هوامش على دفتر الواقع .


* جدلية الدمار:

قد تكون هناك ظواهر سياسية أو إجتماعية أو ثقافية عديدة تُعرقل الثقافة العربية (وبالتالي معظم أبناء وبنات المُجتمعات الناطقة باللغة العربية) على اللِحاق بمسيرة التقدم الإنساني والمساهمة الفعالة في إبداعاتِها . إلا أن كلمتي السر الأساسيتين تبقيا - فى إعتقادي - هما "الدين" و "التعليم" . بمعنى الفهم السلبي والرجعي والمُعرقل للدين ونظم التعليم غير القادرة على مُسايرة ومواجهة تحديات العصر . فهذان العاملان هما أكبر أسباب إنسلاخ الثقافة العربية المعاصرة عن مسيرة التمدن الإنساني . وأهم ما أود توضيحه في هذا المقال الموجز هي تلك العلاقة الجدلية بين هذين العاملين الهدامين : فبينما تفرز ثقافة الفهم (الرجعي والمُكبِل للعقل) للدين مناخاً عاماً يؤدي لتدهور المستويات التعليمية , فإن النظام التعليمي المُتأخر مُنبت الصلة بالعصر والمعطل للطاقة الخلاقة للعقل الإنساني يساهم بدوره في تبني قطاعاتٍ أوسع من المُجتمع للفهم الظلامي والرجعي والقرون أوسطي للدين .

 

إن تجليات المنهج الجدلي تبدو هنا في أوضح صورها , وبالذات قانون الإرتباط الهيجلي المعروف الذي تبناه حتى أشد خصوم هيجل وأعني كارل ماركس .

 

وقد يتسائل القارئ  : "وأين دور الإستبداد السياسي والطغيان والفساد وأشكال الأوليجارشيات المختلفة في هذه الطبخة الرديئة التي تُنتج في النهاية مناخاً ثقافياً عاماً ممتلئاً بالسلبيات وعامراً بنقيض التقدم وعكس ما يطلق العقل الإنساني نحو إبداعاتٍ جديدة ؟" "والجواب عندي : هو أن كل تلك الظواهر السلبية هي من أعراض المرض وليست هي المرض في حد ذاتهِ . ومع ذلك فأنا لا أُنكر وجود علاقة جدلية بالغة الوضوح بين المرض والأعراض . فنُظُم الحُكم المُستَبِدة وغير الرشيدة ذات مصلحة مؤكدة في إنزواء العقل النقدي عند أبناء وبنات مُجتمع ات هم كما أنهم أصحاب مصلحة لا تُنكَر في شيوع ثقافة الإتباع والتقليد والطاعة (التي يشيعها التفسير الرجعي للدين) ناهيك عن رفضهم المؤكد لثقافة الشفافية والمُسائلة " .

 

وإذا كان السؤال الباقي و الهام : (من أين إذاً تكون البداية ؟) . فإن الإجابة عندي (وهى تحتاج لكتابٍ بأكمله هى في عبارةٍ واحدة "القيادة الفعالة ذات المستوي الإداري الرفيع ؛ أو ما يسمي بالإنجليزية فى علوم الإدارة :  "Quality leadership" .

 

لقد شهدت البشرية مسارين من مسارات التقدم : المسار الأوروبي والذي يُمكن أن نُسميه "الطهي على نار ٍ هادئة" والذي إستغرق قروناً . والمسار الثاني هو المسار الذي جسدته عدة تجارب آسيوية والذي يُمكن أن يُسمى أيضاً بمسار "الطهي السريع على نار ٍ قوية" . وفي المسار الأول لعبت عملية نُضج وتطور الديموقراطية دوراً كبيراً في الإسراع بعملية التنمية والتطوير والرُقي . أما وفق النموذج الآسيوي ؛ فقد بدأ الإصلاح وبدأت التنمية الحقيقية والشاملة بفعاليات القيادة الخلاقة ذات الكفاءة والقدرات الخلاقة ؛ والتى أشرت لها من قبل بتعبير ال   "Quality leadership"  ثم جاءت الديموقراطية مواكبة للتنمية .

 

ومن المهم هنا أن أوضح أنني لا أقصد بالديموقراطية "صندوق الإنتخابات" . فقصر الديموقراطية على العملية الإنتخابية يؤدي في المُجتمعات المُتأخرة ذات النصيب المُتدني من المعرفة والتعليم والثقافة و الأُمية المُتفشية إلى خياراتٍ مُدَمِرة (مثل فوز حم ـ اس في الإنتخابات الفلسطينية منذُ سنواتٍ قليلة) . وإنما أعني الديموقراطية بالمعنى المُتكامل : ثقافة الديموقراطية ... الأحزاب ... مناخ الحوار العصري ... المؤسسات الديموقراطية ... قوى وفعاليات المُجتمع المدني ... قواعد دستورية وقانونية عصرية ... نظام قضائي عصري ومُستَقِل بمعنى الكلمة ... تدني نسبة الأُمية ... ثم أخيراً : الإنتخابات .

 

وهكذا ، تبقى مأساة إنسلاخ المُجتمعات العربية المُعاصرة عن مسيرة الإنسانية وركب التقدُم والتمدُن هى ثمرة لعاملين رئيسيين هما الدين (بفهمه الشائع اليوم في المُجتمعات العربية) والتعليم (بنسقه بالغ التخلف الذائع اليوم في المُجتمعات العربية والنافي بل والمستأصل لأية إمكانية لإنطلاق وتألق وإبداع العقل الإنساني) .

