يا عُقلاء السعودية : إتحدوا.

منذُ أكثر قليلاً من مئتين وخمسين سنة (بالتحديد في سنة 1744) تعاهد رجُلان هُما مُحمد بن سعود ومُحمد بن عبد الوهاب على أمرٍ خلاصته أن يحكم الأولُ وفق مباديءِ وقواعدِ دعوةِ الثاني. وعقب البيعة قال مُحمد بن عبد الوهاب كلمات قليلة كانت بالغة الصدق في التعبيرِ عن جوهرِ حركتهِ التي تُعرَف بالوهابية . قال مُحمد بن عبد الوهاب (موجهاً حديثه لمُحمد بن سعود) "الدم الدم ، الهدم الهدم" . وعلينا أن نُقَدِر صدق الرجل كل التقدير إذ لخص دعوتهُ في أربع كلمات كانت ولا تزال دستور الوهابية . كانت هذه البيعةُ هى أساس الدولة السعودية الوهابية الأولى . ومن يُراجع مؤلفات مُحمد بن عبد الوهاب اليوم (وقد طالعتُ بعناية كتبهِ وهى 19 مؤلفاً) يجدها تُدخله في مجال الدعوة أكثر من أن تُدخله في مجال الفقه . المُهم : إستمرت الدولةُ السعودية الأولى من سنة 1744 حتى قامَ إبراهيم باشا (إبن مُحمد علي الكبير) بالقضاءِ المبرمِ عليها بعد 75 سنة عندما قام بمهاجمة الدولة السعودية وحطمَ عاصمتها (الدرعية) وألقى القبض على أميرها (عبدُ الله بن سعود ) وأرسله إلى القاهرة ومنها إلى عاصمة الدولة العثمانية حيث تم إعدامه وكانت سماتُ الدولة السعودية الأولى هى محاربة ما تعتقد أنه البِدَع مثل بناء القبور والموسيقى والغناء والتشبه بغير المسلمين في أي مظهرٍ من المظاهر مع كراهية واضحة لهم والإعتقاد بنجاستهم (بل والبصق عليهم كما كان الإخوان يفعلون مع المُستشارين الأوروبيين للملك عبد العزيز في أوائلِ القرن العشرين) وعدم جواز وجود غير المُسلمين على تُراب الجزيرة العربية مع عداء مُستأصل لكل مظاهر الحداثة حتى لو كنا بصدد أمر بسيط مثل كيفية التعامُل مع الشارب واللحية !! . كذلك إتسم فُقهاء الدولة السعودية الأولى بسمةٍ لم تَغِب عن الوهابيين قط وهى إعتبار المذهب الحنبلي (بما أَضافه إليه إبن تيمية وإبن قيم الجوزية) هو الفهم الوحيد الصحيح للإسلام ، رغم أن فقه إبن حنبل هو أضعف مدارس الفقه السُنية الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية) . وحتى اليوم فإن أي فقيه سعودي عندما يتكلم يكون جلياً أن الإسلام عنده هو الإسلام كما فهمه إبن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية رغم كون هؤلاء فُقهاء صغار القامة إلى أبعدِ حدٍ عندما يُقارنون بفقهاء مثل أبي حنيفة النُعمان ومالك بن أنس وجعفر الصادق وإبن رُشد (المُعَلِم الثاني بعد المُعَلِم الأول أرسطو) . فبينما يُمكن القول بأن "العمل الفقهي" كان على أشده عند فقهاء مثل أبي حنيفة وإبن رشد ، فإن "العمل التجميعي" الخالي من إعمال العقل أو أدوات علم أصول الفقه التي جوهرها العقل (مثل الإستحسان عند أبي حنيفة والتأويل عند إبن رشد) كانت سمة المذهب الحنبلي وهو ما أدى إلى توسعهِ (بالغ الإفتئات على العقل) في قبول آلاف الأحاديث وهو ما خلق مناخاً عاماً أساسه الإتباع والتقليد والتبعية وليس إعمال العقل ، وهو ما أدى بالمجتمعات الإسلامية لما وصلت إليه اليوم عندما أصبحت خارج التاريخ وخارج مسيرة العلم وخارج مسيرة الإضافة لعناصر الحياة الإنسانية على الأرض . فقد قاد هذا التيار الفقهي العقول المُسلمة لتصبح "عقول تلقي الإجابات" وليست "عقول إثارة الأسئلة" ، ناهيك عن ذبول القُدرة على إعمال العقل النقدي الذي هو أساس التقدم البشري .

