تعليقٌ على تصريحٍ رديءٍ .


شهدت المنطقةُ العربية مواقفاً عديدة في الآونة الأخيرة تدل على التدهور البالغ في الحياة السياسية بوجهٍ عام وإنقراض الهامش الديموقراطي الهزيل الذي كان البعضُ يظن أنه موجودٌ حتى جاءت أحداثٌ أخيرة ونزعت ورقة التوت كليةً لتُظهر عورةَ النظم الشمولية في العالم العربي والتي أصبحت مضحكةَ العالم ومثارَ سخريته الشديدة . ولعل أسوأ ما حدث في هذا المجال هو التصريح الذي أدلى به وزيرُ خارجية أمريكا السابق هنري كيسنجر عقب وفاة الرئيس الأسد حين قال أن أية جرعاتٍ إصلاحيةٍ كبيرة في المجال السياسي والديموقراطي في هذا الجزء من العالم ستكون ضارةً وخطيرةً وهدّامة . وكان بذلك يكرر المقولة التي أصبحت شائعةً في العالم الغربي بأن شعوبَ هذه المنطقة (أي نحن) هي شعوبٌ إما لا تريد الديموقراطية وإما أنها لا تستحقها أو أخيراً أنها غيرُ مؤهلةٍ لها . وكلها إهانات بالغة لشعوب المنطقة ناهيك عن كونها مقولات خاطئة يريد بها قائلوها تكريس أوضاع معينة تسمح للقوى المؤثرة على القرار السياسي في الولايات المتحدة وأعني بالتحديد المؤسسات الإقتصادية لكي تستمر في تعاملاتها مع من يسهل التعامل معهم بالمقارنة بحكامٍ ديموقراطيين بشكلٍ حق يراعون في المقام الأول والأخير المصالح الكبرى لشعوبهم .

 

إن تصريحَ كيسنجر هذا ليس فقط خاطئاً ومغرضاً ولكنه أيضاً بالغُ الخطورة إذ أنه يعتبر حجر الأساس في تكريس واقعٍ سوف يقود حتماً للفوضى والإنهيار وبروز قوى سياسية قرون أوسطية تدعو أن بيدها الحل وهي لا تملك إلا أن تجيء بالظلام المطبق وتقضي تماماً على الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان وإحتمالات الحداثة والعصرنة واللحاق بركب التمدن الإنساني بشتى جوانبه . إن شعوبَ المنطقة مثلهم مثل البشر في كل أنحاء المعمورة يستحقون الحرية والديموقراطية بكل ما قد يحدث في مراحلهما الأولى من أخطاءٍ ويستحقون أن ينعموا بأفضل ما أبدعته مسيرةُ الحضاراتِ الإنسانيةِ وأعني الديموقراطية والحكومات الخادمة لشعوبها والتي لا هم لها إلا تحسين شروط الحياة دون أن تمن بذلك على شعوبها ودون أن يكون من حقها أن تُقَدس ليل نهار .

 

ومن المؤسف له للغاية أن الغربيين اللذين يكررون أن شعوبَنا إما غير مؤهلة للديموقراطية وإما أنها غير راغبةٍ فيها قد تعلمت ذلك من بعض أبناء المنطقة اللذين يعلمون أن إقناع الغرب بذلك مربحٌ لهم إلى أبعد الحدود .

 

ويجب علينا في مصرَ أن نوقظ إدراك أبناء مصرَ أننا كنا أول شعوب المنطقة سعياً لحياة سياسية ودستورية وعملاً من أجل الديموقراطية والحريات العامة وأن ذلك يُملي علينا ليس فقط أن نحترم الهامش الديموقراطي المتاح اليوم في مصرَ (وهو الأرحب في كل البلاد العربية) وإنما أن نعمل جاهدين على مواصلة توسعة التجربة الديموقراطية وأن تكون غايتنا أن نصل في المستقبل القريب لما حققه اللذين سبقونا على درب الديموقراطية وألاَّ نقارن أنفسنا قط بمن هم أقل منا في هذا الشأن لأننا كنا الشعب الذي هتف أبناؤه منذ مائة سنة (الدستور يا أفندينا) عندما كان الآخرون لا ترد كلمة الديموقراطية أو الدستور ضمن مفردات حياتهم التي كانت لا تزال ترتع في ظروف القرون الوسطى .