السياسة العالمية .. بين المبادئ والمصالح .

منذ قرابة ثمان سنوات كان أَحد أبرز الشخصيات العامة المصرية يسعى للوصول لمنصب دولي رفيع للغاية . وكان هذا الشخص (صاحب المحصول الأكاديمي النادر في ثراءه واتساعه) على يقين من موقف الحكومة الفرنسية والذي مؤداه التأييد القوي والكامل لترشيحه لهذا المنصب الرفيع . كذلك كان على درجة عالية من التأكد من مناصرة بلدان أخرى ذات وزنٍ كبيرٍ له مثل روسيا وألمانيا والصين والعديد من الدول المنتمية للمجموعة الأفريقية ودول العالم الثالث . ولكنه كان بالغَ القلق تجاه موقفين هامين هما الموقف البريطاني والأمريكي (أي الموقف الأنجلوسكسوني) . ونظراً لوجود معرفة شخصية بيننا ، ونظراً لأنني كنت – وقتئذٍ – أشغل موقعاً إدارياً متقدماً في مؤسسة اقتصادية انجلوسكسونية يصح وصفها بأنها كانت عندئذ أكبر مؤسسة اقتصادية أوروبية وبريطانية وأحد أكبر ثلاث مؤسسات اقتصادية في العالم . نظراً لذلك ، فقد تفضل الأستاذ الجليل بدعوتي للحوار معه حول الموقفين البريطاني والأمريكي وللحديث تفصيلاً عن إمكانيات تأثير المؤسسات الاقتصادية العملاقة على آليات (أو مطابخ) صنع القرار في بريطانيا والولايات المتحدة . وأدت هذه الدعوة للحوار إلى العديد من الاتصالات واللقاءات التي كانت تحاول المساهمة المتواضعة في إنجاح جهود شخصية مصرية مرموقة وبالغة التمّيز للوصول لموقع دولي رفيع للغاية (وإن كان نجاحه في النهاية في الوصول لهذا الموقع الرفيع قد جاء كنتيجةٍ طبيعيةٍ لصفاته ومزاياه النادرة وليس كنتيجةٍ لأي دورٍ بُذل في مساندةِ ترشيحه) .

وقد لمست خلال تلك اللقاءات والاتصالات وما صاحبها من تعمقي في دراسة السيرة الذاتية بالغة الثراء لصاحبها وكذلك مطالعتي للعديد من أعماله الأكاديمية والفكرية ، لمست أن هذه الشخصية الفريدة (مثل كل شخصية إنسانية) لها جوانب قوة عديدة وبعض جوانب الضعف . فقد لمست عمق وقوة واتساع وثراء تكوينه العلمي وبمحاذاة ذلك تكوينٌ ثقافي مماثل في عمقه وقوته واتساعه وثراءه .. ولكنني لمست أيضاً أن تكوينه جاء ثمرةً لتيارين ثقافيين هما التيار اللاتيني بوجه عام (والفرنسي بوجه خاص) والتيار العربي/المصري (بحكم انتماءاته وجذوره) . ولكنني لمست في المقابل أنه يعامل الحضارة الغربية ككلٍ ثقافيٍّ واحدٍ .. وهو ما كانت تجربتي الثقافية والعملية قد قادتني لعكسه تماماً . فالأستاذ الجليل الذي كانت الثقافة اللاتينية هي المكوّن الأساسي في بناءه الفكري والثقافي لم تبدر منه خلال العديد من اللقاءات والاتصالات ما يدل على وضوح حقيقة كبيرة أمامه وهي أن العقل البريطاني والأمريكي أي العقل الأنجلوسكسوني يختلف اختلافاً كلياً عن العقل اللاتيني . وأن فهم كل منهما للأمور ينبع من نقاط مختلفة ويتجه إلى غايات مختلفة . وقد دفعني وقوفي على تلك الملاحظة إلى توجيه رأي متواضع ينصحه بعدم بذل أي جهود من أجل تغيير الموقف البريطاني .. لأن ذلك ببساطة لن يحدث . فالموقف البريطاني لا يُؤسس على أرضية كتلك التي يُؤسس عليها الرأي الفرنسي . ومن الناحية الواقعية ، كان الرأي البريطاني قد أُسس بالفعل ، وحسب معرفتي وتعاملاتي الطويلة مع العقل البريطاني ، فإنه من شبه المستحيلات أن يغيّر العقل البريطاني اختياراته التي كونها بالفعل في "مطبخ المصالح" لا في مطابخ الثقافة والعلم والحجة والمنطق . وفي نفس الوقت ذكرت أن العقل الأمريكي وإن كان رافداً من روافد العقل الانجلوسكسوني إلاَّ إنه أقل "انجلوسكسونية" من العقل البريطاني ، كما أن الواقع يساعدنا لأن الإدارة الأمريكية لم تعلن بعد موقفها وهو ما يسمح بقدرٍ معقولٍ من حريةِ الحركةِ . وأذكر أنني كررت للأستاذ الجليل الذي يدور هذا الحديثُ حوله أنه من الضروري تذكر تاريخ وجذور الانجلوسكسون وحقيقة إنحدارهم من أصول معينة من أقصى الشمال الأوروبي للتيقن من أنهم مختلفون كلية عن أحفاد اليونانيين والرومان أي الشعوب اللاتينية ، والتي تولي اهتماماً للمنطق إلى جوار المصلحة .

