الشرق والغرب : الفهم المفقود.


عقب إحدى المحاضرات التي ألقيتها مؤخراً قال لي محدثي وهو شاب في أواخر العقد الثالث من عمره وكان واضحاً أنه متعلم تعليم عصري جيد وذو محصول ثقافي طيب: إذا كانت مساهمتنا في كل العلوم الطبية المعاصرة وأبحاث الأدوية "صفر" ...وإذا كانت مساهمتنا في كل مجالات العلوم الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية "صفر"...وإذا كانت مساهمتنا في الهندسة وصناعة الآلات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة في كل المجالات "صفر" ... وإذا كانت مساهمتنا في العلوم الزراعية الحديثة" صفر" ... وإذا كان دورنا في دنيا الكمبيوتر منحصراً في أن نشتري ما ينتجه الآخرون...إذا كان الأمر كذلك : فكيف تكون رؤيتنا السياسية بخصوص معظم ما يحدث في العالم من حولنا "رؤية سليمة وموضوعية وعلمية"؟…والحق أقول : أن السؤَال لم يدهمني (رغم قسوته المفرطة)… وكانت إجابتي بإختصار : إذا كنت تريد أن تكون مقولتك هذه مقدمةًَ لأن تقول أننا لسنا على صوابٍ مطلقٍ…فهذا صحيح تماماً … وإذا كنت تريد بها أن الآخرين على صوابٍ مطلق… فهذا إستنتاج خاطئ بدرجةٍ قد تكون غير قليلة. فما قررته أنت (رغم صحته) لا يثبت أننا على خطأ مطلق وأن الأكثرَ تقدماً على صوابٍ مطلق… وإنما معناه الوحيد المحدد هو ما أذهب إليه الآن في جل كتاباتي وهو أن قضيتنا الكبرى والأولى هي (بناء داخل قوي)… وهي مهمة قابلة للتحقيق. فعن طريق ذلك يمكننا تنقية رؤيتنا السياسية للعالم وما يحدث من حولنا. ولن تكون النتيجة أن نتبنى وجهاتِ نظرِ الآخرين كليةً، وإنما ستكون النتيجةُ أننا سنعدّل الكثير من جزئيات رؤيتنا السياسية للدنيا وما يحدث فيها كما سنكون أكثر قدرة على تصويب بعض الأخطاء في رؤية العالم الخارجي لنا، كما سنكون مؤهلين للتعامل مع الدنيا الخارجية من خلال منهج الحوار (الديالوج) لا المصادمة… والمؤكد أن سوء الظن الهائل بيننا وبين العالم يزداد إتساعاً: فها هي اليابان والصين والهند وروسيا تزداد تباعداً في طريقة رؤيتها للعالم ولأحداثه عن طريقتنا…وهو أمر لا يهتم معظمُنا بالتفكير فيه ومحاولة استقراء أسبابه ومعناه ودلالاته…باستثناء تلك النظرة السطحية التي تتهم هؤلاء أيضاً بالتعصب ضدنا، وقد كانوا بالأمس القريب من أكثر المتعاطفين معنا.

ثم أَضفت قائلاً لمحدثي: لا نحن...ولا الغرب "ملائكة" ...ولا نحن ولا هم "شياطين"...وإنما هناك أخطاء فادحة في نظرةِ كلِ جانبٍ للآخر وهناك رقائق (طبقات) لا حد لها من سوء الظن والمسلمات غير الممحصة وخلط الأمورٍ وغير قليل من ميلٍ فطري للتعصب منبعه تواضع المعرفة بالآخر...ثم أضفت قائلاً :آمل أَلاَّ تظن أن التقدمَ المذهل للغرب يجعله بريئاً كليةً من هذا… ورغم أن عندي ألف دليل على عدمِ براءةِ الغرب، فإنني أكتفي بمثالٍ واحدٍ: فالغربُ المشغول كليةً اليوم بحربٍ ضروسٍ ضد ثمرةٍ من ثمارِ الغلو السلفي لتيار من أشد تيارات الفكر الإسلامي تشدداً ...هذا الغرب هو الذي إحتضن هذه الثمرةَ ودربها وسلحّها كذراعٍ له لتحقيق هدفٍ معينٍ منذ أكثر من عشرين سنة – وهذا الغرب هو الذي ظن أن (ماردَ الأصولية الإسلامية) هو الوحيد القادر على كبح جماح (مارد الشيوعية) آنذاك...وقد مات (ماردُ الشيوعية) بفعلِ عواملِ تآكلٍ ذاتيةٍ في بنيته وبقى الماردُ الآخر. ولا شك أن هذا الفكرَ الذي آمن بهذا الإستعمال للمارد الأصولي كان خلطةً من "عدم المعرفة" و "ضعف الحس التاريخي" و "قمة الإنتهازية البرجماتية التي هي من سمات الثقافة الأنجلو سكسونية/ الأمريكية" إلى حدٍ غير بعيدٍ.

