حتمية الإصلاح الإداري .

شهدت السنوات الخمس وعشرين الأخيرة العديد من تجارب الإصلاح الاقتصادي . وقد حققت بعض هذه التجارب نجاحاً هائلاً ، كما أَخفقت العديد من التجارب . وإلى جانب الذين نجحوا والذين أَخفقوا مجموعة ثالثة من الدول التي حققت في البداية تقدماً كبيراً ، ثم تراجع النجاح بنسبة أو بأخرى . وفي اعتقادي أن التجارب التي نجحت وحافظت على توالي النجاح هي التجارب التي لم تنظر لعملية الإصلاح من منظور اقتصادي بحت . فالحقيقة أن أي أفكار ونظم وهياكل وآليات اقتصادية (يضعها في الغالب اقتصاديون معظمهم من الأكاديميين) لا تقدر على تحقيق نجاح ثابت ومطرد ومتوالي . وفي اعتقادي أن للاقتصاديين دورهم الهام للغاية والذي بدونه لا تبدأ عملية الإصلاح . فهم الذين يرسمون إطار الإصلاح المالي ثم الإصلاح الاقتصادي . ولكن ذلك لا يمثل إلا مرحلة أولى لا أكثر . وهذه المرحلة تشبه من يقيم ملاعباً عصرية ممتازة ومجهزة بكل وسائل الألعاب الرياضية الحديثة . ولكن أيكفي ذلك لوجود سجل رياضي حافل من النجاح ؟ هل تكفي عملية إنشاء الملاعب لإنجاز هذا السجل الحافل من الإنجازات الرياضية ؟ .. قطعاً " لا " . فبعد إنشاء الملاعب العصرية وتجهيزها بكل الأدوات والآلات والنظم والأجهزة العصرية المطلوبة يبقى الدور الأهم للمدربين والإداريين واللاعبين . وبالمثل ، فإن عملية الإصلاح المالي والاقتصادي (وبقدر ما هي مهمة ومصيرية) فأنها ليست إلا مرحلة أولى . أما المرحلة التالية ، فهي مرحلة يتأخر فيها الاقتصاديون ليحتل رجال الإدارة العليا العصرية مكان القيادة بدلاً منهم . فبعد تجهيز الإطار (وهي مهمة صعبة وعلمية ومعقدة وبالغة الأهمية) ينحسر دور الاقتصاديين ويبرز دور القيادات الإدارية التنفيذية والذي يماثل دور المدربين والإداريين واللاعبين في المثال الرياضي الذي ضربته .

والملاحظ ، أن التجارب التي أَخفقت منذ البداية ولم تحقق سجلاً حافلاً من النجاح هي التجارب التي أبقت " عجلة القيادة " في يد الاقتصاديين (الأكاديميين) لفترة أطول مما كان يلزم . أما التجارب التي حققت نجاحاً كبيراً ومتواصلاً ومتوالياً فهي التجارب التي سلَّم فيها الاقتصـاديون عملية القيادة لكادر بشـري ممتاز موهوب ومؤهل من القياديين الإداريين التنفيذيين . وأما البـلاد التي حققت قدراً من النجاح ثم اعترت مسـيرة نجاحها عثرات وكبـوات فهي البلاد التي اختلطت فيها الأدوار

 

(أدوار الاقتصاديين المطلوبة بشكل حتمي في البداية وأدوار القيادات الإدارية التنفيذية) وبقى الاختلاط قائماً بعد مرحلة الانطلاق ، وهو ما أحدث تلك الكبوات التي يبالغ البعض عندنا في تصويرها ، فالكبوة التي اعترت مسيرة النمور الأسيوية كانت كبيرة ولكنها لم تكن قاتلة ، كما أن معظم النمور الآسيوية سوف تكون قد تجاوزت الأزمة قبل نهاية العام القادم (سنة 2000) وقبل ذلك تجاوزت المكسيك (بشكل رائع) كبوتها وعن طريق الكادر البشري الممتاز من المديرين التنفيذيين .

