حـــوارات مع صديقي نصف العاقل

بقلم: طارق حجِّي


 

Oval: مقدمـة  


عندما كنا طلبة جامعيين يساريين خلال النصف الثاني من الستينيات كان صديقُنا الذي إعتدنا خلال السنوات الأخيرة على وصفِه بصديقِنا نصف العاقل ماركسياً وكان قارئاً ربما بلا نظير. لم يحدث أن تحدثنا عن عملٍ فكريّ أو أدبيّ إلاّ وجدناه قد سبقنا لقراءته. يوم 5 يونية 1967 رأيناه كالمذبوح. يومها قال لنا: "الفساد في أساس الشجرة وليس في الفروع أو الثمار". أمضى سنواتٍ في أوروبا، عاد بعدها رافضاً لكل الأيديولوجيات وكثيراً ما يكرر: "أؤمن بالعلم والتقدم" … وأحياناً يقول: "الأيديولوجي في عالمنا اليوم مثل المريض مرضاً نفسياً … يجب أن يعالج قبل الحوار معه!". خلال العام الماضي بدأت في تدوين ما يقوله في جلساتنا. وها هي كلماته في خمس لقاءات خلال الشهر الماضي (أغسطس 2004) .

Oval: الأحد: 1 أغسطس 2004  

أخذ صديقي نصف العاقل يطرح أسئلته وهو في إنفعاله المعهود... قال: الإعلامُ في منطقتنا قاد الرأي العام العربي للإقتناعِ بأنه ليس في تصرفاتِ أمريكا أي شيءٍ جيدٍ وإنما كلها أخطاء وجرائم في حقِ العربِ. نفسُ الإعلام لم يكتب كلمةً واحدةً عن فسادِ القيادةِ الفلسطينية... نفسُ الإعلامِ لم ير في أنور السادات إلا خائناً... نفسُ الإعلام لم يقل ولا مرة واحدة أن العربَ (منذ قرابة أربعين سنة) في موقفٍ بالغِ الحرجِ مع إسرائيل بسبب تصرفاتِ جمال عبد الناصر في شهري مايو ويونية 1967... نفسُ الإعلام لم يقل كلمةً واحدةً عن وجهةِ نظرِ بعض الفلسطينيين المثقفين بأن العمليات الإنتحارية قد أضرت الجانبَ الفلسطيني ضرراً كبيراً للغاية... نفسُ الإعلامِ لا يربط بين الإستعمالِ المفرطِ للقوةِ من جانبِ إسرائيل والعمليات الإنتحارية... نفسُ الإعلام لم يكتب في بلدِه كلمةَ نقدٍ واحدة للسلطةِ أو لفسادِ كثيرٍ من أعضائها … فكيف يمكن لعاقلٍ في العالمِ المتقدمِ ألا يرتاب في توجهاتِ الرأي العام الذي شكَّله إعلامٌ بهذه النوعية في بلدانٍ تصل نسبةُ الأميةِ فيها إلى قرابةِ نصفِ المجتمع؟

قبل أن يلتقط صديقي نصف العاقل أنفاسَه إنطلق في حماسه المعهود: هل توافق أن زعمَ بعضِ العربِ أنهم ساميون وبالتالي لا يمكن أن يكونوا مناهضين أو معادين للسامية هو واحد من أشد العبارات مغالطةً في الدنيا؟ … فإن أي إنسانٍ ذي نصيب ولو متواضع من المعرفة يدرك أن تعبير معاداة السامية هو مرادف حرفي لمعاداةِ اليهود (لكونهم يهوداً) منذ حادثة دريفوس الفظيعة في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن البعض يقول ويكتب ما يثبت عدائه لليهود (لكونهم يهوداً) وليس لكونهم إسرائيليين يتبعون سياسة لا يقبلها، ثم يقول أنه لا يمكن أن يكون معادياً للسامية لأنه هو نفسه من الساميين، لأنه عربي والعرب ساميون … إنني أتحيّر أحياناً كيف يقوم رسام كاريكاتير برسم عربي يخاطب أدولف هتلر متسائلاً: لماذا لم تكمل المهمة!!. ثم يقول أنه غير معادي للسامية؟؟.. وكيف يمكن لرجل دين أن يقف على منبر للدعوة على اليهود ويقول أن الغدرَ والحنثَ بالعهودِ هو من طبيعةِ اليهودِ ثم يقال أنه عربي وبالتالي من الساميين وبالتالي لا يمكن أن يكون مناهضاً للسامية؟... والأدهى أنه خلال نصف القرن الأخير لم يمسك كاتبٌ عربي قلمَه ليقولها صراحة: أن من بيننا من هم أكبر مثال على معاداة السامية … بل أن شيوخاً عديدين يرتقون المنابر يوم الجمعة ويصبون الدعاء بالسوءِ على اليهودِ بوجهٍ عامٍ وكان بوسعهم أن يتحدثوا عمن يقتلون المدنيين الأبرياء من أية طائفةٍ وأية ملةٍ.

