فن العمل الذي فقدناه.


كانت السيارة المعدة للسير في الرمال الناعمة تنهب الأرض في موقع بعيد في وسط صحراء مصر الغربية – جنوب منخفض القطارة وشمال بحر الرمال الأعظم – عندما إستأنف محدثي – وهو أحد أكبر ثلاث شخصيات في صناعة البترول في العالم بأسره – حديثه قائلاً: إن أكبر خطأ يقع فيه المسئولون اليوم في مصر بل والمصريون جميعاً أن يظنوا أن مصر تعاني اليوم من مشكلة إقتصادية ترجع لنقص الإمكانيات أو فقر الثروات ؛ فإن مصر غنية بالإمكانيات والثروات الطبيعية ؛ ولكن الذي تفتقده مصر اليوم هو "العمل" .. صمت محدثي برهة ثم إستأنف الحديث إستئنافاً مشوباً ببعض التردد وهو يقول: إنك تعرف حبي لمصر .. وحرصي على إنتعاش الحياة بها وإزدهار إقتصادها .. ولكني أأسف كل الأسف لأنني مضطر أن أقول لك أنكم في مصر قد فقدتم – بسبب الأوضاع السياسية خلال السنوات الثلاثين الماضية – "فن العمل" الذي بدونه لا يمكن حدوث أي إزدهار أو تقدم أو حتى خروج من الوضع الخانق الذي تمرون به اليوم ، إنني قبل زيارتي الحالية لمصر كنت منغمساً في مطالعة ودراسة مجموعة من التقارير التي وضعتها صفوة العقول الإقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ، وقد كانت دهشتي بالغة أن أجد كل التقارير تنتهي لحقيقة مؤسفة وهي أن دخل مصر اليوم مستمد من خمسة أو ستة مصادر لا علاقة لها بـ"فن العمل" الذي كنت أحدثك عنه منذ قليل. فأنتم تعتمدون على (1) تحويلات المصريين العاملين بالخارج وعلى (2) دخل مصر من البترول ثم (3) إيرادات قناة السويس ثم (4) السياحة ثم (5) القطن ، وبإستثناء المصدر الأخير "القطن" فإن عنصر القيمة المضافة The Added Value يكاد يكون منتفياً بالنسبة للمصادر الأخرى على أساس أن عمل المصريين بالخارج لا يمكن إحتسابه كعمل بالداخل ، لأنه جزء من العملية الإنتاجية في بلد أو بلدان أخرى ، أما البترول وقناة السويس والسياحة فإن عملكم يمثل مصدراً هامشياً للدخل المتوفر عن طريق هذه المصادر.

 

وفي إعتقاد كاتب هذه السطور أن النظم السياسية والإقتصادية الإشتراكية التي طبقت في العديد من بلدان العالم الثالث مثل مصر والجزائر وليبيا وكوبا وتنزانيا والعديد من بلدان جنوب شرق آسيا وبلدان أفريقيا ، هي المسئول الأول والأخير عن فقدان شعوب تلك البلدان لفن العمل وروح الإنتاج التي بدونها يصبح الحديث عن الإصلاح الإقتصادي ضرباً من الهزل والجهل معاً.

 

فتلاشي روح المبادرة الفردية والإبتكار بدافع الربح الشخصي والمنفعة الشخصية وإنتفاء التمايز بين أفراد المجتمع نتيجة الفهم الإشتراكي السقيم لفكرة المساواة ، ناهيك عن إنتفاء "الخطر" اللازم لوجود النشاط البشري وذلك من جراء تطبيق قوانين وتشريعات عمالية تؤدي لإستئصال أسباب التفوق والمنافسة وتغل أيدي أصحاب الأعمال الخاصة أو المشروعات أو مديري المشروعات العامة عن عقاب المخطئ وإثابة المتميز ؛ كل لك خلق في بلدان العالم الثالث – والتي نكبت بتطبيقات إشتراكية سياسية وإقتصادية – قطاعاً كبيراً من المواطنين غير المؤهلين وغير القادرين وغير الراغبين في العمل ؛ ثم جيلاً بعد جيل تفقد الأمة بأسرها "فن العمل" الذي هو سر التقدم والإزدهار بل والإستقرار والإستمرار.