إن ما يُكتب في العالم اليوم عن صراعِ الحضاراتِ...بما في ذلك كتابات صمويل هنتنجتون هي "أدبيات سطحية" إلى حدٍ بعيد ولا تصلح إِلاَّ للنشر في الصحف...ولكنها لا ترقى لمستوى كتابات مثل كتابات أرنولد توينبي (عن صعود وإنهيار الحضارات) على سبيل المثال، كما انها كتابات تحركها (روحُ السياسة) أكثر مما تحركها (روحُ العلمِ والفكر): فالثقافاتُ لا تتناحر وإنما تتفاعل… والحضاراتُ لا تتصادم وإنما تتلاقح...وكما قال إدوارد سعيد في برنامج تلفزيوني أمريكي منذ أيام فإن الذين يتكلمون عن الحضارات اليوم معظمهم لا يعرفون قدرَ التداخلِ والتلاقحِ بينها و(إدوارد سعيد على صوابٍ كبيرٍ جداً في هذه المقولة)...أما (التناحر) و (التصادم) فيحدث بين (الكيانات السياسية) ولا توجد طريقة لتجنبه إِلاَّ بالحوار الخصب والثري والممتد لاستئصال شأفة محصولٍ هائلٍ من سوءِ الفهمِ وسوءِ الظنِ (عندنا وعندهم بلا تفرقة).

وعندما سألني محدثي: وما هي نقطة البداية؟ …قلت: أن تبذل جهوداً عديدةً للتحاور والفهم يكون إنطلاقها (من جانبنا ومن جانب العالم الغربي) من نقطةِ إيمانٍ بأن هناك أخطاء هائلة على الجانبين وأن (نفي جانبٍ للآخر) هو (بوابةٌ للحروب) وليس للتعاونِ والعيشِ المشترك في منظومةٍ تتفاعل فيها الثقافاتُ وتتلاقح الحضاراتُ وتنتقل عدوى (قيم التقدم) إلى معظم المجتمعات دون حديثٍ استعماري ممجوجٍ عن "تنميط الدنيا" بوجهٍ عامٍ…و"تنميط الدنيا الثقافية" بوجهٍ خاص – فهذه مهمة غير قابلة للتحقيق وغير مطلوبة وغير مرغوبة وتعمل (إن تصوّرنا حدوثها) على "إفقارِ محصولِ الإنسانيةِ" في مقابلِ "إثراءِ محصولِ الإنسانيةِ" الذي يتحقق من قبولِ ثمارِ التعدديةِ والإنصراف الكلي عن المحاولاتِ الفاشلةِ لتنميط البشر.

ومن جانبنا، فإن الإفراطَ المرضي (المعروف الأسباب) للإعتقاد بأن العالمَ الغربي مشغولٌ بالتآمر علينا ويخشى من نهضتنا(!!) هو مسألة لن يكون من الممكن إحراز أي تقدمٍ ما لم نعمل على تجاوزها .. كذلك فإن كراهة العالم لنا لكوننا مسلمين أو عرب هو "إفتراض وهمي آخر" فكما قال الأمير تركي الفيصل في حديثٍ ممتاز أدلى به منذ أيام لإحدى المحطات الفضائية العربية فإن علينا أن نبحث لماذا يرانا العالمُ المتقدم بهذه الكيفية وسنجد أنه من المستحيل أن يولي العالم لنا أهمية ونحن لا نولي أهمية لأنفسنا أي يستحيل أن يحترم العالم حقوقنا التي لا تحترم من جانبنا نحن داخل مجتمعاتنا…كذلك فإن علينا أن نعترف بأننا كنا كثيراً "محامين فاشلين" لقضايا كان من الممكن ربحها...وأن الكثيرين منا لا يملكون أدوات التفكيرِ والتعبيرِ العصرية وأن لدينا الكثير من المبالغِة في (ظلم العالم لنا) إذ أن ظلمَ بعضنا لنا أفدح بكثير من ظلمِ الغيرِ لنا (وكلاهما غير مبرر). وفي المقابل، فإن على الغرب أن يراجع أسس رؤيته لنا وما يعتريها من رواسبٍ عديدةٍ من القرونِ الوسطى وما يترسخ فيها من التعميم المنافي للعلمِ والتفكيرِ الموضوعي ناهيك عن غير قليلٍ من التعصب الذي يعود بعضه لسنواتٍ قليلةٍ بينما يعود بعضه لقرونٍ طويلةٍ.