وجوهـر الفكرة التي أدعو لها هي أن إطالة مرحلة الإصـلاح المالي والاقتصادي والتي يقود فيها العربة الاقتصاديون (الأكاديميون في معظمهم) هو ما يسبب كثيراً العثرات والكبوات . فالأمر هو انتقال الاهتمام (بعد المرحلة الأولى) من الهيكلة المالية والاقتصـادية إلى الاهتـمام (في المرحلة التالية) بالإدارة ونظم الإدارة الحديثة ونظم التسـويق وبالعناصر البشـرية وأهمها العناصر القيادية (في مجـال العمل الإداري التنفيذي بما في ذلك مجال التسـويق والذي هو أهم مجالات العمل الاقتصادي الحـديث) . ولاشك أن " نقل الاهتمام " من الجانب الأول (جانب النظم المالية والاقتصادية) إلى الجانب الثاني (جانب الإدارة والموارد البشرية ونظم التسويق واكتشاف المواهب القيادية في هذه الدوائر) هو عملية صعبة للغاية لأنها تتضمن مواجهة (وربما صراعاً) بين طوائف بشرية تنتمي لمدارس مختلفة ، مدرسة الماضي التي كانت لا تمّيز بين " الرئيس في العمل " وبين " المدير التنفيذي " ، فليس كل " رئيس في العمل " مديراً تنفيذياً قادرا . بل أنها عملية انتقال تتضمن صراعاً بين رجال يحتلون بالفعل معظم المواقع القيادية ورجال لا يملكون أدوات قوة مماثلة (لكونهم لا يزالون خارج المنظومة) . ولاشك أن سرعة حسم هذا الصراع لصالح المدرسة الحديثة هو أحد أهم مفاتيح النجاح الاقتصادي المطرد والأقل عرضة للهزات والعثرات والكبوات .

فإذا انتقلنا للواقع المصري ، وتساءلنا أين نحن من ذلك التنظير ؟ .. كان جوابنا كالتالي :

•  شهدت السنوات الثمان الأخيرة جهداً عظيماً في مجال الإصلاح المالي حقق الكثير من التصويبات ووضع الأمور على الطريق السليمة .

•  كذلك شهدت نفس السنوات جهداً عظيماً في مجال الإصلاح الاقتصادي ، ولكنه جهد لا يزال في حاجة للاستكمال ، وأهم ما تبقى هو إعادة النظر في " دور الدولة " في الحياة الاقتصادية بحيث يصبح دوراً هاماً للغاية في مجال الرؤية والسياسات مع انسحاب كبير من معظم الأنشطة الاقتصادية كما يلزم القيام بعملية جراحية لاستئصال ورم السلطة البيروقراطية الهائلة التي لا تزال الحكومة تمارسها فهذا الورم هو السبب الأكبر لعدم تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال الدولية (بالشكل المطلوب) .

•  أصبح من الحتمي الآن الاهتمام بالجوانب المتعلقة بنظم الإدارة العصرية واختيار القيادات الإدارية التنفيذية والاهتمام الموازي بالموارد البشرية والتدريب ونقل التكنولوجيا ونقل المهارات واهتمام ثالث موازي بعلوم التسويق والقيادات التنفيذية في هذا المجال الذي بدونه تكون كل الجهود في المجالات الصناعية والخدمية " مهدرة " . ويقتضي هذا " التحول الهام " الانتقال من مرحلة الاقتصاديين الأكاديميين إلى مرحلة الإداريين التنفيذيين العصريين ، فهؤلاء هم الذين سيحولون كل ما تم من جهود عظيمة في مجالي الإصلاح المالي والاقتصادي إلى نتائج ملموسة في شكل تعاظم الإنتاج (في مجال المنتجات أو الخدمات على السواء) .

وتقتضي عملية توضيح الصورة أن أبرز أن النظـم الاقتصـادية التي حققت نجحاً كبيراً ومتوالياً ومطرداً قد آمنت بدور القطاع الخاص المحوري والأكبر كما آمنت بأهمية أخـذ وجهات نظـر " طبقة رجال الأعمال " في الاعتبار ، ولكنها لم تترك لهم فرصة المشاركة في وضع السياسات ، نظراً للخطـورة الداهمة التي ينطـوي عليها ذلك . فمصـالح رجـال الأعمال بطبيعتها قصيرة الأجل أو على الأكثر متوسطة المدى ، أما مصلحة المجتمع فطويلة الأجـل . وذلك ما يحتـم وجود كادر بشري آخر يقيم التوازن بين مصالح الأجل القصير ومصالح المدى الطويل ، فهؤلاء هم رجال السياسـة العصـريين الذين قـد يكـون من بينهم مديرين تنفيذيين كبار ولكـن من غير المقبول أن يكون من بينهم رجال أعمال .