الإنتخابات ليست هي "معادل الديمقراطية".

أكتب – منذ سنوات – (بالعربية وبالإنجليزية) لدعوة العقول المعنية بالتقدم والإصلاح (في مصرَ) لإدراك الحقيقة البسيطة الواضحة والمتمثلة في أن (الإنتخابات)هي الجزء المتمم للمنظومة الديمقراطية ولكنها ليست (كل الديمقراطية). وقد تناولتُ (في مقالات عدة) هذه الظاهرة من جوانب مختلفة. وجوهر هذه الكتابات أن الديمقراطية ليست مقصد الناس في حد ذاتها وإنما هي أفضل الآليات التي توصل إليها العقل الإنساني لتوفير حياة سياسية أسلم من سائر الصيغ الأخرى.

 

كذلك كتبتُ (أكثر من مرة) عن إمكانية أن تؤدي الإنتخابات إلي وصول أعداء اليمقراطية للحكم في بعض الحالات (وأشهرها حالة وصول هتلر للحكم في ألمانيا في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين عن طريق الإنتخابات ثم قيامه بعد ذلك بتدمير الديمقراطية في ألمانيا ثم الفتك بالبشرية في أكبر حرب في تاريخها).

 

وما أريدُ أن أضيفه اليوم ، هو أن مراكز دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة وأوروبا منشغلة اليوم إنشغالاً عميقاً بسؤال بالغ الأهمية هو: هل يُحتمل أن يؤدي تطبيق الديموقراطية في بيئات غير ديموقراطية لوصولِ تياراتٍ سياسيةٍ متطرفةٍ للحكم .. أم لا ؟ … وهل يقتضي الإيمان بالديموقراطية التسليم بذلك أي بوصولِ تلك التيارات المتطرفة للحكم؟ والحقيقة أن السؤالَ (رغم ذيوعه) يعكس هزالاً شديداً في فهم الكثيرين للديموقراطية. فالديموقراطية تعني حدوث ثلاث عمليات أساسية – أما العمليةُ الأولى فهي مجيء الحكام للسلطةِ بطريقةٍ ديموقراطية … وأما العملية الثانية فجوهرها أن يمارس الحكام الحكم وهم من جهة في حالة إلتزام كامل بالقواعد الدستورية والقانونية وأن يكونوا من جهةٍ ثانيةٍ قابلين للمحاسبة ( Accountable ) … وأما العملية الثالثة فهي أن يتركوا السلطة بطريقةٍ ديموقراطيةٍ . وهذه العمليات الثلاث التي من توفرها وإكتمالها وعملها تتوفر الحياةُ الديموقراطية لا ترتبط فقط بصندوق الإنتخابات ولكنها ترتبط أساساً بوجودِ منظمات المجتمع المدني من جهةٍ وتوفر آليات الحياة والممارسة الديموقراطية من جهةٍ ثانية. وهكذا فإن صندوق الإنتخابات ليس إلاَّ جزء صغير من عمليةٍ أكبر هي توفر المناخ الديموقراطي والذي يوجد بوجود العمليات الثلاث التي أشرت إليها وبتوفر آليات ومنظمات وتنظيمات المجتمع المدني من جهةٍ ومؤسسات العمل الديموقراطي من جهةٍ أخرى. وأعتقد أن المؤمنين حقيقةً بالديموقراطية يفهمون الصورة بتلك الكيفية: فيبذلون الجهود من أجل خلق وتفعيل مؤسسات وآليات العمل السياسي الديموقراطي ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والقاسم المشترك بينهما هو (المشاركة المؤسسية) وهو ما سوف يؤدي لتوفر الآليات الثلاثة الكبرى للديموقراطية وهي مجيء الحكام بطريقة ديموقراطية، وممارسة الحكام للحكم بطريقة ديموقراطية، وترك الحكام للحكم بطريقةٍ ديموقراطية . وفي المقابل فإن الذين ينظرون للديموقراطية كأداةٍ ستمكنهم من الوصول للحكم ثم بعثرة وإفناء مكونات ومؤسسات ومنظمات وفعاليات الديموقراطية فإنهم يركزون على صندوق الإنتخابات لاسيما وأنهم يعلمون أنه في ظل مناخِ عدمِ النجاحِ بوجهةٍ عام في إدارة مجتمعاتهم وفي ظل شيوع الإحباط والتذمر من أوجه الخلل العديدة والضيق العارم بمزايا محتكري السلطة والألم الشديد من شيوعِ الفسادِ فإن صندوق الإنتخابات قد يأتي في الأرجح بهم لأنهم أصحاب شعارات مناوئة لكل معطياتِ الواقع السلبية – وإذ كان من المؤكد أنهم من جهةٍ لا يملكون عناصر الكفاءة القادرة على تحقيق النجاح المنشود كما أنهم من جهة أخرى سوف يدمرون مكونات المناخ الديموقراطي ويكونون هنا مثل عازف يجلس وسط جوقة موسيقية ويقوم بعد توليه قيادة الجوقة يتمزيق النوتة الموسيقية – فإنه بوسعنا أن نوافق على أنه من السذاجة تركيز الإهتمام بمسألة صندوق الإنتخابات بمعزل عن العناصر الأخرى الأكثر أهمية والتي ذكرتها آنفاً.

