من قيـم التقدم : "عمل الفـريق" .


خلال سنوات عديدة من العمل في بيئة دولية بكل ما تعنيه الكلمة من معان حيث يعمل معاً آلاف الأشخاص الذين ينتمون لدول عديدة ولثقافات بالغة التباين تكشف أمام عيني بوضوح ضعفنا الشديد (كمصريين) فيما يتعلق بالعمل الجماعي أو عمل الفريق. فبينما تسهل هذه العملية بشكل هائل عند معظم الأفراد القادمين من آسيا (ولاسيما من خلفية يابانية أو صينية) وبينما يسهل ذلك أيضاً على شعوبٍ أخرى كالأوروبيين وغيرهم، فإن تجربة العمل اليومي لسنواتٍ عديدة في هذه البيئة متعددة الجنسيات كانت تجسد أمام ناظري الصعوبة البالغة لدى معظم المصريين للانخراط في عمل جماعي وكأعضاءٍ في فريق عمل. فمنذ اللحظات الأولى، تظهر على السطح "صدامات الأنا" بشكل بارز للغاية ...كما تظهر على السطح رغبة كل فرد في أن يتأكد من أنه في حالات النجاح سيكون صاحب هذا النجاح أما في حالات الفشل فإن غيره سيتحمل التبعة!.. كذلك كانت الأمور تدل بوضوحٍ أن أحداً لا يقبل أن يكون عمله (أو تكون مساهمته) مجرد أمر مكمل لأداء الآخرين. وفي مئات الحالات، كانت الأمور تصل إلى حالة من التأزم يطلب فيها البعضُ إما خروجهم من الفريق أو خروج شخص أو أشخاص آخرين وإلاَّ !! فإن الفشل النهائي مؤكد (!!). وكان عدم حدوث ذلك من أفراد ينتمون لخلفيات أخري مثل البريطانيين والآسيويين والألمان وغيرهم عاملاً يزيد من ظهور ملامح الصورة : وهي صعوبة انخراط معظم المصريين في عمل جماعي وصعوبة أن يقبل أحدُ أن "الشكر" على الإنجاز (في حالة النجاح) سيكون من نصيب (فريق عمل) وليس (شخصاً محدداً)! (هو المتحدث في كل حالة).

 

ولما كانت علوم الإدارة الحديثة تقوم على مجموعة أساسية من الركائز من أهمها (العمل الجماعي) أو (عمل الفريق) ... فإن تطبيق تقنيات علوم الإدارة الحديثة على أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين يبقى أمراً صعباً بإستثناء حالات وجودهم بالخارج إذ لا يكون أمامهم إلا (الاستسلام المطلق) لمفردات نظم العمل في تلك البيئات الخارجية وإلاَّ لفقدوا عملهم على الفور. وفي هذه الحالات، فإن بعضهم ينجح ويتألق وتعاوده "جرثومة الفردية" التي عرفها لمدد طويلة... فينسب نجاحه لنفسه فقط ، متناسياً أنه لم ينجح بتلك الكيفية إلا في تلك "البيئات الصحية" التي فرضت عليه قيم العمل الحديث وتمكنت من استخراج أفضل ما فيه من مكنٍ وقدرات. ولا تزال كلمة أستاذ يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ترن في أذني عندما قال لي (في أواخر 1999): (أن أحمد زويل بكل المعايير عقل علمي فذ ، ولكن على كل إنسان أن يتذكّر أن هناك 17 إنسان في نفس المعهد الذي فيه أحمد زويل قد حصلوا على جائزة نوبل في مجالات علمية – وهو ما يعني أن "معجزة النظام" لا تماثل فقط بل وتتفوق على "معجزة الفرد" – وان كانتا مطلوبتين في نفس الوقت وإلاَّ ما تحققت النتيجة). كذلك فإن أحمد زويل نفسه لم يكف عن الحديث عن "فريق العمل" الذي بدونه ما كان له أن يبلغ ما بلغ، كما أنه كان يضيف دائماً (وهو رأي بالغ القيمة) أن "بيئة العمل والبحث العلمي في معهده" هي صاحبة فضل لا ينكر وراء حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999. ولكننا أبناء (ثقافة الأشخاص) لذلك فإننا ننسى كل جوانب القصة ونركز على "الفرد" لإننا منذ أكثر من خمسين قرناً نفهم (ونقدس) الفراعين في كل مجال ولا نولي أي اهتمام بالنظم التي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم والإنجازات العظمى ولا توجد آليات لعلاج هذا العيب الكبير في مكوناتنا إلا ما ذكرته في أكثر من فصل من فصول كتبي: "القدوة" (كأداة تطوير على المدى القصير) و "التعليم العصري" (كأداة تطوير على المدى المتوسط والطويل).

