نحن .. . وقيم التقدم .

لا شك أن الوصولَ بمصرَ للحالةِ التي ينشدها معظمُ المصريين من إستقرارٍ وإزدهارٍ وسلامٍ اجتماعيٍّ وصلحٍ مع العصرِ وتياراته ، لا شك أن ذلك يقتضي إستكمالاً ناجحاً لبرامج الإصلاح الاقتصادي (ولعل أهمها اليوم تنقية بيئةِ العملِ والاستثمِار من الشوائبِ التي تجعل العملَ والاستثمارَ في بلدانٍ أخرى أكثر جذباً لرؤوسِ الأموالِ بصرفِ النظرِ عن جنسيها) . كذلك لا شك أن تطويرَ الحياةِ السياسيةِ عن طريقِِ تأصيلِ وتوسعةِ الهامشِ الديموقراطي هو عاملٌ آخرُ هامُ لصنع ذلك الوطن المنشود . إلاَّ أن (الإنسان) يبقى أهم أدواتِ صنعِ النجاح . وعليه ، فإن برامج الإصلاح الاقتصادي وبرامج تطوير الحياة السياسية يحتاجان إلى جهدٍ ثالثٍ (داخل الإنسان) . ولا شك أن تطويرَ التعليمِ هو أهمُ أدواتِ ذلك . ولا ينكر أحدٌ أن جهوداً عظيمةً قد بُذلت في هذا المجال وأن تعظيماً لا يُنكر قد تحقق لحجم الإنفاقِ على المؤسساتِ التعليميةِ . ولكن إلى جوارِ كل ذلك ، تبقى مسألةٌ أخرى في حاجةٍ لنفسِ الاهتمامِ وهي مسألة "القيم" التي بدون تدعيمها وتأصيلها وترسيخها يكون من الصعب توفير الإنسان المصري القادر على مواجهةِ تحدياتِ العصرِ والتي تعتبر مجموعة من القيم هي أهم أدوات وسبل وآليات هذه المواجهة . وفي هذا المقال أتطرقُ لعشرةٍ من هذه القيم جعلتني تجربةُ الانغماسِ في المؤسساتِ الاقتصاديةِ العالميةِ الكبرى أُدرك أنها مثل "المحرك" الذي يقود الإنسان (والمجتمع) للنجاحاتِ المنشودةِ في هذا المجال . وهذه القيم هي كالتالي:

1) قبول الآخر:

رغم أن الموروثَ الثقافي الإنساني كان عامراً بعكسِ قيمةِ "قبول الآخر" إلاَّ أن التطورَ الكبير خلال القرونِ والعقودِ الأخيرةِ لقيّم الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان أبرز قيمةََ قبولِ الآخر كأحدِ أهمِ القيمِ الإنسانية التي يصعب أن نقول بتوفرها وإنما بدخولها بلا شك مرحلةِ النضج كقيمةٍ إنسانيةٍ أساسيةٍ تمليها اعتباراتٌ عديدةٌ . وقبولُ الآخر قيمة نابعة من التسليمِ المعاصرِ بقيمةٍ أخرى هي "التعددية" بمعناها الواسع ، فتعدديةُ الحياة هي ليست فقط من معالمها وإنما من أسبابِ ثرائِها . وقبولُ الآخر قيمةٌ ترتبطُ كما أسلفت بقيّمِ الديموقراطيةِ والحرياتِ العامةِ وحقوقِ الإنسانِ ولكنها ترتبطُ بنفسِ القدرِ بالتعدديةِ التي هي سمةُ الحياةِ ومصدرُ ثرائِها .