وبنفس الحماسةِ إسترسل قائلاً: تعرف أن العربَ لا يتوقفون عن إتهامِ العالمِ الغربي بوجهٍ عام والولايات المتحدة بوجهٍ خاص بإزدواجيةِ المعايير وبعدمِ إحترامِ الشرعيةِ الدوليةِ، وخلال الأسابيع القليلة الماضية وقف العالمُ ينظر لهؤلاء العربِ بتعجبٍ وذهولٍ: فعندما إتجهت الشرعيةُ الدولية بخصوص السودان لعكس الهوى العربي، لم يتردد العربُ في إدانةِ الشرعيةِ الدوليةِ... وعندما إتجهت الشرعية الدولية لإدانةِ التدخل السوري في لبنان صرخ العربُ جميعاً ومعهم أمين عام جامعة الدول العربية يهاجمون الشرعية الدولية ويلحقون بها أسوأ النعوت. وقد فعل العربُ ذلك في موقف أفدح خلال سنة 1947 عندما رفضوا قرار الشرعية الدولية بتقسيم فلسطين إلى دولتين، (دولة للعرب ودولة لليهود). واليوم فإن العربَ قد يفقدون عقولهم فرحاً وبهجة إذا ما تمكنت جهةٌ من إعطائهم ما كان معروضاً عليهم في سنة 1947 من الأمم المتحدة ورفضوه يومذاك وأخذوا مبادرة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى التي خرجت منها إسرائيل (سنة 1949) بمساحةِ أرضٍ أكبر مما كان لها في قرارِ الأمم المتحدة (سنة 1947)... وحسب ما جاء في كتاب كلينتون الذي صدر في شهر يونيو الماضي فإن العربَ سوف يفقدون عقولهم يوماً من فرطِ الفرح والبهجةِ لو أن الأمم المتحدة عرضت عليهم بعد سنواتٍ قليلةٍ من الآن ما رفضه ياسرُ عرفات في كامب ديفيد منذ أربع سنواتٍ – وهذا دليل آخر على بعد النظر وثاقب الرؤية لدى بعض القيادات العربية المعاصرة. وأنصحك أن تشتري كتاب دينيس روس الذي سيصدر خلال أسابيع وبه عشرات الأدلة على أن ياسر عرفات قد أضاع على شعبه فرصةً ربما لا تتكرر.