وفي يومٍ من أيام شهر ديسمبر 1991 تقلد الأستاذ الجليل المنصب الدولي الرفيع وشعر ملايين المصريين بفخرٍ واعتزازٍ شديدين يماثلان شعورهما قبل ثلاث سنوات (أي في 1988) عندما أُعلن عن منح جائزة نوبل للأدب للروائي المصري العبقري الأستاذ نجيب محفوظ .

ولم يكد العام الأول من ولاية الأستاذ الجليل يمر حتى بدأنا نقرأ مقالات كبار كتاب أبرز الصحف والمجلات السياسية الأمريكية والتي تحمل النقد للأستاذ ولأسلوبه في العمل والإدارة . ومع مرور الوقت ، تأكدت أن "المدرسة الانجلوسكسونية" سائرةٌ في طريق الصدام مع الأستاذ الجليل . وكانت المقالاتُ التي تُنشر والأحاديثُ التي تُذاع وما يردده دبلوماسيو بريطانيا والولايات المتحدة يؤكد لي أن الصدام قادمٌ لا محالة - فقد كانت سنوات تعاملي الوثيق مع العقل الانجلوسكسوني قد كشفت لي الطرق التي يبدأ بها الخلاف والتعبيرات التي تعبر عنه وتمهد للصدام في شكلٍ تصاعديٍ يندر أَلاَّ يكمل رحلته للنهاية . وعندما اقتربت ولايةُ الأستاذ الجليل من عامها الخامس والأخير - كانت الأمورُ واضحةً أمام عينيّ بشكلٍ لا يعتريه أي غموض : فالمطبخ السياسي الأمريكي (والبريطاني) والذي هو أعلى مراتب العقل الانجلوسكسوني لن يسمح إلاَّ بإنهاء باتر لولاية الأستاذ الجليل – وكنت على يقينٍ أن احتمالات "إصلاح ذات البين" معدومةٌ تماماً – لأن العقل الانجلوسكسوني لا يفهم معنى "إصلاح ذات البين" ولكنه يفهم معنى "المصالح" و"القوة" وكما يقول المثل البريطاني "تكلم بلطف وأمسك في يدك عصاً غليظة" . وجاءت أحداث سنة 1996 لتثبت لي أن الجانبين "الأستاذ الجليل والانجلوسكسون الذين يحكمون العالم المعاصر بما فيه الصرح الذي كان الأستاذ الجليل يقوده – أو يحاول أن يقوده - لمدة خمس سنوات" أقول جاءت أحداثُ تلك السنة لتثبت لي أن الجانبين ينتميان لمناهج تكوين عقلي وثقافي مختلفة اختلاف الليل عن النهار . وأن الرفضَ الانجلوسكسوني لم يكن منبعُه أن الأستاذ الجليل عربيٌ أو مصريٌ أو إفريقيٌ وإنما كان منبعه الأول والأخير أن الأستاذ الجليل يفكر ويتصرف ويدير مؤسساته بشكلٍ لا يفهمه (ولن يفهمه) العقل الانجلوسكسوني . كذلك غاب عن البعض أن المحصول التعليمي الرائع والتكوين الثقافي الثري والتراث الأكاديمي النادر للأستاذ الجليل هي أمور لن تشفع له عند العقل الذي يرى في ذلك مجرد أَدوات (ولا شئ إلاَّ أَدوات) لتدعيم المصالح والقوة . وعندما انتهيتُ منذ أيام من مطالعة الكتاب الذي وضعه الأستاذ الجليل في نيف وأربعمائة صفحة عن سنواته الخمس في ذلك الموقع الرفيع – إنتابني شعورٌ قويٌ بالأسى وأنا أتابع في كل صفحةٍ دليلاً جديداً على أن الصدامَ كان حتمياً وأنه لم يكن له من سبب إلاَّ تصوري الأول والذي فحواه أن صدام الأستاذ الجليل (بسبب تكوينه الفذ خارج المطبخ الانجلوسكسوني) ورأس القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم كان أمراً لا يمكن تجنبه .