ومن المهم للغايةِ أن تتضافر جهودُ التعليمِ والإعلامِ والثقافةِ لغرس قيمةِ قبولِ الآخرِ في الوجدانِ من الصغر وتدعيمها عبر سنواتِ التكوين .. . سواء كان الآخرُ هو الآخر من وجهةِ نظرِ الجنسِ (العرق) أو الثقافةِ أو الدينِ أو اللونِ أو العاداتِ أو التوجهاتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعية .. . إلى آخره . ويزيدُ من ضرورةِ غرسِ قيمةِ قبولِ الآخر أن البشريةَ تدخلُ القرنَ الحادي والعشرين بمعطياتٍ جديدةٍ من أبرزها سقوطُ الجدران بين الدولِ والشعوبِ وانتقالِ التجارةِ ووسائلِ الإعلامِ بين الدولِ والشعوبِ بسهولةٍ كبيرةٍ وبدون موانعٍ عديدةٍ وهو ما ينبئ بأن "التعاملَ مع الآخرين" سياسياً واقتصادياً وثقافياً سيكون في المستقبلِ أكبرَ وأوسعَ وأعرضَ مما كان في الماضي . ولا يُتصور حدوث هذا التعامل الكوني الواسع والعابر للحدود مع بقاءِ تراثِ الإنسانيةِ (النسبي) من عدمِ قبولِ الآخرِ . فالتعاملُ الواسع مع عدم قبول الآخر مقدمةٌ حتميةٌ للمواجهةِ والصراعِ (وربما الصدام) وليس مقدمةً للتعاونِ وتبادلِ المصالحِ والنمو . وهكذا ، يصبح قبول الآخر من زاويةٍ "قيمةً إنسانيةً" تلخص تطور مفاهيم الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان ومن زاويةٍ أُخرى "قيمةً نفعيةً" حيث يستحيل بدونها التعامل الواسع بين كافة الأطراف (وهو حقيقة مؤكدة) إلاَّ في ظلِ قيمٍ إيجابيةٍ في مجال قبول الآخر . وتكفي نظرةٌ واحدةٌ لأحوالِ أوروبا الغربية سنة 1939 وأحوالها اليوم (بعد ستين سنة) لنرى الرحلةََ الكبيرة التي قطعتها أوروبا في قبول الآخر (داخل المنظومة الأوروبية) . وهو ما يثبت إمكانيةِ إحرازِ تقدمٍ إنسانيٍّ كبيرٍ في هذا المجال بين فرقاءٍ عديدين بشرطِ توفرِ عواملٍ عديدةٍ أهمها "الإرادة السياسية" لحدوث قبول الآخر ، وهو أمر أكثر احتمالية في ظلِ النظمِ الديموقراطية وأكثر صعوبة في ظلِ النظمِ الأوتوقراطية . ولغرسِ وتدعيمِ قيمةِ قبولِ الآخرِ فوائد لا تحصى لمجتمعٍ مثل مجتمعنا المصري ، إذ تسمح له بإقامة علاقات جوار (مع الآخرين) أكثر سلمية وسماحاً بالنمو ، كما أنها تسمح له بسلامٍ داخلي لا أمل في التقدم بدونه . ولا شك أن تجارب بعض الدول المعاصرة تحت نظمِ حكمٍ شموليةٍ أذكت النعرات القومية قد خلق مُناخاً عاماً يناقض المرغوب في هذا المجال ، ولكن الصورةَ ليست مستحيلةً ، إذ أن توفرَ الإرادةِ السياسيةِ لإحداثِ التغييرِ في هذا المجال كفيلٌ باستئصالِ معظمِ آثارِ مرحلةِ النعراتِ القومية (والتي واكبها فشلٌ سياسيٌ وعسكريٌ واقتصاديٌ بلا حدودٍ أدى لبزوغ نعراتٍ أُخرى أصولية زادت الطينةَ بلة) .