 

بعد قضاء إبراهيم باشا على الدولة السعودية/الوهابية الأولى ، عاد السعوديون (وفي ذيلهم الوهابيون) إلى المُشاركة في قيادة مجتمعات شرق الجزيرة العربية ولكن هذه المرة للمُشاركة مع آل الرشيد (الذين كانت حائل عاصمة مُلكَهم) . وقد إستمر هذا التحالف بين آل الرشيد وما يُمكن أن نُسميه الدولة السعودية الثانية حتى قام آل الرشيد بالتخلص من مُشاركة آل سعود لهم (بل وطردهم إياهم لمنفاهم بالكويت) في سنة 1891 .

 

وفي سنة 1901 قام الشاب العامر بمؤهلات القيادة وأدوات صُنع التاريخ (عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود المولود سنة 1875) بالإستيلاء على مدينة الرياض بعد عمليةٍ ليليةٍ بالغةِ الجسارة . وخلال السنوات من 1902 إلى 1925 حفلت حياةُ هذا الأمير السعودي العامر بمواهب القيادة والحُكم بجهود خارقة إنتهت بأن يصبح (بعد إستيلاءه على مكة والمدينة المنورة سنة 1925) الحاكم الوحيد لنجدٍ ومناطق أخرى هى التي تُعرَف اليوم بالمملكة العربية السعودية (وهو إسم لم يُستعمل إلا بعد سبع سنوات من صيرورة عبد العزيز آل سعود سلطاناً لنجدٍ ومَلِكاً للحجاز في سنة 1925) .

 

وخلال رحلة تاريخية نادرة المثال ما بين سنة 1902 وسنة 1925 لم تظهر فقط علامات القيادة الكُبرى من خلال تصرفات وسياسات وأفعال وأقوال عبد العزيز (آل سعود) وإنما دلت كل التفاصيل على فهمه الكامل لطبيعة القوى الكُبرى ما بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية ثم الإمبراطورية التي ستبرُز بعد ذلك وأعني الإمبراطورية الأمريكية . وقد لعب عبد العزيز (آل سعود) أدواره بمهارة بالغة وإستعمل كل ما كان من شأنهِ إفادتهِ ودفعهِ نحو هدفه الذي تكون في ذهنيته أيام المنفى الكويتي وخلال تلك السنوات التي قضاها (وأسرته) في ضيافةِ ورعايةِ آل الصباح بالكويت بوجه عام وفي حضانةِ ورعايةِ أمير الكويت الشيخ مبارك (1895/1915) بوجه خاص .

 

وكما إستعمل الأمريكيون الإسلاميين إبان حقبة الحرب الباردة ليساعدوا الولايات المتحدة في عملية تقويض إمبراطورية الإتحاد السوفيتي (ولا سيما بعد غزو السوفيت لأفغانستان سنة 1979) . فقد إستعمل الأمير عبد العزيز (آل سعود) وإعتباراً من سنة 1912 ما يُشابه أو يُقابل الإسلاميين (الجهاديين) الذين إستعملتهم الولايات المُتحدة في أفغانستان ضد السوفيت وأعني حركة الإخوان أو إخوان نجد . ورغم وجود عشرات المؤلفات لدي عن علاقة الأمير عبد العزيز (آل سعود) بحركة الإخوان منذُ بدأ الحلف السياسي بينهما في سنة 1912 وحتى إنتهى ذلك الحلف بقتال دموي تمكن فيه السعوديون (بقيادة السُلطان/الملك عبد العزيز آل سعود) من القضاء على الإخوان (بقيادة فيصل الدويش) سنة 1930 ، إلا أنني أكتفي بالقليل عن هذه العلاقة هنا . كان الإخوان أو إخوان نجد من أصحاب الغلو البالغ في فهمهم للدين . فكل مظاهر المدنية الحديثة عندهم هى رجز من عمل الشيطان . ونظراً لأن حلفهم مع إبن سعود كان في فترة تقدم البشرية العلمي الكبير ، فقد حاربوا مظاهر هذا التقدم وإعتبروا خطوط التلغراف والسيارات والتليفون ثم بعد ذلك الراديو كُلها من أعمال الشيطان وإعتبروا من يقبل بها كافراً . وللتدليل على غلوهم الذي يدخُل في دائرة الجنون أن واحداً منهم تقدم وفي يدهِ مقص تجاه السُلطان (عبد العزيز آل سعود) وقام بتقصير ثوبهِ أمام الجميع فيما يُشبه الإعلان أن مباديء الوهابية أقوى من السُلطة السعودية . ومعروف أن تقصير الثوب عند الوهابيين من الضروريات وأن مخالفة ذلك كُفر (!!) .

