقٍ مع الحضارةِ الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي وأخذت العديد من أنماطِ العملِ الصناعي والخدمي والتجاري من هذه الحضارةِ الغربيةِ ودخلت في تبادلاتٍ هائلةٍ معها ، ومع ذلك فإن الخصوصيات الثقافية الآسيوية بقت محتفظة بذاتها بل وتم توظيف عددٍ كبيرٍ من هذه الخصوصيات الإيجابية لتصبح أداةَ تميّزٍ وتفوقٍ في تلك المعاملات والمبادلات الواسعة بين الآسيويين والأوروبيين والأمريكيين . بل إن تجربتي الواسعة في التعامل مع جنوب شرق آسيا تجعلني أجزم بأن أثرَ هذا التعامل الواسع مع الآخرين لا يعدو أن يكون مجرد واحدٍ على ألفٍ من الخصوصيات الثقافية لتلك البلدان (رقيقة واحدة وافدة إلى جوار ألف رقيقة من الرقائق الأصلية) . وأذكر أنني في رحلة بالقطارِ ذات يومٍ من طوكيو إلى إحدى المدن اليابانية القديمة بدات أشعر بعد دقائق أنني أدخل بلداً مختلفاً ، فالآثارُ المعدودة والمحدودة للتعاملات اليابانية الواسعة مع العالم الغربي أخذت تتلاشى وفي المقابل أخذت تبرز بوضوحٍ معالمُ المكان الأصلية والتي تنطق كلها بثباتِ الخصوصياتِ الثقافيةِ اليابانية أمام المؤثرات الخارجية ، وإن كان ذلك لا ينفي أن هناك في المؤثرات الخارجية ما هو إيجابي وأفضل ومن الحكمة تبنيه .

هل بوسع الموجة الأمريكية محو خصوصياتنا الثقافية ؟
وإذا كان " رعبُ " الخائفين على خصوصياتنا الثقافية من الزوالِ والإنكسارِ أمام الخصوصيات الثقافية الوافدة يتمحوّر خوفه أساساً من " أمركة " هويتنا ، فإن الواجبَ يحتم أن نقف أمام هذه الجزئية ملياً ونتساءل : هل حقاً أن بوسع " الثقافة الأمريكية " أن تستأصل خصوصياتنا الثقافية وتحل محلها ؟ سؤال قد يخيف البعض ، أما أولئك الذين يعرفون أمريكا وتاريخها وخصوصياتها الثقافية فلا يملكون إلا السخرية من هذا الإحتمال الوهمي . فإذا كانت ثقافةُ بريطانيا العتيدة لم تمح خصوصيات الهند الثقافية رغم وجود بريطانيا قابعة على صدر الهند أربعة قرون ، مع ما لبريطانيا من ثراءٍ في الخصوصياتِ الثقافيةِ ، فهل تستطيع أمريكا التي لا تملك جزءاً على ألفِ جزءٍ من المحصول الثقافي البـريطاني أن تمحو خصـوصيات الغير الثقافية وتحل محلها الخصوصيات الثقافية الأمريكية ؟! وهل يمكن أن يكون التخوف من ثقافة الهامبرجر والكوكاكولا والبيتزا تخوفاً جاداً يستند إلى أسبابٍ قويةٍ ؟ أم انه أيضاً مزاحٌ سخيفٌ ؟! إن أمريكا (وإسرائيل أيضاً في هذا الشأن) دول تحتاج إلى قرونٍ قبل أن تكون لها هي نفسها خصوصيات ثقافية قوية يمكن لها أن تؤثر في الخصوصياتِ الثقافيةِ للآخرين .

* هل بوسع الثقافة العبرانية إبتلاع خصوصياتنا الثقافية ؟
وإذا كان من المستحيل في نظرنا ان تبتلع أمريكا الآخرين ثقافياً (لأنها لا تملك مؤهلات هذا الإبتلاع ولأن الأمرَ أكثرُ تركيباً وتعقيداً من هذا التصور الساذج والبسيط والذي يتجاهل حقائق " تركيبية "الخصوصية الثقافية المصرية) فإن نفسَ الأمرِ يُقال عن المرعوبين من إبتلاع الثقافة العبرية (أو العبرانية) لخصوصياتنا الثقافية . فالخصوصياتُ الثقافية المصرية نتيجة تواصل تاريخي وجغرافي لخمسين قرناً من الزمان . أما الخصوصياتُ الثقافية العبرية فهي من جهة محدودة الحجم للغاية (بحكم ضآلة أعداد اليهود في العالم) كما أنها تعرضت لإنقطاعات وتوقفات زمنية لا يمكن إنكار أثرها ، ويكفي ما حدث للغة العبرية من ذبول وضمور ثم بعثٍ جديدٍ لا يمكن ان يكون بوسعه إخفاء أثر مراحل الذبول الطويلة . وإن المرء العارف بحقائق الأمور ليتساءل عن حجم (الأدب) و (الشعر) و (الفن) اليهودي والذي يظن البعض أنه قادر على إبتلاع خصوصياتنا الثقافية . إننا هنا بصــدد " تل صغير " أمام " جبل هائل عملاق " . وأغلب الظن أن أكثر ما يخشاه العبريون على أنفسهم هو أن يؤدي حدوثُ سلامٍ في المنطقةِ لإكتساحِ الثقافاتِ الأخرى المحيطة بهم لخصوصياتهم الثقافية التي لا يقل نصفها عن خصوصيات متعلقة بثقافةِ الجيتو … فإذا زال الجيتو زالت معه نصفُ الخصوصيات الثقافية العبرانية .