ورغم أن برامج التعليم لن يكون بوسعِها وحدِها غرس وتكريس هذه القيمة الأساسية (قيمة قبول الآخر) لإنتاجِ مواطنٍ عصري قادرٍ على خلقِِ سلامٍ داخلي (مع الآخر في الداخل) وسلامٍ خارجي (مع الآخر في الخارج) إلاَّ أن دورَ برامج التعليم يبقى هو الأهم في هذا المجال وإن كانت أدوارُ الإعلامِ وأجهزةِ الثقافةِ والقدوة العامة التي تجسدها القياداتُ هي أيضاً من أركانِ تحقيقِِ المرادِ في هذا المجال . ويقتضي المنطقُ أن أذكر أن "كتابةَ هذه الأفكارِ" أسهلُ بكثيرٍ من تطبيقها لا سيما في ظل مُناخٍ عامٍ خلق كادراً بشرياً من المثقفين الرسميين الذين لا يزال عددٌ كبيرٌ منهم يؤمن بشعاراتِ حقبةِ إزكاءِ النعراتِ القوميةِ وما تحمله في طياتها من نقضٍ كاملٍ لقيِم قبولِ الآخر ، ولكن المنطق يجعلني أيضاً أقول أن معظم المثقفين الرسميين يسهل عليهم تغيير البوصلة عندما تتجه الإرادةُ السياسيةُ صوبَ هدفٍ آخرٍ - والمرجو هنا أن يكون هذا الهدف هو ترسيخ وتدعيم قيم قبول الآخر .

2) قبول النقد وتعلم النقد الذاتي:

عندما يسقط طفلٌ صغيرٌ عندنا على الأرضِ وتصطدم رأسَه بالأرضِ أو بجسمٍ آخرٍ ، فإن المحيطين به يقومون (لتهدئته) بضربِ الأرضِ أو الجسم الذي إصطدم به .... ويكون ذلك أولَ تلقينٍ واضحٍ للطفلٍ لقيمةٍ سلبيةٍ كبرى من قيم حياتنا وهي أن "شيئاً آخراً" هو دائماً المسئولُ عن كل ما يحدث لنا ولا يرضينا . وهناك عشرات بل ومئات الأمثلة لذلك ، ولكنها تغرس في الوجدان أن المسئولَ عما يحدث لنا "شيءٌ آخرٌ خارجنا" . وتكون تلك هي المادة الخام التي تُصنع منها جوانباً بالغة السلبية من جوانب تفكيرنا (المكتسب وليـس المحتوم) .. . وأبرز هذه الجوانب عدم تقبل النقد ، فكيف يقبل النقد من نشأ على الاعتقادِ بأن شيئاً آخراً هو المسئول دائماً عن الأخطاء والخسائر والمصائب . كذلك يتكون مناخٌ ثقافيٌّ عامٌ لا يكون التعود على النقد الذاتي أحد مكوناته . وأخيراً ، نكون نهباً للإيمانِ الأعمى والمطلق بنظريةِ المؤامرةِ ، والتي جوهرها أن ما يحدث لنا ولا يرضينا هو من صنعِ (أو تآمر) جهةٍ ما أخرى ، دون أن نضيع أي وقتٍ في النظرِ إلى احتمالاتٍ مسئوليتنا نحن عما حدث .

وتنتج هذه العوامل معاً مواطناً سلبياً يعتقد أن الدنيا تسيرُ وفق مؤامرةٍ عليا وأن مشاكلَ المجتمعِ وعيوبه هي من ثمارِ هذه المؤامرة وأن مصيرَه الفردي شبه محكوم عليه بمسارٍ محددٍ من جانبِ عوامـلٍ خارجيةٍ ، وكل ذلك يصنع إنساناً من الصعب تصديه لعيوبِ الواقع وعمله على تغييرها ، فتغييرُ الواقع لا يمكن تصوره بدون "إرادة التغيير" وهي حالة لا يمكن تصورها عند من لا يقبلون النقد ولا يكون النقد الذاتي أحدَ مفرداتِ عقلهم وتفكيرهم وثقافتهم وكذلك عند من يؤمنون بأن الدنيا وأحداثها تسير وفق تفاصيلِ مؤامرةٍ كبرى . وإذا نظرنا إلى نوعيةِ الجدلِ والحوارِ الذي يتم سواء بين المثقفين بصفةٍ شخصيةٍ أو على صفحاتِ الجرائدِ والكتبِ حول قضايا عديدة لرأينا بوضوح ضآلة الاستعداد لقبول النقد وانعدام القدرة على النقد الذاتي وهو ما يحوِّل الخصم في الحوار "في معظم الأحوال" إلى شيطانٍ ومجرمٍ وخائنٍ وعميلٍ ويندر في ظل ذلك أن يبقى الحوارُ متركزاً حول موضوعه الأول ، إذ سرعان ما تتسع الدائرةُ ويصبح الرفضُ لا لفكرةٍ طرحها فلانٌ وإنما يتحول الرفضُ إلى رفضٍ كلي لفلانٍ هذا وعقلِه وتفكيرِه وأخلاقِه وكل ما يمكن الوصول إليه من جوانبِ حياته .