 

ومن أدهى النكبات التي تجرها التطبيقات السياسية والإقتصادية الإشتراكية على الشعوب ؛ لاسيما الشعوب ذات المحصول التعليمي والثقافي الهزيل كجل شعوب العالم الثالث ؛ إستشراء روح وطابع "الموظف العام" وإختفاء روح وطابع "رجل الأعمال" ليس فقط بين العمال والموظفين ولكن أيضاً وسط الكادر الأعلى من شاغلي الوظائف العليا والقيادية بما في ذلك رؤساء الشركات والهيئات والمؤسسات العامة والمرافق الكبرى .. بل وسائر الشخصيات العامة بما في ذلك الوزراء ورؤساء الوزراء. وكاتب هذه السطور يملك أمام ضميره الأدبي أن يجزم أنه من بين أكثر من ثلاثين وزيراً في مجلس الوزراء الحالي فإن وزيراً واحداً أو وزيرين لا أكثر هما اللذان يتحليان بعقلية رجل الأعمال الدولي ، والذي يقيم إعتباراته على أساس تجاري (والتجارة والسياسة أمر واحد لقيامهما معاً على المصالح) لا على أساس عقلية الموظف العام والتي تحكم فكر أكثر من ثلاثين وزيراً من وزراء مصر المعاصرين!

 

وإذا إحتاج القارئ الجاد لدليل آخر على أننا – بفعل النظام السياسي الذي ساد مصر خلال العقود الثلاثة الماضية – فقدنا "فن العمل" اللازم لإزدهار الحياة وقبل ذلك لخروجنا من الضائقة الخانقة التي تمر مصر ويمر المصريون اليوم به ؛ فإننا نطلب من القارئ المنصف أن يتأمل معنا مثالاً كبيراً من أمثلة الفشل والإخفاق في حياتنا والناجمين – في المقام الأكبر – عن إفتقادنا لفن العمل المنتج والخلاق ، وهو مثال القطاع العام المصري فقد إستثمرت الدولة في هذا القطاع ما يقرب من ألف مليار جنية بينما يحقق القطاع العام المصري إيراداً سنوياً في حدود ألف وخمسمائة مليون جنية بمعنى أن العائد للقطاع العام المصري هو واحد ونصف في المائة!!

 

فهل نحتاج لأدلة أخرى على صواب رؤيتنا ورجاحة تحليلنا لخلفية الوضع الراهن اليوم في مصر بعد هذا المثال الدال دلالة قاطعة على أنه بسبب إنتفاء عنصر العمل الفعال والمنتج والخلاق ، فإن القطاع العام المصري لا يحرك ساكناً تجاه طلب النجدة من مصر وأبنائها رغم أنه كان بوسعه – وفق المجرى الطبيعي للأمور – أن يمد مصر سنوياً بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف حجم المساعدات الأمريكية الإجمالية لمصر ؛ وهي المساعدات التي علينا أن نبذل قصارى الجهد للإستغناء عنها كمقدمة لازمة للنهوض بأنفسنا مما نحن فيه ؛ وإن كنا أبعد ما نكون عن تحميل النظام الحالي في مصر مسؤولية موضوع المساعدات الأمريكية لمصر ؛ فهو وضع حتمي لممارسات سياسية وإقتصادية خاطئة لا تمت للمنطق والعقل الراجح والوعي السياسي بصلة لا يسأل عنها العهد الحالي وإن كان من المنوط به – حتماً – إيجاد العلاج الحاسم لهذا الوضع.

