جريمة مقاضاة المدنيين أمام محاكم عسكرية .

رغم إختلافي (الفكري) الكامل مع منطلقات وطروحات الإخوان المسلمين لإعتقادي (مثل الشيخ علي عبد الرازق صاحب "الإسلام وأصول الحكم") أن الإسلام يقدم مجموعة من القيم كي تستلهم في حياةِ المسلمين ولكنه لا يقدم نظاماً محدداً للحكم . رغم هذه المساحة الواسعة للخلافِ بيني وبين الإخوان المسلمين فإن دستوري الخاص الذي يحكم علاقتي الفكرية بهم (وبغيرهم) هو أن العنفَ لا يستعمل إلا مع مستعملي العنف أما أصحابُ الفكرِ فلا يكون التعاملُ معهم إلا بالفكر . ويقتضي ذلك أن نتعامل مع الإخوان المسلمين إما من خلال الحوارِ وبأداةٍ وحيدةٍ هي الفكر , أو بالمنافسةِ معهم في الخدمة المجتمعية . أما إستعمالًُ العنفِ مع أية طائفةٍ من الطوائف التي لا تستعمل العنف فهو جُرم كبيرُ في حقِ الإنسانية والحريات العامة والديمقراطية التي نؤمن بها ويحملني هذا الموقف على أن أُدين بكل ما أُوتيت من قوة كل أعمالِ الإعتقال التي تقع في حق الإخوان المسلمين بدون سندٍ من القانون والقضاء كذلك يحملني هذا الموقفُ على أن أُدين بكل ما أُوتيت من قوةٍ "محاكمة الإخوان المسلمين أو غير الإخوان المسلمين من المدنيين أمام محاكم عسكرية" . ومع هذا فإنني أعتقدُ أن أي نظام حكم لا يستطيع أن يواجه الفكرَ بالفكرِ والحوارَ بالحوارِ والخدمةَ المجتمعية بخدمةٍ مجتمعيةٍ أفضل منها إنما هو نظامٌ لا نصيب له من الكفاءة . وأيضاً فإن النظامَ السياسي الذي يلجأ لمحاكمة المدنيين أمام قضاء عسكري هو نظامُ يعلن بنفسه عن حقيقة طغيانهِ وجوهره البعيد عن إحترام أي من المبادئ التي يتشدق بها في مجال الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومما يزيد الطين بلة , ما حدث مؤخراً عندما مُنع ممثلي جمعيات حقوق الإنسان الدولية والمصرية من حضور جلسة محاكمة بعض الإخوان المسلمين أمام قضاء عسكري , وهو أمرُ يجسد خرقين كبيرين لما هو مستقر في المجتمعات الديمقراطية وأعني حضور ممثلي جمعيات حقوق الإنسان للمحاكمة ثم (الجرم الأكبر وهو) محاكمة مدنيين أمام قضاءٍ عسكري .

 

في لقاءٍ حديثٍ ما بين السفير الأمريكي ونائب رئيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان (الدكتور/ أحمد كمال أبو المجد) أدلى الأخيرُ بتصريحٍ أحوى إستهجان محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية . ومعلوم أن هذا المجلس ورئيسه ونائب الرئيس مُعينون من قِبل الحكومة المصرية . ومع ذلك فإن الموظفين المُعينين من قِبل الحكومة لم يكن بوسعهم إلا إستهجان محاكمة المدنيين أمام القضاء عسكري : فبأي منطق تستمر الحكومة في هذا النهج الصارخ في دلالتهِ على الطغيان من جهةٍ أولى وعلى عدم الكفاءة من جهةٍ ثانية وعلى اللامبالاة من جهةٍ ثالثة (قد تكون كلمة "التنطع" أشد دلالة على الحالة من كلمة اللامبالاة) .

إنني أُعبر عن هذا الموقف رغم إعتقادي الجازم أن الإسلام لو تكلم ونطق لكان أكثر إعجاباً بالديمقراطيات الغربية من التصورات الهلامية والوهمية عن نظام الحكم الإسلامي في رؤوس وخيال سائر فرق الإسلام السياسي . بمعنى أنني لا أقول بأن نظام الحكم الأسلامي غير جيد . وأنما أقول أنه لا يوجد في الأصل نظام حكم إسلامي إنما مجموعة من القيم السامية التي على المسلم أن يستلهمها وهو يقوم بوضع نظام حكم وضعي مرتبط بالزمان والمكان وقابلٍ للتغيير على الدوام . ولكن ذلك لا يمنعني من أن أكون في الصف الأول من المنددين بأي تعامل غير دستوري وغير قانوني أو أمام جهة قضائية غير طبيعية (مع الإخوان أو غير الإخوان) وهو المحاكمة على الفكر وليس الفعل , وما أشد بؤس مجتمع يحاكم فيه الناس على الأفكار والأقوال وليس على التصرفات والأفعال (بمعنى أن تكون أفعالهم مخالفة للقانون) .

 

إنني أطالب كلَ الأحزابِ (بإستثناءِ حزب الحكومة فهو كيان ميئوس منه) ومعظم منظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان أن تأخذ موقفاً صارماً وموحداً وقوياً حتى تتوقف الحكومة عن محاكمة أي من المدنيين أمام القضاء العسكري . وأؤكد للجميع أن الفائدة من هذا الموقف ستعم لجميع : فسوف تُثبت قاعدةَ أن هناك حد أدنى من الإتفاق بين الجميع ضد الطغيان , كما أنه سيجعل الإخوان المسلمين قابليين لمراجعة بعض مواقفهم تجاه (الآخر) . وقد نخطو بذلك خطوة في طريق تحول الإخوان المسلمين (تدريجياً) إلى ما يشبه الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا اليوم , وهو حزب أكثر نضجاً وتطوراً من سائر أحزاب الإسلام السياسي في العالم كلهِ ولا شك عندي أنه يقبل تداول السلطة على خلاف كيانات إسلامية سياسية أخرى أشك في قبولها الحقيقي لمبدأ تداول السلطة كما أن الحزب التركي يقبل الصيغة الديمقراطية التي طورتها الحضارة الغربية دون محاولة صبيانية لإثبات أن لديه صيغة إسلامية بديلة : فكما أن الإسلام ليس ضد مستحدثات العلم في مجالات العلوم التطبيقية فإنه لا يمكن أن يكون ضد مستحدثات العلم في دوائر العلوم الإجتماعية , وأهم هذة المستحدثات (بل وأعظم إنجازات الإنسانية) هي الديمقراطية .

وأود أن أختم هذا المقال بكلمات ٍ سطرها منذ قرون أحد أصحاب عقلية من أعظم العقليات التي أنجبها التاريخ الإسلامي وأعني إبن خلدون الذي قال عن العرب وعن ما يُسميه الناس اليوم الطب الإسلامي ما يمكن أن يقال عما يسميه البعض "نظام الحكم في الإسلام" : (إن العرب كان لديهم أطباء معروفون مشهورون . والطب المنقول في الشرعيات هو من هذا القبيل , وليس عن الوحي في شئ وإنما هو أمر كان عادياً عند العرب فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتعليمنا الشرائع ولم يبعث للتعريف بالطب ولاغيره من العادات , وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع , فقال "أنتم أعلم بأمور دنياكم " . فلا ينبغي أن يُحمل شئ من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة على أنه مشروع , فليس هناك ما يدل عليه) .

رحم الله إبن خلدون ورحم إبن رشد والفارابي وإبن سينا وعوضهم خيراً عما لاقووه من العامةٍ وأنصاف المتعلمين مصداقاً للقول الحكيم (يا ويل العالم من الجاهل) .