 

إن حالة المجتمعات الشائعة في العالم الثالث والتي تعاني من مشكلات سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وتعليمية وإعلامية طاحنة بسبب غياب الديموقراطية ووجود عددٍ كبير من أصحاب الكفاءات خارج الملعب وانتشار قيم الشخصانية والولاء الشخصي والنفاق لا تستلزم التركيز على صندوق الإنتخابات ونتائجه ولكنها تستلزم التركيز على وضع سياسيات وبناء منظمات وآليات الحياة الديموقراطية وتفعيل دور المجتمع المدني على أن يسير في موازاة ذلك عملٌ دؤوب ل لإصلاح السياسي والإصلاح الإقتصادي وإصلاح التعليم ونقل وتطوير المؤسسات الإعلامية من النمط الجوبلزي (نسبة لجوبلز وزير إعلام هتلر) إلى النمط الحديث للمؤسسات الإعلامية – إن كل هذا وهو ما أسميه "الإصلاح المخطط له" Engineered Reform هو أهم عملية سياسية يقوم بها نظام يتوخى عدم إتجاة الأمور إلى الفوضى أو سقوطها في يد تيارات متطرفة لن يأت على يدها إلاَّ الخراب والظلام والتخلف والتأخر – وهذه العملية التي تسمى بالإنجليزية Engineered Reform مضمونة النجاح وربما خلال عقد واحد إذا مورس عمل دؤوب متسم بالكفاءة في المجالات التي أشرت إليها وأعود فأوجزها مرة أخرى :

•  وضع السياسات وخلق آليات ومنظمات العمل السياسي الديموقراطي بشكل مؤسسي.

•  خلق الإطار الأمثل لنمو مؤسسات المجتمع المدني التي هي حائط الدفاع الأول والكبر والأهم في مواجهة أي تيار فاشي أو يزعم ملكيته للحقيقة المطلقة.

•  مواصلة جهود الإصلاح الإقتصادي من خلال إيمان واضح بحتمية تغيير دور الدولة من الدور البطريركي الواسع إلى الدور الصغير ولكن بقوة شديدة في مجال وضع السياسات وضمان إلتزام الكافة بها.

•  إصلاح مؤسسات التعليم التي بلغت في معظم دول العالم وضعاً مزرياً وأصبحت تفرز خريجين وخريجات لا يصلحون للتعامل مع معظم تحديات الحياة المعاصرة (مؤسسة التعليم لدينا مثلاً أسوأ من السوء ولا يدافع عنها إِلاَّ الذين ساهموا في وصولها لتلك الحالة المزرية والتي يجسدها "خريج" أو "خريجة" لا علاقة لها بالعصر ومعرفته وأدواته وروحه).

•  إصلاح المؤسسات الإعلامية وتحويل رسالتها من الهدف الجوبلزي المنتشر في العالم الثالث (خدمة الحكومات) إلى الهدف المعاصر ( خدمة المتلقي).

 

مرة أخري – إن صندوق الإنتخابات ليس إلاَّ حلقة من حلقات عديدة للحياة الديموقراطية ...وبدون الحلقات الأخرى قد يكون صندوق الإنتخابات البوابة الرحبة لعقود من الجحيم والظلامية والتأخر والبطش.

 

ولابد هنا أن أكرر أن العالم لم يعرف إلاَّ نموذجين للنهضة والتقدم والرقى سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وتعليمياً وإعلامياً – أما النموذج الأول، فهو النموذج الأوروبي الغربي والذي أسميه (الطهو البطيء) إذ تمت عملية النهضة والرقي خلال أكثر من ثلاثة قرون. وأما النموذج الثاني فهو النموذج الآسيوي (اليابان، ماليزيا، كوريا الجنوبية، سنغافورة ...وغيرها) والذي أسميه (الطهو السريع) والذي تمت عملية النهضة والرقي فيه خلال عقود قليلة – وفي هذا النموذج لا توجد دولة واحدة لم تمر بطور مكثف من - الإصلاح المهندس Engineered Reform – لأن بديل ذلك هو الفوضى أو الطغيان.