 

أما "القدوة" فهي ليست مجرد كلمة عامة مُبهمة ومجردة وإنما هي ترجمة كلية لمديرٍ عصريٍّ تكّون وفق معطيات وثقافة علوم الإدارة الحديثة والتي تجعل كل رئيسِ عملٍ في موقعه مسئولاً عن إدارة العمل بشكلٍ "يجمّع" العاملين في مجموعات أو فرق عمل تربط بينها روابط التآلف والتكامل في مقابل رؤساء عملٍ آخرين يعملون على تعظيمِ الفردية والتشرذم وخلق ولاءات فردية مباشرة بين كل إنسان في التنظيم ورئيس العمل . إن المدير العصري الذي تكّون وتدّرب وفق روح وثقافة ومعطيات وتقنيات علوم الإدارة الحديثة تكون من أهم مهامه خلق هذه الروح أي روح الفريق بينما ينخرط معظم رؤساء العمل لدينا في خلق روحٍ مغايرة يكون العاملون فيها جزراً مستقلة ومنعزلة عن بعضهم ويكون إتصالهم الوحيد برئيس العمل فيما يمثل له بصفةٍ شخصيةٍ مصدرَ قوة وعزوة ويُعظم من مكانته الخاصة على حسابِ إهدارٍ كلي لروح العمل الجماعي وثقافة الفريق .

 

وتستمد هذه الثقافة السلبية منابعها من فقر وضعف التعليم الإداري الحديث وكون معظم القيادات (مجرد رؤساء في العمل) وليسوا (مديرين تنفيذيين عصريين) ، كما تستمد وقودها من ثقافةِ القريةِ المصرية حيث كان "العمدةُ" لعقودٍ طويلةٍ يعمل بنفس الطريقة وهي إيجاد قنوات إتصال بين الآخرين وبينه فقط مع إعتبار أي نمط آخر بمثابة مخالفة للولاء اللازم وإضعاف لهيمنته الوحيدة . إن علوم الإدارة الحديثة قد وصلت بنا إلى (مدير تنفيذي عصري) يصعب على كثير من الناس في واقعنا أن يتفهموا ما الذي يقومُ به إذ أنه في الحقيقة لا يبدو على السطح وكأنه يقوم بالكثير من الأعمال وإن كان بمثابة المايسترو لفريقٍ تتوافر فيه صفتان هامتان : الكفاءة العالية لكل فرد على حدة .. والعمل المشترك كفريقٍ واحد .

 

ومن خلال تجربتي الخاصة فقد كنت لقرابة عشر سنوات مسئولاً عن أعمال ومشروعات بمليارات الدولارات وكان وقتي أبعد ما يكون عن الإزدحام بالمواعيد والإجتماعات وكان مكتبي خالياً من الأوراق رغم مسئوليتي عن حجم أعمالٍ يومي بأكثر من مائة مليون دولار بينما كنت أرقبُ مسئولين في مواقعٍ أخرى يديرون أعمالاً ومشروعات بحجمٍ لا يبلغ واحد في المائة من هذا الكم من العمل وكنت أجدهم غارقين في الإجتماعات والأوراق والملفات وكنت ولا أزال أقول أنهم منشغلون بالقيام بأعمال غيرهم .. وأنهم مع نسفهم لثقافة العمل الجماعي والفريق من جهة وعدم إيمانهم بالتفويض من جهة ثانية فقد أصبح من المُحتم أن يجلسوا ثلاثة أرباع النهار كل يوم وسط جبالٍ من الملفات والأوراق .. ومع ذلك فإن نتائجهم النهائية إما متواضعة أو مخجلة .

 

 

إن زرع وبث ونشر روح وثقافة العمل الجماعي وأسلوب عمل الفريق يبدأ من تكوين كادرٍ بشري من المديرين التنفيذيين العصريين الذين يفهمون فكرة (الرئيس في العمل) حسب مفهومها العصري الحديث وليس حسب مفهومها الفرعوني أو القرون أوسطي حيث يكون الرئيس في العمل هو (كل شئ) ويكون مساعدوه ومساعدو مساعديه (محض لا شئ) . وبدون هذه الثورة الإدارية في هذا المجال فإن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط (آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروس صغيرة معاونة .

 

وكما أن القدوة عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّز من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي وتقيم المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العمل الحديثة القائمة على عمل الفريق وتعظيم الفوائد من تفاعل العقول والخبرات والقدرات .