على خلاف عادته لم يسترسل صديقي نصف العاقل في ملاحظاته وإنما ألقي علي سؤَالاً جاداً: هل ترى أيةَ بارقة أَملٍ في هذا الواقع الرمادي الذي لا تنشغل فيه معظمُ نظم الحكم إلا بإستمرارِها؟ … قلت: نعم! … أنا متفائلٌ أن عهدَ النظمِ الشمولية يلفظ أنفاسه الأخيرة … وأن الحريات العامة قادمةٌ لا ريب … وأن الإصلاحات السياسية والإقتصادية والتعليمية والإعلامية سوف تحدث (شاء من شاء وأبى من أبى – بلغة ياسر عرفات!!) … وأن الإسلامَ الوسطي المعتدل الذي يؤمن بالتعايش مع الآخرين ولا يزعم تميُّز أية طائفة عن الأخرى والذي يؤمن بأن الجهاد معناه (الدفاع الشرعي عن الذات) وليس نشر العقيدة بالقوةِ … والذي يساير مسيرة التمدن الإنساني في الديموقراطية والحريات العامة والعلوم الإجتماعية – يقيني أن هذا الإسلام هو الذي سيسود وأن إسلام المغارات والكهوف وقتل المدنيين وحزام المفرقعات والسيارات المفخخة سوف يدخل "متحف تاريخ الشر" قريباً … وعلى مستوى الأحداث الأصغر فأنا أيضاً أجدُ ما يسر الخاطر، فرغم أن لبنان بدلاً من أن يعلم جيرانه الديموقراطية وإحترام الدستور تعلم منهم (منذ أيام) نقيض ذلك وإقترب منهم عوضاً عن أن يقتربوا هم منه … رغم ذلك فإن في الصورة اللبنانية بعض النور … فما أشد إعجابي بالوزراء اللبنانيين الأربعة الذين إستقالوا من الحكومة إعتراضاً على ما حدث من تعديل للدستور في خدمةِ الحاكمِ لا في خدمةِ الشعب. إن موقف هؤلاء موقفٌ نبيلٌ ورغم أن ثلاثة منهم ينتمون لمجموعة يقودها رجل أحترمه وفي نفس الوقت أرفض معظم أفكاره (وليد جنبلاط) إلا أنه ورجاله الثلاثة يستحقون من كل إنسان في العالم التقدير والتبجيل. ولا أخفي عنك أن ردود الفعل العربية على هذا الحادث الكبير أوجعت قلبي وأثبتت لي مرة أخرى أن الديموقراطية ليست على قائمة أولويات معظم السياسيين العرب... إن العرب الذين يبكيهم الوجود الأمريكي في العراق لم يبكيهم يوماً وجود مجرم من أعتى مجرمي التاريخ الحديث على رأس السلطة الفعلية في العراق من سنة 1968 حتى وجوده (كالفأر في حفرة تحت الأرض) سنة 2003... والعرب الذين لم تبكيهم جرائم القبائل السودانية العربية في حق أبناء القبائل السودانية ذات الأصل الإفريقي (وكل منهما من المسلمين) وصغَّروا من حجم الجرائم التي إرتُكِبَت في حق الآلاف من السودانيين من أصل إفريقي أبكاهم (وأبكى أمين عام جامعة الدول العربية) تدخل الأمم المتحدة في شئون السودان... وكأن سيادة السودان أهم من أرواح السودانيين الذين قتلوا بالآلاف والذين شرِّدوا بمئات الآلاف!.. أي ظلام عقل وضمير هذا!!؟

Oval: الأحد: 8 أغسطس 2004  


أمطرني "صديقي نصف العاقل" بسيلٍ من الأسئلةِ:

  • قال: لماذا لا يكتب قلمٌ واحدٌ في البلادِ العربيةِ عن سيناريو يفترض أن العربَ في سنة 1947 قد وافقوا على قرار الأمم المتحدة بتقسيمِ فلسطين إلى دولتين: دولة عربية (فلسطين) ودولة يهودية (إسرائيل)؟.. وماذا كانت أحوالُنا ستبدو عليه الآن لو أن هذا هو ما حدث؟ وهل نحن لم نفعل إلاَّ ما حذرنا منه "إسماعيل صدقي" في سنة 1947 عندما قال أنه يخشى أن يكون مصيرُنا هو مصير من يضيّع الممكن ويظل يطلب المستحيل؟!
  • ثم ألقى سؤَاله الثاني على الفورِ: إن الإخوانَ المسلمين يتزعمون دائماً منهج المقاومة المسلحة-وهذا ما فعلوه في مايو 1948-فلماذا لا يحلل لنا مؤَرخٌ منصفٌ مثل الدكتور عبد العظيم رمضان أو الدكتور يونان لبيب رزق حقيقةَ "تحرك الإخوان المسلمين" المسلح سنة 1948 ونتائجه؟ حتى نأخذ ذلك في إعتبارنا عندما يحدثوننا اليوم بنفس المنطق؟ ونكون على بينةٍ من النتائج المبهرة لأقوالهم والآثار الرائعة التي ستعود علينا من جراء حماسهم؟؟
  • وقبل أن ألتقط أنفاسي ألقى سؤاله الثالث: هل تدرك أننا لو إسترجعنا اليوم الجولان ومزارع شبعة والضفة الغربية والقدس الشرقية-فإن ذلك لا يعني إلا أننا أصلحنا خسائر ستة أيام سوداء في شهر يونية 1967؟ ناهيك عن الواقع المر الذي خلقته السنوات السبع وثلاثون على مسرح منطقتنا.
  • وكأنه "آلةُ أسئلةٍ" أفرز رابع أسئلته على الفور: لماذا لا يحاول كاتبٌ أو مفكرٌ أن يوضح ما كان سيحدث لو إستجاب الفلسطينيون والسوريون لدعوةِ الرئيس السادات لهم للمشاركةِ في مفاوضاته مع الإسرائيليين منذ ربع قرنٍ من الزمان؟ … وماذا كان سيحدث لو أن ما تم التوصل إليه (من حيث المبدأ) في طابا منذ أربعين شهراً قد تم قبوله من ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية؟. وهل ما رفضه ياسر عرفات يومئذ أفضل أم خارطة الطريق؟ وإذا كانت الأمورُ المعروضة في طابا يومذآك أفضل من خارطةِ الطريق، فمن سوف يُحَاسَبْ على ذلك الإهدار (الإهدار للأرواح والدماء والمصالح والوقت) … أم أن أحداً غير مسئول في واقعنا العربي؟