وفي ظل تواري قيمةِ قبولِ النقدِ وعدم التدرب على النقدِ الذاتي والإيمانِ بالمؤامرةِ وجد مناخٌ ثقافي قُتل فيه فرج فودة وطعن في عنقه أحد أكبر أسباب فخر مصرَ وهو الأديب الفذ الأستاذ/ نجيب محفوظ وتطاول أطفال (من الناحية الثقافية) على طه حسين (ذلك الشمس التنويرية التي أشرقت في سماء حياتنا لأكثر من نصف قرن) وصودرت كتبٌ يَشعر الإنسانُ بالعارِ عندما يكون من بينها كتاب "النبي" لجبران خليل جبران وتم جلد (معنوي) لرجل اجتهد (وربما أصاب وربما أخطأ) هو الدكتور/ نصر أبو زيد وأُلقيت أكوام من الحجارةِ على كاتبٍ آخر هو الأستاذ/ علي سالم لأنه كانت لديه شجاعة أن يكون مختلفاً .... إلى آخر الأمثلة العديدة لقروحٍ في حياتنا الثقافية ما هي إلاَّ ثمار مباشرة لشيوعِ قيمٍ سلبيةٍ مثل عدمِ قبولِ النقدِ والتكوينِ الفكري بمعزلٍ عن قيمةِ النقدِ الذاتي ثم الوصول إلى "الإيمان المطلق بالمؤامرةِ" والذي يجعل البعض يمسك في يديه الحجارة بدلاً من القلم .

3) ترسيخ الموضوعية:

الإنسان بطبيعته أكثر ميلاً للشخصانية عن الموضوعية أي أن ينظر للأمور من خلال شعوره وعلاقته بها أكثر من أن يكون متجرداً من ذلك وينظر للأمور من خلال معايير وضوابط تبعد كثيراً عن ذاته وتقترب أكثر مما يُظَن أنه المنطقُ والصوابُ (رغم نسبية هذه المفاهيم أيضاً) . ولكن مسيرةَ التمدنِ الإنساني (وهي مسيرة يمكن وصفها لحدٍ بعيد أنها لا تنتمي لجنسٍ واحدٍ أو حضارةٍ واحدةٍ أو مكانٍ واحدٍ) هذه المسيرة دفعت العقلَ الإنساني (لا سيما في المجتمعاتِ الأوفر نصيباً من التعليم والثقافة) إلى الاقترابِ من رصيف الموضوعية (نسبياً) والابتعاد عن رصيف الشخصانية أو الذاتية (نسبياً أيضاً) . ولكن الواضحَ أن الشعوبَ التي حظت بحياةٍ ديموقراطيةٍ استقرت ونمت (ولا أقول اكتملت) كان لها نصيبٌ أوفر (نسبياً) من إتسام التفكير بالموضوعيةِ أما الشعوبُ التي لم تسمح لها ظروفُها بحياةٍ ديموقراطيةٍ مستقرةٍ وناميةٍ فقد استفحل فيها البعدُ في التفكيرِ عن الموضوعية . واتسامُ التفكيرِ بالموضوعيةِ ليس صفةً بيولوجيةً لجنسٍ دون آخر وإنما هو نتيجة مكتسبة لمرانٍ وتدريبٍ وتعليمٍ وتثقيفٍ يُعطي لقيمةِ الموضوعيةِ حقَها من الإكبار والاهتمام – لا على سبيل الترف الفكري وإنما لفائدتها العملية القصوى على كل المستويات . ومن المؤكد أن برامج التعليم والثقافة والإعلام والمنابر المهمة الأخرى (ومنها من الناحية النظرية المنابر الدينية) بوسعها العمل على تأصيلِ درجةٍ أعلى من الموضوعيةِ ، وإن بقت الحقيقةُ الكبرى متمثلةً في أن نمو واستقرار واتساع وتأصيل الديموقراطية هو المنتج الأكبر لمناخٍ ثقافيٍّ عام يمكن أن تزدهر فيه الموضوعيةُ . وهنا فإنني أتحدث عن ديموقراطيـةٍ حقيقيةٍ وليس "أُطر ديموقراطية" في ظل "منظومة أوتوقراطية" .