* العواقب الوخيمة للتقوقع علي الذات علي الخصوصيات الثقافية :
من سخرياتِ الأمورِ أن يعتقد الذين يظنون أنهم حراسُ هويتنا وخصوصياتنا الثقافية أن الحدَ من الإنفتاحِ على العالمِ الخارجي والحدِ من دخولِ لعبةِ الأممِ الجديدةِ المسماةِ بالعولمة هي أمور من شأنها المحافظة على خصوصياتنا الثقافية (أي هويتنا) وحمايتها من الإندثار وإعادة التشكل وفــق معطياتِ الخصوصياتِ الثقافيةِ للآخرين بوجهٍ عام ولأمريكا بوجهٍ خاص . ولا أعتقد أن هناك خطأ فكري أفدح من ذلك . فالذين سيحاولون أن يفعلوا ذلك هم أول المرشحين لفقدانِ خصوصياتهم الثقافية ، إذ أن العزلةَ الكلية أو الجزئية التي يتوهمون أنها ممكنةٌ ستقود لوهنٍ إقتصادي كاملِ الأبعادِ وهو ما سيقود لمشكلاتٍ ومعضلاتٍ إجتماعيةٍ ستكون هي السبب الأساسي لتعاظم الخصوصيات الثقافية السلبية وإندثار الخصوصيات الثقافية الإيجابية . وبنفس القدر فإنني أؤمن إيماناً قوياً أن التعامل الحر والمفتوح مع الآخرين وعلى أوسع مدى هو القمين بتزويد الخصوصيات الثقافية لنا بعناصر جديدة لتعظيم الإيجابي منها و تنقيح السلبي .

كل هذا ولم نقل شيئاً بعد عن الإستحالة المادية المطلقة لتحقيق العزلة الكلية أو النسبية التي يتصور البعضُ أنها ممكنة . فعالمية العلم وثورة الإتصالات والتقدم المذهل في وسائل الإعلام المخترقة لكل الحدود وجيوش القواعد الجديدة التي ستمنع " الحمائية الإقتصادية " كل ذلك من شأنه أن يجعل (الحلم بالعزلة الكلية أو النسبية) حلماً مستحيلَ التحقيق .

* مصادر هذا " الفزع " من ضياع الخصوصية الثقافية :
" الإنسان عدو ما يجهل " مقولة صحيحة وصائبة إلى أبعد الحدود ، وتنطبق هنا على الذين تمتلئ عقولُهم وقلوبُهم بالفزع الأسطوري من إندثار هويتنا وضياع خصوصياتنا الثقافية إذا ما إنخرطنا في تعاملاتٍ واسعةٍ مع العالم الخارجي (تعاملات إقتصادية وتجارية وثقافية) . فلو كان " المذعورون " من عواقب التعامل الواسع مع العالم الخارجي والذين يعيشون أسرى فكرة ان (الغزو الثقافي) يتربص بنا الدوائر وأن ثقافة الذئب تقف على أبوابنا لتنهش لحم هويتنا وثقافتنا وخصوصياتنا الثقافية ، لو كان هؤلاء الذين يغلب عليهم الذعرُ والفزعُ من مغبةِ ذلك الإنفتاح الثقافي على العالم على درايةٍ واسعةٍ بمفرداتِ كل خلفيةٍ من خلفياتنا الثقافية وعلى علمٍ واسعٍ بثقافاتِ الآخرين لما تكون لديهم شعورٌ بالدونية يجعلهم يتوهمون أنهم عرضةٌ لضياع الهوية ونسف الآخرين لمفرداتِ خصوصياتهم الثقافية . إن الجهلَ يولد الشعور بالدونية (وقد يكون مظهر ذلك شعور زائف بالتميّز يُعبر عنه ليل نهار بمدحِ الذات) والشعور بالدونية يخلق تلك المخاوف الوهمية والهلوسات بأن الذئب (الآخر) يقف على حدودِنا بنيةٍ مبيتةٍ لطمس هويتنا ونسف خصوصياتنا الثقافية وإحلال خصوصيات ثقافية أخرى محلها عن طريق إطعامنا الهامبرجر وجعلنا نشرب الكوكاكولا … ولا أظن بأن هناك شعوراً بالدونية ممزوجاً بالسطحية وتبسيط الأمور مثل ذلك المجسد في هذه الحالة من الهلع والجزع والفزع بلا أساس وبشكل يهين ذاتنا الحضارية والثقافية إذ تكون نتيجة تصوراتهم الوهمية أن هذه الذات الحضارية والثقافية ضحلة ومهترئة وضعيفة لدرجةِ أنها قابلة للسحق والضياع عند أول تعاملاتٍ واسعةٍ مع الآخرين ، وأنه لا سبيل للمحافظة عليها وصيانتها إلا بإقامةِ السدودِ والحدودِ بيننا وبين الثقافاتِ الأخرى لأننا معرضون للضياع عند فتحِ أولِ نافذة !! ولا شك أنها حالةٌ تختلط فيها الهلوسةُ بالجهل بالشعور بالدونية بشكل ينبغي أن نلفظه وبقوةٍ .
(الأخبار 13/3/2000) .