وبينما أُحاول البدء في الإجابةِ عن فيضانِ أسئلته، ألقى سؤالاً خامساً لا علاقة له بالعقل والإتزان (!) عندما قال: ما رأيك في البرنامج التالي:

أولاً: يتم إقناع ياسر عرفات بأن يقوم بتعيين محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للوزراء ويفوضه في معظم سلطاته.

ثانياً: يُعلن ياسر عرفات إدانته "للإستعمال العشوائي للعنف من الجانبيين الإسرائيلي والفلسطيني" أي إستهداف المدنيين-ويصارح شعبه بأن العمليات الإنتحارية قد أدت لتدهورٍ كبيرٍ في أوضاع وحياة الإسرائيليين والفلسطينيين – وأنه من جهته يطالب "الجهاد" و"حماس" و"كتائب الأقصى" بالتوقف التام عن أي هجوم على المدنيين.

ثالثاً: بعد أسبوعين أو ثلاثة من الإجراءين السابقين يُعلن ياسر عرفات عن ضرورة سفره للقاهرة (لأسباب صحية) ويكلف محمود عباس (أبا مازن) بكل سلطاته – ويأتي لمصر على أساس أن تمتد إقامته بها لفترةٍ طويلةٍ – حتى يشفيه اللهُ من كل ما به من أَسقام.

رابعاً: يقوم أبو مازن بإستئنافِ المفاوضات مع الإسرائيليين بهدفِ تطبيق خارطة الطريق-وربما العودة لما كان قد تم التوصل إليه في طابا في أواخر فترة رئاسة كلينتون

خامساً: تشرف مصرُ على هذه الخطة برمتها وتحيط الولايات المتحدة بها بحيث تصبح الولايات المتحدة وإسرائيل على علم أن هذه الخطة لتحقيق السلام هي خطة مصرية تماماً … بل خطة لا تقدر عليها إلا مصر.

سادساً: مع تقدم المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية تُعلن مصر أنه بمجرد الوصول لإتفاق يرضي الطرفين – فإن مصرَ ستقود المنطقة ثقافياً وإعلامياً لمُناخٍ عامٍ جديدٍ هو مُناخ ثقافة السلام …

قال ذلك … ثم أضاف: نعم!.. (ثقافة السلام) التي كتبت أنت عنها منذ سنوات فهاجمك المفكر الكبير "س.ي" … ولكن عندما قامت القيادة السياسية في مصرَ (بحكمةٍ وبعدِ نظرٍ) بتكوين منظمة لثقافة السلام، فإن المفكر الكبير لزم الصمت وعمل بمبدأ التقية … ومن يدري، فقد يصبح في المستقبل عرَّاباً لثقافة السلام-فتلك هي شيم "المثقفين الموظفين"!! … قال ذلك ثم أردف: هل رأيت تناقضاً فلسفياً ولغوياً أكبر من التناقض الكامن بين "مفهوم المثقف" و"مفهوم الموظف"! … ثم رفع صوته قائلاً بسخرية: "رحم الله "سارتر" الذي كان دائماً يُكرر أنه لا يليق بالمثقف أن يكون مؤيداً!!" (أي ألاَّ يكون موظفاً!!).

ألقى صديقي نصف العاقل بسؤَاله الأخير … وإنصرف عملاً بمقولته التي لا يفتأ يكررها: "الأسئلةُ مبصرةٌ … والأجوبةُ عمياءٌ!!".