 

4) تدعيم روح الفريق:

خلال نحو عشرين سنة أمضيتها في مؤسسة دولية (متعددة الجنسيات) كان العاملون فيها ينتمون لأكثر من سبعين جنسية راقبت عن قربٍ عدم قدرة أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين على العمل ضمن فريق . فحتى المتميزين منهم يجنحون للعمل منفردين ، أما إذا وضعوا ضمن فريق (مع آخرين) فسرعان ما يظهر عدمُ الانسجام والانشقاقُ وأحياناً كثيرة الانسحابُ من الفريق . وقد أتاحت لي هذه السنوات أن أُرجع هذا العيب لسببٍ رئيسي وأسباب أخرى فرعية . أما السببُ الرئيسي ، فيتمثل في أن الإنسانَ المصري يمضي كل سنوات التعليم وهو جالس على مقعدِ المتلقي . فهناك مـدرسٌ ثم أستاذ يقوم بالشرحِ ، أما التلميذُ أو الطالبُ فيقوم بدورِ المتلقي . وقد لاحظ المصريون الذين التحقوا بجامعات غربيةٍ وبمعاهدٍ عليا للتدريبِ أن الإنسان الغربي في هذه الجامعات والمعاهد (وقبل ذلك في المدرسة) يعتاد على تقسيمِ الفصل إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ يُعهد لكل مجموعةٍ منها بدراسةِ موضوعٍ أو مسألةٍ ثم يعودون بعد العمل كمجموعةٍ ليقدم أحدُهم (نيابةً عن المجموعةِ) حصيلةَ الجهدِ المشترك . ويحدث ذلك في المدرسةِ ثم في الجامعةِ أو المعهدِ ثم في كلِ برامج التدريبِ والتي تتواصل حتى بالنسبةِ لكبارِ المسئولينِ في أيةِ مؤسسةٍ صناعيةٍ أو اقتصاديةٍ . وهنا يبرز الفارقُ الكبيرُ بين دورِ المتلقي الذي ينتهي بامتحانٍ يتحمل فيه كلُ إنسانٍ نتيجةَ عمِله وبين العملِ الجماعي الذي يتأصل منذ صغر السن ويعتاد الإنسانُ عليه وعلى نتائجه (أي النجاح الجماعي أو العكس) . وإلى جانب ذلك ، فإن عدمَ رغبةِ الكثيرين عندنا في تحملِ نتائجِ المسئولية أصلاً تزيدُ من رفضهم لفكرةِ العمل الجماعي ، فإذا كان الإنسانُ لا يُحب أن يُسأل عن نتيجةِ عملِه الفردي فكيف يقبل أن يُسأل عن نتيجة عمل جماعي اشترك فيه ؟؟ وإصلاحُ هذا الجانب السلبي (بدرجةٍ كبيرةٍ) ممكنٌ من خلال إدخالِ فكرةِ العملِ الجماعيِ وتقسيم التلاميذ والطلاب إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ تعمل معاً كفريقٍٍ واحدٍ كأساسٍ من أُسسِ العمليةِ التعليميةِ . ومما لاشك فيه أن فقَرنا الشديد للأساليب الإدارية العليا العصرية يُساعد على تفاقمِ هذا الجانب السلبي ، فالرئيسُ الشرقي (في العمل) والذي لا يمت بصلةٍ في معظمِ الحالاتِ لنمطِ المديرِ التنفيذي العصري لا يمتلك القدرةَ على بثِ روحِ الفريق ، بل أنه في أغلبِ الحالاتِ يعملُ على تفريقِِ العاملين وجعل اتصالاته بكل منهم مباشرة إما لعدم تكوينه تكويناً سليماً من الناحية الإدارية وإما لاعتقادِه أن ذلك يكفلُ له قدراً أكبر من السيطرةِ على التنظيـمِ . كذلك ، فإن بعدنَا لسنواتٍ عن التواصلِ (في العملِ والصناعةِ بالتحديدِ) عن العالم الخارجي جعلت أعداداً كبيرة منا لا تدرك القيمةَ المُضافة للعملِ الجماعيِ حيث تتم الاستفادةُ من أشكالٍ مختلفةٍ من الذكاءِ والخبرةِ والشخصيةِ والخلفيةِ والتعليمِ ، وهو ما يُثري العملَ بشكلٍ كبيرٍ .