وإذا كان الغربُ صادقاً وإذا كنا نحن أيضاً صادقين في الرغبةِ في قطع الطريق على التصادم غير المبرر وسوء الفهم وسوء الظن وإحتفاظ كل جانبٍ بصورة نصفها على الأقل من الوهم والتعصب والخوف وعدم المعرفة فإننا يجب أن نقبل معاً دراسة العقل الأنجلوسكسوني/ الأمريكي بحيدةٍ وموضوعيةٍ كما نقبل في نفسِ الوقتِ دراسة العقل العربي بنفس الحيدةِ والموضوعيةِ.

إذ كاتبَ هذه السطور والذي كان رئيساً لواحدة من المؤسسات الإقتصادية العالمية (وهي مؤسسة أنجلوسكسونية) يعرف أن العقلَ الأنجلوسكسوني له مزايا وعيوب تحتاج لدراسةٍ مفصلةٍ : فكما أن العقل الأنجلوسكسوني من أكثر العقول قدرةً على الإنجاز العملي فإنه في نفس الوقت عقلٌ محكومٌ بالمصلحة والنفعية مع غياب كبير للمبادئ وفكرة العدالة والصواب كما أنه محكوم بتحقيق المصالح الآنية حتى لو كان تحقيقها سيأتي في المدى البعيد بكوارثٍ كبرى...وليس بمستغرب أن العقلَ الأنجلوسكسوني في طوره الأمريكي لم ينجب فلاسفة من ذوي الوزن الكبير إِلاَّ وليام جيمس وجون ديوي وكلاهما يبشر بالبرجماتية ولا أثر لأفكارِ العدالةِ المطلقةِ ( كما هي عند الفيلسوف الألماني كانط) فيما قدمه الفيلسوفان الأمريكيان. ولألخص خبرة عشرين سنة في التعامل مع العقل الأنجلوسكسوني في بوتقةٍ من أرقى دوائره العلمية والإدارية فإنني أكتفي بأن أقول أنني أمضيت عقدين من الزمان عاجزاً عن فهم العقل الغربي عندما يقول Fair enough وترجمتها الحرفية (عادل بشكل كافي) : فعقلي الذي ساهمت فلسفة إيمانويل كانط في تكوينه لا يعرف كيف تفهم هذه العبارة : فإما أن الأمر عادل ...أو غير عادل. أما (عادل بشكل كافي) فإنها خلطةٌ بين المبادئ والنفعية الواقعية تدل دلالة كاملة على العقل الأنجلوسكسوني في طوره الأمريكي. كذلك كنت أقف طويلاً أمام التعبير الأمريكي الشائع NO Free Lunch وأرى جانباً أخراً من العقل الأنجلوسكسوني/ الأمريكي وهو يعبر عن نفسه بشكلٍ مضادٍ لعقول أخرى أكثر سمواً في هذا الجانب بكثيرٍ جداً. وهناك العديد الذي يمكن قوله عن العقل الأنجلوسكسوني/الأمريكي الذي يجلس اليوم على مقعد قيادة العالم ولكن مجاله الندوات الأكاديمية الرصينة. كذلك فإن العقل العربي بدورهِ بحاجةٍ ماسةٍ لمراجعةِ نفسه فهو الآن متهم (وأغلب الظن أنه إتهام صادق) بضيق الصدر بالنقد وعدم القدرة على ممارسة النقد الذاتي وضيق هامشه الموضوعي وسعة هامشه الشخصاني وميله الجارف لتقديس الكلام الكبير بل وأحياناً عديدة إعتقاده بأن الأقوال أفعال ناهيك عن إيمانه المريض (بنسب متفاوتة) بأن الآخرين ذئاب منشغلون ليل نهار بالعدوان عليه (رغم أن العرب الذين قتلوا على يد العرب خلال القرن الماضي أضعاف العرب الذين قتلوا على يد غير العرب) كذلك فإن العقلَ العربي مغرمٌ بمدحِ الذات وغير قادر على إقامة التوازن الهام بين الإهتمام بالماضي والإهتمام بالحاضر والمستقبل. ولكن دراسة كل ذلك تتطلب رغبة حقيقية في تأسيس الحوار على أسس موضوعية وهي مهمة لن يكون للبشرية مستقبل يغمره السلام إِلاَّ بتوفرها.