 

ويقتضي هنا الحديث (الذي أحسبه هاماً للغاية) أن أؤكد على أن لكل ظاهرة جوانبها الإيجابية وجوانبها السلبية. ومن الجوانب الإيجابية لنجاح "حماس" (أسمها الأصلي: الأخوان المسلمون فرع غزة) في الإنتخابات البرلمانية الفلسطينية منذ أيام أنها ستعطينا الردود عن أسئلةٍ عديدة بالغة الأهمية:

 

•  السؤال الأول: في المجتمعات الديمقراطية ، فإن مجيء حزب للسلطة بناءً على نجاحه في الإنتخابات يصاحبه (حتماً) إحترام الحزب الحاكم الجديد للاتفاقيات التي إعتمدها البرلمان (ممثل الشعب) قبل وصوله للحكم. وهذا ما فعله البرلمان المصري بعد إعتماده لإتفاقيات كامب ديفيد وأيضاً ما فعله الكنيست في إسرائيل ، فرغم أن البرلمان الإسرائيلي الذي جاء معه شارون للسلطة في أوائل سنة 2001 لم يكن أعضاؤه موافقين على إتفاقيات أوسلو وما بُنى عليها ، إلاِّ أنه أحترم ما أعتمده في السابق ممثلو الشعب. وسيكون من المفيدِ للجميع أن نرى سلوك حماس في هذه الجزئية: فهل تفعل كما يفعل الديمقراطيون في العالم عند وصولهم للحكم أم تتجاهل ما وافق عليه في الماضي ممثلو الشعب الفلسطيني؟

•  السؤال الثاني: كما أجرى يحيي باشا إبراهيم (كرئيسٍ للوزراء) أول إنتخابات برلمانية في مصر وسقط فيها وأدت لتأليف سعد زغلول لأول حكومةٍ برلمانيةٍ في تاريخ مصر الحديثة (يناير 1924) ، فإن كلاً من محمود عباس (أبي مازن) وأحمد قريع أجريا في الأراضي الفلسطينية حديثاً إنتخاباتٍ سقط فيها حزبهم. وهو أمر يستحقون بسببه عظيم الإحترام. فهل تجري في يوم من الأيام حماس إنتخابات تسقط هي فيها؟

•  السؤال الثالث: ستكون حماس أمام معضلة كبيرة هي أن بيدها مقاليد وزارة الداخلية وبيدٍ أخرى العمليات الموجهة لإسرائيل. فمن سيكونُ مسئولاً عن "محاسبية" كل وظيفة من هاتين الوظيفتين؟

•  السؤال الرابع: وصل هتلر للحكم في ألمانيا عن طريق انتخابات ديمقراطية. وبعد أقل قليلاً من ثلاث سنوات من وصوله للحكم ، قضى قضاءً مبرماً على الحياة الحزبية في ألمانيا – فهل تفعل حماس نفس الشيء أم تحذو حذو الحزب الإسلامي في تركيا؟

كانت تلك أربعة أسئلة – وهناك أسئلة عديدة أخرى. وسيكونُ الواقع هو الذي سيجيب عن هذه الأسئلة لنا ولأمثال الأكاديمي المصري المخرب (س.أ) الذي باع نفسه خلال العقود الأربعة الأخيرة لكل التيارات والإتجاهات بما في ذلك مرحلته الآنية على موائد البترودولار الثقافية: قالت لي الأميرة (س.أ) الكويتية أن (س.أ) نهبها نهباً لا حد له وأرتني وثائق التحكيم بينها وبينه (والتي أجراها خبير مالي كبير كان رئيس وزراء مصر منذ ثلاثين سنة) .. وقال لي الأمير ("أ" بن "ط") الذي كان ولياً لعهد مملكة عربية أن (س.أ) نهب أموال المؤسسة الثقافية التي عهد له بإدارتها وتركها مفلسة .. وفي لندن (في يونيه الماضي) قال لي رجل الأعمال المصري (ح.أ) أن (س.أ) لم يحصل منه إلاِّ على مليون جنية مصري فقط (!!) .. ويوم 30 أكتوبر الماضي وعلى مائدة عشاء أقامها لي أمير (ق) وحضرتها قرينته وجدت (س.أ) يبث سمومه (مفكر تحركه مصالح لص ونفسية منتقم) على نفس المائدة (يجلس بيني وبين الأمير) ويبيع له أفكاراً دفع له (أ.أ) ثمن ترويجها إبان فترة سجنه منذ سنة 2000. والخلاصة أن بقاء الأحوال على ما هي عليه (بدون مرحلة تحول وتطوير إنتقالية تدريجية جادة) أمر سيؤدي لأفدح العواقب .. ولكن العمل بمقتضى نصائح (الشيطان/اللص/مع راعي غنم غشيم) ستؤدي لعواقب أشد فتكاً بمجتمعنا.