5) غرس قيمة حب الإتقان:

تُعاني معظم المجتمعات التي عرفت مرحلةً طويلةً من الاقتصادِ المركزي (الاشتراكي) من إنهيارٍ حادٍ في قيمةِ الإتقانِ والتي تميّز المجتمعات السائرة على طريق التقدم . والاستثناء الوحيد في هذا المجال يوجد في جنوب شرق الصين الشعبية بسبب القرب من نماذج عملاقةٍ لمجتمعاتِ الإتقانِ (مثل هونج كونج وتايوان واليابان) وكذلك لسهولةِ التحولِ إلى روحِ الإتقانِ عند شعبٍ مجبولٍ على حبِ وتقديسِ العملِ الجماعي . إلاَّ ان الظاهرةَ تبقى واضحةً ، ففي ظل النظم الاقتصادية الاشتراكية تخفت المنافسةُ وتوجد درجةٌ عاليةٌ من الحمايةِ للمنتجاتِ والخدماتِ المحلية مما يقلل من الدافعِ للإتقان . ورغم أن هناك شعوب تميلُ للإتقانِ أكثر من غيرها (مثل الشعوب الجرمانية) إلاَّ أنه لا يوجد أي دليلٍ علمي على أن لذلك تفسير عرقي أو بيولوجي . بل أن التفسيراتِ التاريخيةِ تبدو أقوى بكثير مما يجعلنا نجزم بأنها (مزايا مكتسبة) وليست (مزايا فطرية) . ولا سبيل لتعميقِِ الدافعِ للإتقانِ إلاَّ بالمزاوجةِ بين اقتصادِ السوقِ (القائم على الشكل المؤسسي وليس شركاتِ الرجلِ الواحد) وبين التعليمِ الذي يسعى (ضمن ما يسعى إليه) لتلبيةِ احتياجاتِ السوقِ من التعليمِ والتخصصاتِ والمهاراتِ .

 

6) تأصيل الشعور بعالمية المعرفة:

سواء رفض الإنسانُ الظاهرةَ التي تسمى بالعولمةِ أو إعترفَ بها كأمرٍ واقعٍ فإن المؤكدَ أن انتقالَ المعلوماتِ والمعارفِ والأفكارِ والاختراعاتِ بل ونظمِ الإدارةِ والتسويقِِ عبر حدود الدول بدون عائقٍ سيكون من أهمِ معالمِ المستقبل . ويعني ذلك أنه لن يكون بوسعِ أحدٍ أن ينشد التقدم والنجاح الاقتصادي دون أن يكون منفتحاً على كل ما لدى الآخرين من تطوراتٍ تكنولوجية وأفكارٍ ونظمٍ . ويستلزم ذلك أن يكون الإنسان مهيئاً من صغر سنه ومن سني تعليمه الأولى لقبولِ حقيقةِ عالميةِ المعرفةِ وأن الانغلاقَ على الذات سيكون ضرباً من الانتحار للمؤسساتِ والمجتمعاتِ .