* من ثمار جدلية الدمار :

عندما ننظر للتاريخ الإنساني فإننا نجد أن هناك ثلاث قوى عالمية يُمكن إعتبارها القوى الأعظم في زمانها : الإمبراطورية الرومانية في وقتها والإمبراطورية البريطانية حتى إنحسارِ نفوذها الذي كان يوصف بأن الشمس لا تغرب عن أراضيه وحالياً الولايات المتحدة الأمريكية.

ويقتضي التفكير الإستراتيچي عدم إستعمال كلمة "الحب" أو "الكره" عند النظر لهذه الظواهر (القوى العظمى) التي هي ترجمة لعواملٍ شتى من الواقع de Facto منها ماهو جغرافي ومنها ما هو إقتصادي ومنها ما هو عسكري ... إلى آخره . فكما أن أحداً لم يحب الإمبراطورية الرومانية وكذا الإمبراطورية البريطانية , فلا مجال إذاً لحب أو كره الولايات المتحدة الأمريكية . فالأخيرة قد تبوأت مكانتها كنتيجةٍ لعواملٍ واقعية تشبه الظواهر الطبيعية كالعواصفِ والبراكين والسيول . ولكن المطروح هو "كيفية التعامل مع تلك الحتميات التاريخية" . ونظرة متأنية على ردود فعل المُجتمعات المختلفة على وجه الأرض اليوم تدلنا على ما يلي : لا أوروبا الغربية ولا اليابان ولا الصين ولا الهند هم في حالة عشق للولايات المتحدة , بل هم على النقيض في حالات صراع مختلفة معها , شأنهم شأن المُجتمعات الناطقة باللغة العربية . ولكن هل يلعب العربُ "كنظمِ حكمٍ وشعوبٍ" اللعبةَ كما يلعبها اليابانيون والصينيون والهنود ! . الجواب طبعاً بالنفي . فبينما تنخرط اليابان والصين والهند (وكثيرون غيرها) في الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية وفق قواعد اللعبة التي أنتجتها الحتمية التاريخية , فإن الشعوب العربية تَخرج من الملعب وتصرف الكثير من الجهد والوقت في صب اللعنات والإستنكار والشكوى وكيل التهم .

 

إن الصين أشد خطراً على مصالح القوة العالمية العظمى أي الولايات المتحدة الأمريكية من كل الشعوب العربية آلاف المرات . ولكن الصين (حكومةً وشعباً) لا تُنفق دقيقة من وقتها في صب اللعنات على الولايات المتحدة وإنما تدخل معها (بقدراتٍ فذة) في لعبة الصراع وفق القواعد التي أسلفت بأنها من نتاج الحتمية التاريخية . ولا شك أننا نُبالغ مُبالغة تُثير ضحك العالم في أهميتنا وقدراتنا والمخاوف التي لدى الأخرين تجاهنا إذا ما إنطلقنا على طريق التقدم . فمُجمل الناتج القومي للبلدان المُتحدثة بالعربية أقل من مُجمل الناتج القومي لدولة أوروبية واحدة هي أسبانيا . كما أننا لا نقارن في تهديداتنا الحقيقية للمصالح الإقتصادية الأمريكية بالصين التي أصابت ولا تزال تُصيب قطاعات إقتصادية عديدية في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بالرعب بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ .

الصين واليابان والهند إذاً غير مُنشغلين بما هو شائع وذائع في المناخ العربي العام من صراخٍ وعويل وشكوى وكيلٍ للتهم للولايات المتحدة الأمريكية , إنما هم يمارسون الصراع من خلال أشياء مثل أن تُصبح شركة تويوتا اليابانية أكبر شركة سيارات في العالم , فتُنحي بذلك شركة چنرال موتورز عن عرشٍ تبوأته لأكثر من قرنٍ . ومعنى هذا الكلام أن هذه الدول لا تبذل أي جهد في لعنة أمريكا لأن ذلك من جهة غير مفيد , ومن جهة ثانية يعبر عن عجز كبير في الفهم والإدراك , ولكنها تُصارع الولايات المتحدة وفق "نوتة موسيقية" جد مختلفة عن "نوتة الصراخ والسب" . ولاشك أن النوتة الصينية في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية هى أصعب بكثيرٍ من النوتة العربية , فما أسهل الكلام وما أصعب العمل (يقول المثل الإنجليزي : "الكلام الكبير لا يكسّر العظام") .

 

ويضيفُ لفداحةِ الموقف العربي الظن (غير المؤسس على أية حقائق إلا الوهم) بأن الولايات المتحدة الأمريكية هى سائرة صوب نهايتها القريبة كقوة عظمى . فهذا الوهم غير حقيقي البتة . فنحن الآن لسنا أمام لحظةِ موت الإمبراطورية الأمريكية وإنما أمام لحظة ميلادها . فعناصر تكوين الحالة الراهنة للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية عظمى لم تبدأ إلا سنة 1991 وهو التاريخ الحقيقي (وليس 1945) لنهاية الحرب العالمية الثانية .

 

إن برامج التعليم العربية مُنبتة الصلة بالعصر والمناخ الثقافي العام في المجتمعات العربية وهو مناخ قرون أوسطي والأوهام المؤسسة على أساطير دينية (تنبع من الفهم الخاطيء للدين وليس من الدين ذاته) تُغذي الحالة المرضية العربية والتي تُبقي المجتمعات العربية في حالة الذهول والصراخ والعويل وصب اللعنات والشكوى مقارنةَ بموقف مجتمع مثل الصين إستبدل كل تلك الصفات بكلمة واحدة هى "العمل" .