 

ولا شك عندي أن الأمير عبد العزيز (ثُم بعد ذلك : السُلطان ثم الملك عبد العزيز آل سعود) قد إستعمل الإخوان عندما كان في حاجةٍ لهم ، إذ كانوا مُقاتلين بالغي الشجاعة شأنهم شأن كل راغب في الموت. وخلال إستعماله لهم (من سنة 1912 إلى إرتفاع رايته فوق معظم الجزيرة العربية سنة 1925) كانت تحدُث صِدامات كبيرة عديدة بينه وبينهم ، لدرجة أنهم أعلنوا غضبهم الشديد عليه عندما إنتقل من إستعمال الإبل لإستعمال السيارة الحديثة . وقال بعضهم عنه "أنه في سنة 1925 خرج من الرياض على ظهر ناقة وعاد إليها في سيارة كاديلاك" (وهو مايعني عند الوهابيين بداية مروقه وخروجه عن صحيح الدين !!) . ولكن ما أن دانت شبه الجزيرة للسُلطان الذي جنى ثمرة عبقريته وكفاحه بعد إنتصاره على الهاشميين وإستيلاءه على مناطق مُلكهم (سنة 1925) حتى بدأ الصدام الكبير بينه وبين الإخوان والذي إكتمل بالحرب التي إنتهت بإنتصار عبد العزيز آل سعود على الإخوان وأسرِه لقائدهم فيصل الدويش الذي ما لبث أن مات في أسرِه بعد بضعة سنين .

 

ولكن : هل خلت دولة السعوديين (الثالثة) بعد أن إستتب لها الأمر وتمكنت من هزيمة أعدائها (من آل الرشيد للهاشميين لفيصل الدويش) من فكر حركة إخوان نجد الذي يقرب من حدود الجنون والأمراض النفسية إذ يُقاتلون من أجل إيقاف إستعمال السيارات والتلغراف والراديو ومن أجل تقصير الثوب وحف الشارب وإطلاق اللحية ؟ ... الحقيقة أن الدول السعودية (الأولى والثانية والثالثة الحالية) لم تكن في أي يوم خالية من رياح السموم التي يبثها أصحاب ذهنية إخوان نجد .

 

إن مقاومة تعليم البنات في المملكة ومقاومة البث التليفزيوني وعدم التصريح للنساء بقيادة السيارات وتأثيم الموسيقى والغناء ، هى وأيضاً العمل الإجرامي الكبير المُتَمَثِل في الإستيلاء على الحرم المكي مع بداية القرن الهجري الخامس عشر هى كلها دلائل بقاء نفوذ ذهنية الإخوان في المملكة . إن عدم تدريس مادة الرسم والفلسفة في المدارس ليست إلا من ثِمار هذه الذهنية . ومعارضة تعيين إمرأة في مجلس الشورى أو في مجلس الوزراء هى أيضاً من ثِمار بقاء هذه الذهنية . وكذلك طوفان الفتاوى العامرة بمعالم هذا الجنون (مثل فتوى إبن الباز بعدم كروية الأرض وفتوى تحريم إرسال الزهور للمريض) وهى أمور تحتاج لحسم إداري باتر يُلازمه علاج نفسي .

 

ولكن من اللازم (من باب الأمانة العلمية) أن نُفَرِق بين الوهابية وذهنية الإخوان وبين العائلة السعودية . فالحقيقة أن كُتب مُحمد بن عبد الوهاب الـ 19 لا تحُض على شيء مما فعله ولا زال يفعله أصحاب ذهنية إخوان نجد . كما أن العائلة السعودية كانت – في ظروف تاريخية معينة – في مُشاركة مع الوهابيين وفي مرحلة أخرى مع الإخوان ولكنها ليست بالضرورة صاحبةِ هذا الفكر .

 

وأنني (كدارس للتاريخ السعودي خلال القرون الثلاثة الأخيرة) أعتقد أن البيت السعودي في لحظة مفصلية اليوم مع كل من التيار الوهابي وبقايا ذهنية إخوان نجد . وأعتقد أنه منذُ أن إكتشف البيت السعودي أن السوادَ الأعظم من مُجرِمي حادث 9 سبتمبر 2001 كانوا شباباً سعودياً ، فقد أصبح لزاماً عليهم إدراك أن مسئولية كبرى قد أُلقيَت على عاتقهم بوقفة مع التيار الوهابي والإخواني (بمعنى إخوان نجد وليس إخوان مصر) تُماثل وقفة والد كبار أُمراء البيت السعودي الحاليين أي وقفة عبد العزيز آل سعود مع إخوان نجد وفيصل الدويش خلال النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين ، وهى الوقفة التي إنتهت بحرب هزم فيها الملك عبد العزيز آل سعود الإخوان بقيادة فيصل الدويش رغم دور الإخوان غير المنكور في نجاح مسيرة الأمير الشاب (الملك عبد العزيز آل سعود) .