ولا شك أن النظامَ التعليمي الياباني هو الرائدُ في هذا المجال ، فهو نظامٌ تعليميٌ يُعد الإنسانَ الياباني للبحثِ عن كل أشكالِ المعرفةِ في أي مكانٍ وألاَّ يكون مجالُ ذلك العلوم التقنية فحسب بل كل شيء من نظمِ الإدارةِ لأفكارِ التسويق لصيحاتِ الموضة في الملابس إلى الفنِ والثقافةِ وغيرهما . فعن طريق هذا الاستعداد المغروس في الإنسان الياباني يكون دائماً قادراً على التطويرِ والتعليمِ واكتسابِ المعارفِ والتقنياتِ والخبراتِ الحديثةِ .

 

والمؤكد ، أن هذا الانفتاحَ على العالمِ والإيمانِ العميقِ (والمطبق علمياً) بعالميةِ المعرفةِ لم يكن على حسابِ الخصوصياتِ الثقافيةِ اليابانيةِ ، وهو هاجس يصيب البعض عندنا بالرعبِ من فقدانِ الذات ، وهو رعبٌ وهميٌّ ، بل أنني أجزم أن الذين سيفقدون الذات أي سيفقدون خصوصياتهم هم الذين لن ينفتحوا على العالم ويقبلوا – بإيمانٍ – كل ما تعنيه عبارةُ "عالمية المعرفة" .

7) إقامة التوازن بين الانتماء للماضي والحاضر والمستقبل:

يقول عملاقُ الأدب العربي عباس العقاد:

أجدادكم إن عظموا وأنتم لم تعظموا فإن فخ َ ركم بهم عارٌ عليكم مبـرمُ .

وهي رسالة على الكثيرين منا أن يعوها . فثقافتنا المعاصرة تشهد خللاً كبيراً بين تقديس الماضي (والصواب أن نعرف الماضي لا أن نقدسه) وبين الاهتمام بدورنا الآتي والمستقبلي بين شعوب العالم . وهو خلل يتعاظم فيه تقديسُ الماضي مع عدمِ اهتمامٍ مماثلٍ بالدورِ الذي نلعبه في الحاضر والدور الذي سنلعبه في المستقبل في كل المجالاتِ (العلوم والفكر والأدب والفن والرياضة الخ) . ولا شك أن الإعلامَ الحر هو القادر (مع غيرِه من المؤسساتِ) على إقامةِ هذا التوازن الضروري بين "الفخر بالماضي" (وهو من حقنا) وبين الشعور ِ بأن من مقتضيات ِ المنطق ِ أن يكون فخرُنا بدورٍ حالي نلعبه على مسرح ِ العالم ِ محل َ اهتمامن ِ ا بنفسِ قدرِ اهتمامنا بالفخرِ بالماضي .

8) تأصيل الشعور بالمسئولية :

أشرت في النقطةِ الثانيةِ من نقاطِ هذا المقال إلى كيف استشرى في عقلنا الشعورُ بمسئوليةِ الغيرِ دائماً عن كل ما يحدث ؛ وأوضحت عواقبَ ذلك وسلسلة النتائج التي تنجم عنه . ومن زاويةٍ مغايرةٍ تماماً أقول أن علينا أن نعمل من خلال تعاونٍ منظمٍ بين برامج التعليم والشباب والإعلام والثقافة على خلقِِ شعورٍ قويٍّ عندِ الفردِ بأنه على النقيضِ "مسئولٌ" بالمعنى الإيجابي والسلبي لهذه الكلمة . مسئول – إيجابياً – عن صنع نفسه وصياغة حياته ومسئول – سلباً – عن كل ما يحدث له في الحياةِ من جراء عدم كونه تنافسياً بالقدر اللازم . وإذا كانت المبالغةُ تفيد أحياناً في إيصال الرسالة المقصودة ، فإنني أدعو القراء لمقارنة درجة الشعور بالمسئولية عند المواطن الياباني والذي يمكن أن تأخذه الانتحار إذا بلغ تقصيره في عمله حداً بعيداً وبين "ثقافة معلهش" التي تعم لدينا.