 

منذ قرابة 25 سنة ذهبتُ لأولِ مرة لدراسة أحدث تقنيات علوم الإدارة الحديثة بأكبر جامعة متخصصة في هذا المجال في العالم ومن اليوم الأول أنتابتني فكرةُ أن هذا المكان لا يمكن أن يكون ممتازاً كما يُشاع عنه لأنه كان على نقيض طرق وأساليب التعليم التي عشت معها في مرحلتي الشهادة الجامعية الأولى والماجستير في واحدةٍ من الجامعات المصرية : فقد كنتُ أنا الآتي من بيئة الدراسة الأكاديمية المصرية أتوقع أن يكون الأستاذ (جهة إرسال) .. وأن يكون الدارسون (جهة إستقبال) لاسيما وأن مصاريف هذا البرنامج الدراسي كانت بمئات الآلاف من الدولارات . إلاِّ أنني وجدت النقيض من اللحظة الأولى: فلم يكون الأساتذة (مرسلين) .. ولم يكون الدارسون (مستقبلين) .. وإنما كانت كل جلسات الدراسة تبدأ بتسليط الضوء على مجموعة من المفاهيم والمواضيع والإشكاليات ثم يتم تقسيم الدارسين إلى مجموعات عملٍ تذهب كل مجموعة منها إلى غرفة مستقلة ويكون أمامها قدر من الوقت لدراسة الإشكاليات المطروحة وإستعمال المكتبة وتكوين ورقة تمثل مجموعة الدارسين معاً يشتركون على قدم المساواة في إعدادها ثم يختارون أحدهم لتقديمها وعرضها نيابةً عنهم .

 

وكان إنطباعي الأول مزيجاً من الدهشة : فكيف تُنفق مئات الألوف من الدولارات على تعليم بسيط وهزلي مثل هذا ‍‍‍‍‍‍ !! .. إلاِّ أن الأسابيع والشهور التالية جعلتني أرى أن هذا الأسلوب في التعليم هو الذي يُفرز النماذج البشرية التي تقود العالم في كل المجالات لأنه الأسلوب الذي يُفرز (المبدعين) و(المؤمنين) و(المتعاونين) على نقيض الأسلوب الذي يُفرز ا|لإنسان الذي يُجيد التلقي والتبعية ويكبت في نفسه قدرات الخلق والإبداع كما يحفز في شخصه عوامل الفردية الهدامة لكي يكون الفائز بتقديرات النجاح بينما يترك عار التأخر لزملائه . هذه البيئة العلمية هي التي تُفرز أفضل عناصر البيئة العملية .. فما العمل إلاِّ إستمرار لمراحل التعليم الأولى : إذ أن وحدات العمل هي الجهة التي تتلقى المنتج النهائي للمؤسسة التعليمية (الإنسان) بعد أن تمت صياغته وتشكيله إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي .

 

وهكذا يتضح أن العمل الجماعي أو عمل الفريق هو ظاهرةٌ ترتبط بنسيج ثقافةِ المجتمع من جهةٍ (فقد لاحظ علماءُ الإدارةِ الحديثة بوجهٍ عامٍ وعلماء إدارة الجودة بوجهٍ خاصٍ أن الشعوب الصينية واليابانية لديها إستعداد كبير جداً للعمل الجماعي - ولكنها صفة مُكتسبة (من تراكمات بناء الثقافة العامة لمجتمعاتهم) وليست صفة طبيعية . كذلك يمكن النظر للعمل الجماعي أو عمل الفريق من وجهة نظر أساليب الإدارة المُتبعة في المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإقتصادية أيٍّ كانت طبيعتها . وثالثاً فإن هناك زاوية أخرى لتناول موضوع العمل الجماعي أو عمل الفريق وهو فلسفة التعليم وتقنياتها . ومن ناحية رابعة فإن "القدوة" التي تمثلها القيادات التنفيذية في المجتمع هي عامل حاسم من عوامل بقاء الأمور على ما هي عليه أو تطورها تجاه ثقافة العمل الجماعي .. وخامساً وأخيراً فإن هناك صلة بين موضوع العمل الجماعي ودرجة نمو الديمقراطية في المجتمع ، فكلما زاد الهامش الديمقراطي كان بوسع الذين يريدون تأصيل العمل الجماعي كمعّلم من معالم المجتمع أن يحققوا ذلك لأن المجتمعات غير الديمقراطية تكون مجالات العمل فيها مغلقة من أعلى بمعنى أن الحركة في كل التنظيمات من أسفل إلى أعلى إما أن تكون بطيئة أو شبه معدومة وهو ما يفرضُ مُناخاً معارضاً للمناخ الأمثل للعمل الجماعي – وهكذا نكون أمام حالة جديدة من المشكلات التي ليس لها سبب واحد وليس لها علاج واحد وكأننا بذلك نردد مع الفيلسوف الأمريكي/ الألماني هيربرت ماركوز ما كتبه وأعلنه مراراً منذ ثلاثين سنة عندما