 

وإذا أمعنا النظر قليلاً حولنا لوجدنا أن "العمل" الفعال والمنتج والخلاق يكاد يكون منتفياً في سائر المجالات وكافة المستويات: فالشعارات السياسية التي سئم الناس تكرارها: مثل إقتحام مشاكل الجماهير .. توفير السلع للمواطنين .. ورفع مستوى الإنتاج .. إستصلاح "كذا" ألف ألف فدان .. ربط الأجور بالإنتاج .. إلى آخر الشعارات التي إعتاد الناس على مطالعتها كعناوين رئيسية لإفتتاحيات الصحف اليومية ؛ هذه الشعارات لماذا تظل محض كلمات؟ .. لأننا فقدنا فن العمل القادر على تحويل الشعارات إنجازات .. ولأننا سلطنا على أنفسنا – بفعل نظامنا السياسي – الجدل وحلنا بين أنفسنا وبين العمل.

 

ولو تأمل المصري اليوم – أيا كان موقعه – كل ما حوله من بضائع والآت ومنتجات لوجدها – رغم شعار "صنع في مصر" المرفوع منذ سنوات – من صنع الخارج ، يستوي في ذلك أكثر من نصف طعامنا ولباسنا وآلاتنا والمواد التي تبنى بها بيوتنا .. فماذا يعني ذلك إلاِّ أننا نعيش في عالم من الشعارات والأقوال .. عالم لا يعوزه شئ غير العمل. وإلاِّ ، فكيف لا تستطيع الحكومة – أياً كانت – أن تظل سنوات عاجزة عن حل مشاكل بسيطة كإكتفائنا من الأسمنت اللازم لعمليات البناء (تنفق مصر على شراء الأسمنت يومياً ما يعادل الدخل اليومي الصافي لقناة السويس!). وكيف تعجز الحكومة تلو الحكومة عن حل المشكلة الزراعية في مصر ؛ وحلها لا يحتاج إلاِّ لعمل متقن واحد هو إلغاء التشريعات التي أدت بالزراعة في مصر لوضعها المأساوي الراهن. وكيف يتفق الكافة على ضرورة ترك العلاقة بين مالكي ومستأجري الوحدات السكنية لقواعد العرض والطلب ثم تبقى قوانين الإسكان على حالها منذ وضعت فخلقت مأساة المساكن الراهنة ؛ وهي مأساة ندرة أمام طوفان من الطلب في مناخ من عدم القدرة!.

 

وكيف نتحدث عن "العمل" و"الإنتاج" ونترك جل رؤساء الشركات العامة يقدمون لأمتهم وبني جلدتهم كل عام دليلاً جديداً على فشل إدارتهم وعظم بلائنا بهم وبالخسائر التي يشرفون بإقتدار على بلوغها؟ وإذا كنا حريصين حقاً على "العمل" .. فأين هو الوزير أو الكبير الذي حوسب على أخطائه ناهيك عن وعوده وتعهداته الزائفة؟

 

وما الفرق بيننا وبين دول مناهضة مثل تركيا واليونان .. إلاِّ عنصر "العمل" الفعال والمنتج والخلاق.

 

ولعل كل حديث عن "العمل" ولزوميته وضرورته وإستحالة إنجاز أي تقدم أو إزدهار بدونه يظل حديثاً ناقصاً ما لم نذكر أهم الأعمال الواجبة قاطبة وهو الواجب الملقى على عاتق جهاز الحكم بوجه عام ورئيس الجمهورية بوجه خاص إذ تتركز معظم السلطة التنفيذية في يده للقيام بأجل الأعمال التي تشرئب إليها أعناق المخلصين من أبناء هذا البلد ، وهو "تحطيم إطار الفشل" الموروث عن ثلاثين سنة من الإخفاق وهو الإطار الذي في ظله فقد المصريون فن العمل ؛ بدلاً من السياسات الإقتصادية الحالية القائمة على الإقتصاد من هذا البند وضغط بعض نواحي الإنفاق في ذاك والتشدد في جني الضرائب والرسوم الجمركية ، وكل ذلك يندرج عندنا تحت باب "اللا-عمل" ؛ فكلها إجراءات تشبه قيام رجل فقير معدم لا يملك إلاِّ عشرين جنيهاً بإعادة توزيعها على جيوب ثوبه ؛ وهو في النهاية لا يزداد إلاِّ فقراً لأنه لا يعمل على "خلق" المال والثروة والقيمة عن الطريق الوحيد لذلك وهو "العمل" الخلاق والفعال والمنتج.