 

إن البيت السعودي الذي لم يتورط فكرياً في أفكار الوهابية وإخوان نجد مُطالبٌ اليوم (في إعتقادي) بما يلي :

أولاً - القيام بمواجهة مع التيار الذي يُمثله كل الغُلاة في السعودية مواجهة تُشبه مواجهة والدهم للإخوان منذُ ثمانية عقود .

ثانياً - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في مؤسسة التعليم .

ثالثاً - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في وزارة الأوقاف والدعوة والحج .

رابعاً - إلغاء كل نُظم المطوعين وجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر لمُنافاة ذلك كلياً لمفهوم الدولة الحديثة .

خامساً - تقليص الميزانية الهائلة التي تنفقها المملكة على رجال الدين (نحو 3 مليار دولار أمريكي) وتوجيه هذه الأموال لمجالات التعليم والصحة (فإن أصحاب الثوب القصير والشارب المحفوف واللحية المُطلقة ليس بوسعهم أداء أي دور في أية دولة حديثة إلا إذا كان المقصود بالدور هو الدور الهدام) .

سادساً - تشجيع أساتذة الفقه المُعتدلين على وضع برنامج محدد زمنياً لإدخال مرجعيات حنفية ومالكية وشافعية بدلاً من المرجعيات الحنبلية حتى تصل السعودية لطورٍ لا يكون الفهم الحنبلي فيه هو الفهم الوحيد لسائر الأمور الدينية (وأُكرر أن إبن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية هُم كانوا بلا شك من أصحاب أقصر القامات الفقهية بين الفُقهاء).

سابعاً - التجاسُر على كسر وهزيمة العناد الإخواني (بالمعنى النجدي) في العديد من المسائل مثل تعيين المرأة وزيرة وتعيين المرأة بمجلس الشورى والسماح للمرأة بقيادة السيارة والسماح للأساتذة الرجال بالتدريس للطالبات وللمُعَلِمات من النساء بالتدريس للطُلاب الذكور في ظل مناخ عصري وليس في ظل المناخ الحالي الذي لا مثيل له على وجه الأرض .

ثامناً - نظراً لأن مئات المراكز الإسلامية التي أنشأتها السعودية في معظم بلدان العالم قد تحولت لأوكار للتعصب والتشدد والغلو (ومفارخ للعُنف والدموية والإرهاب) ، فلابد من وضع خطة بديلة لتحويل هذه المراكز لنقاط خدمة مُجتمعية وليس لجهات دعوة ظلامية كما هو الحال بشأن مُعظمها اليوم ، وهو ما أساء للإسلام والمُسلمين أكبر إساءة خلال العقود القليلة الماضية .

إنني أُعبِر عن هذا الرأي لا من باب العداوة للسعودية وإنما من باب الحرص عليها . فأنا على يقين أن عدم قيام أبناء الملك العظيم عبد العزيز آل سعود بمثل ما قام به والدهم مع إخوان نجد وفيصل الدويش منذُ ثمانين سنة سيؤدي بالمملكة السعودية لمواجهه بالغة الضراوة مع المُجتمعات المُتقدمة . لذلك فإنني أؤمن بأن إنهيار النظام السعودي سواءً لمصلحة تيار الغلو أو لمصلحة تيار التجزئة والتقسيم هو أمر بالغ الخطورة الإستراتيجية على كل دول الخليج والشرق الأوسط . فكما أن إصلاح مصر أجدى ألف مرة من سقوطها في أيدي عدد من البدائل ، فإن إصلاح السعودية أجدى ألف مرة من بدائل سَتُخَرِب المنطقة بأسرها ، وأعني إستمرار الإستقرار في المملكة وكل جيرانها . ولكن هذا الإستقرار في إعتقادي مستحيلٌ بدون عملية تاريخية تُشبه ما قام به الملك عبد العزيز آل سعود مع غُلاةٍ مُماثلين خلال السنوات ما بين 1925 و 1930 . فيا عُقلاء السعودية أستختارون نهج الملك عبد العزيز في مواجهة إخوان نجد منذُ ثمانية عقود أم سَتُفَضِلون الإستمرار في مُعاشرة "فيصل الدويش" المُتجدد حتى يُثقَب قعر السفينة فتغرق بمن فيها ؟

 

 

 

 

 

 

  • يُمكن للقُراء الإطلاع على النص الكامل لأكثر من ثلاثمائة مقال للمؤلف على شبكة الإنترنت عن طريق : http://www.tarek-heggy.com