 

 

ورغم إعجابي العميق بتفرد الأستاذ الجليل وبحر علمه المتلاطم ودنيا ثقافته الرحبة ، فإن ذلك لا يمنعني من أن أقول أن تجربتي الخاصة للغاية مع العقل الانجلوسكسوني (والمنحدر من الفايكنج الغزاة شاربي الدماء) قد دلتني بوضوحٍ تامٍ أن التعامل مع القوى الانجلوسكسونية لا يمكن أن يخرج عن واحدةٍ من الحالاتِ أو الأنماطِ الثلاثِ التالية :

•  الصدام والمواجهة معها ؛ وينته هذا النمط عادة بنهايات تشبه ما حدث للاتحاد السوفيتي وصدام حسين ورئيس الدولة الأمريكية الوسطى الذي ألقت القوات الأمريكية القبض عليه وهو في عاصمةِ دولته ولا يزال مودعاً أحد سجون أمريكا وكذلك الرئيس اليوغوسلافي ميلوسوفيتش – وهناك عشرات الأمثلة الأخرى التي لا يكاد يجهلها أحدٌ .

•  أن يعرض الإنسان أو تعرض مؤسسه أو دولة خدماتها وهي مستسلمة بالكامل لإرادة القوى الانجلوسكسونية – وهنا فإن السيد الانجلوسكسوني المنحدر من أصول ذات أثرٍ بالغ القوة على تكوينه وأنماط تفكيره لا يقبل إلاَّ إعطاء الفتات لمن عرض "دور الخادم" . وهناك أمثلة لا حصر لها لدول ومؤسسات وأشخاص قاموا بدور "الخادم" للسادة الانجلوسكسون ولم يكن مقابل ذلك إلاَّ "أجر محسوب بدقة" وغالباً ما يكون أَجراً متواضعاً .

•  أن يخلق الطرفُ غير الانجلوسكسوني لدى الطرفِ الانجلوسكسوني احتياجاً كبيراً للطرف الأول ثم يجيد (بمهارة وببعد كامل عن اعتبارات الصداقة والود والعاطفة التي يعرف العقلُ الانجلوسكسوني أقلَ القليلِ عنها) تسويق دوره والذي يكون محققاً لمصالحه هو بقدر لا يقل أهمية عن توافقه مع مصالح (أو بعض مصالح) الطرف الانجلوسكسوني .

كانت تلك بعض الشجون التي آثارها في عقلي ونفسي كتابُ الأستاذ الجليل عن سنواته الخمس في منظمة دولية خُيل له (بحكم تكوينه العقلي الفلسفي والتاريخي اللاتيني والعربي الرائع) أنها بالفعل منظمة دولية يملك الكل أنصبةً متساويةً فيها ، وغاب عنه أن هذه المنظمة يقوم مقرها الرئيسي على تراب أكبر مدينة انجلوسكسونية في العالم ، وأن القوة التي تدير الدولة التي تتبعها هذه المدينة مكّونة عقلياً وثقافياً تكويناً لا يسمح لها بأن ترى إلاَّ أن هذه المنظمة مجرد "ذراع" لوزارة الخارجية الخاصة بهذه الدولة . كما أن رجال (ونساء) إدارة هذه الدولة لا يفهمون كيف يتكلم أحد الناس دون أن تكون وراءه "قوة" تناسب "حجم ما يقول" .

ويبقى سؤالٌ هامٌ هو .. لماذا كُتب هذا المقال ؟ .. أكتب للتعليق عن تجربة الأستاذ الجليل وكتابه الأخير ؟ .. الجواب : قطعاً "لا" .. فما لهذا قصدت وإنما لأُسلط الضوء – في هذه المرحلة الخاصة من مراحل تطورنا – على الأنماط الثلاثة المتاحة للتعامل مع القوة الانجلوسكسونية (والتي تحكم عالم اليوم) وعواقب كل نمطٍ منها وأَن أُحذر من مغبة النمط الثاني بنفس القدر الذي أُحذر به من مغبة وسوء عاقبة النمط الأول .