 

إن كل برامج التعليم والشباب والإعلام والثقافة مطالبة بأن تُرسخ في وجدان الإنسان المصري منذ سني حياته الأولى تلك الفكرة التي أثارت إعجابي منذ ربع قرن عندما كنت مولعاً بقراءة أعمال الفيلسوف الفرنسي سارتر والتي جوهرها أن الإنسان هو الذي يصنع غده .. . وما أبلغ العبارة التي قالها كاتب وجودي آخر عندما قال (لا يوجد شيء اسمه المستقبل ، فالمستقبل هو ما نصنعه اليوم في مطبخ الزمن الراهن) .

 

وإذا كان من الطبيعي في ظل نظم الحكم الشمولية أن يتلاشى شعورُ الإنسان بأنه مسئولٌ عن صياغةِ الحياة (لأن غيره يقوم بذلك نيابةً عنه) فإن الحياةَ في ظل الديموقراطية (أو في ظل السعي لاستكمال الديموقراطية) تحتاجُ لإنسانٍ ذي شعور مختلف تماماً بالمسئولية .

 

ومن المهم أن يكون واضحاً أن طولَ عهودِ الناسِ بالاستبدادِ هو السببُ الأول وراء تقلص الشعور بالمسئولية ، فهذا الشعور مرهون بالشعور بقدرة الإنسان على التأثير في مسار الأشياء ولو قليلاً ، أما عندما يعم الشعورُ بعدم جدوى وأثر رأي الإنسان ، فإن الشعور بعدم المسئولية يستشري بلا حدود .

9) ترسيخ الإيمان بأن "التعددية" تثري الحياة:

الاختلاف في الجنس والعرق والدين والحضارة والثقافة والفكر والعادات وأساليب الحياة والتفكير هو جزء أساسي من نسيج الحياة البشرية . وهو أيضاً مصدر ثراءها وخصوصيتها . وبدون ترسيخ الإيمان بذلك في عقول الناشئة من الصغر وبشكل إيجابي يؤَصل أن الاختلافَ لا يعني التفاضل فإننا نكون بصدد عقول سيصعب عليها بعد سنواتٍ قليلةٍ أن تتعامل مع عالمٍ لا مجال فيه لمن لا يحترمون – بعمقٍ – تعددية الحياة وما يعنيه ذلك من قيم أخرى تكلمت عن بعضها في هذا المقال مثل قبول الآخر وقبول النقد والنشأة على القيام بالنقد الذاتي والقدرة على التعامل مع ظاهرة عالمية المعرفة والاقتصاد الطاغية في هذا العصر والتي ستستفحل في المستقبل .

 

10) الإعجاب بالعظمة بكل أشكالها:

ذكرت في مقالٍ حديثٍ لي عن الدكتور/ أحمد زويل أهمية أن نغرس في نفوس الصغار في هذا المجتمع الإعجاب بالعظمة الإنسانية (المصرية وغير المصرية) في كل صورها وأشكالها . وقلت أن من الواجب علينا أن نملأ مياديننا العامة بتماثيل النابغين وأن نغرس من الصغر (من خلال برامج التعليم) حبَ العظمةِ في النفوسِ ، لأن الشعوبَ التي لا تفعل ذلك تفقد العديد من أبناءها الموهوبين والذي لا يُكتَشَفون لأن المناخ العام لا يعمل على شحذ همم العديد من أبناءه ليقتدوا بأمثلةٍ ظاهرةٍ أمامهم للنبوغ والعظمة .

كانت تلك أهم القيم التي علينا أن نهتم بغرسها في العقول والنفوس (ولا سيما عقول ونفوس الصغار) إذا كنا نريد أن يكون وراء برامج الإصلاح المختلفة "إنسانٌ" قادرٌ على صنعِ مكانةٍ بارزةٍ لمصرَ تحت شمسِ المستقبلِ .