ونظراً لأن السيد/ ياسر عرفات أقدر مني على الإجابة عن هذه الأسئلة، فإنني آمل أن يُطالع هذا الحديث ويتفضل بالإجابةِ عن هذه الأسئلة السهلة (!!) وعن سؤَال آخر سمعته من "ربع عاقل" منذ أيام.. إذ قال لي: لقد كانت الإنتفاضةُ الفلسطينية الأولى (في الثمانينيات) محطَ إعجابِ العالمِ بأسرِه لخلوها من العنفِ العشوائي الذي يستهدف المدنيين … أما هذه الإنتفاضة فهناك من يؤيدها وهناك من يرفض ما تخللها من عنف وُجِّه للمدنيين … ولكن لنفرض (جدلاً) أن الإنتفاضة الحالية ستؤدي لنتائج أفضل مما كان من الممكن الوصول له في يناير 2001-فماذا سيفعل ياسر عرفات بعدها مع "العضلات" التي نمت خلال الفترة من سبتمبر 2000 وحتى الآن وأصبح أصحابها يرفضون (في إجتماعات القاهرة) تفويضه في الأمر (!!) … ماذا سيفعل السيد عرفات (بعد النصر الكبير إن شاء الله) مع المارد الذي أطلقه (كما أطلق الرئيس السادات مارداً مشابهاً في سبعينيات القرن الماضي)؟!!. أم أن هذه هي هديته المقصودة للأجيال القادمة في فلسطين وكل المنطقة؟!

Oval: الأحد: 15 أغسطس 2004  


جاء صديقي نصف العاقل لمجلسنا هذه المرة وهو يفور بغضبٍ فاق درجاتِ غضبه التي عهدناها. قبل أن يجلس قال: لن أتفلسف اليوم وأعطي آراءً وتحليلاتٍ للواقع السقيم في منطقتنا … كل ما سأقوم به هو أن أطرح أسئلة وأقترح أن تعودوا بها إلى منازلكم للتفكير فيها. لم يمهلنا للموافقة أو الإعتراض على "المنهجِ الجديد" وبدأ على الفور في طرحِ أسئلته:

ما من مثقفٍ في هذه المنطقة إلا ويبدأ كلامه بالهجومِ على الولايات المتحدة … حتى من يدخل ضمن الليبراليين، فإنه قبل أن يُهاجم أية ظاهرة "يطلب الأمان من سامعيه" بالهجوم على أمريكا وسياستها وربما يحمل كلامه تمنياته لها بالفشل في كل ما تقوم به. هذا السلوك هو إستمرار لخاصية "التقية" في الشخصيةِ العربيةِ والشخصيةِ المسلمةِ. أي أن يقول الإنسان ما يضمن له السلامة إما من الحكام أو الناس، والتقية ثمرة طبيعية لتاريخ من القهر والبطش تمثلت قمته في قتل الخلفاء لمن كانوا يرفضون مبايعتهم (كما فعل يزيد بن معاوية مع الحسين وكذلك البطش لأسباب سيكوباتية مثل قتل هارون الرشيد لزوج أخته العباسة وكل أهله … وكذلك مثل بطش المأمون وخلفه بمعارضيه حتى في القضايا الفلسفية). أما أنا أيها السادة فأقول أن كراهية الغرب هي في حقيقتها "كراهية للتقدم".

إن التقدمَ ظاهرةً إنسانية أي أنها ليست شرقية ولا غربية … ليست مسلمة ولا يهودية ولا مسيحية … ليست أوروبية أو عربية أو صينية.. إنها محصول إنساني تراكمي ولكن "المحرك" الذي يقود قاطرةَ التقدم اليوم هو الغرب. وبالتالي، فإن الرفض الكلي للغرب لا معنى له إلا رفض التقدم. وأنا أفهم أن يؤمن بذلك "إسلامي حالم" يعتقد (بدون أي دليل) أن لديه البديل (والحقيقة أنه يعيش عالةً بشكلٍ مطلقٍ على ثمارِ الحضارةِ الغربية).. أما الطوائف الأخرى فإن أمرها عجيب – وتفسيري الوحيد لذلك هو تفسير نفسي (سيكولوجي) لا أريد أن أشرحه حتى لا أمعن في إيذاء مشاعركم … ولكني أود فقط أن أذكركم بحديثكم منذ أيام عن زميلنا "ح . ط" الذي أجمعتم أن جريرته الوحيدة هي تميّزه عن أقرانه.

قبل أن ينبس أحدنا ببنت شفة ألقى صديقي نصف العاقل بسؤاله الثاني:

  • ما الذي جعل معظم حكام منطقتنا يتخذون رد الفعل الذي إتخذوه من إقتراحاتِ الإصلاح الأمريكية والأوروبية؟ ولماذا قاموا بشحنِ الرأي العام في بلدانهم (عن طريق الإعلاميين الموظفين) ضد هذه الإقتراحات التي تجرأ الكاتب اليساري محمد سلماوي وقال أنه طالعها فلم يجد فيها ما يمكن الإعتراض عليه. وكيف تكون حسابات بعض الحكام خاطئة لهذه الدرجة؟ إن سوريا مثلاً سوف تفعل في النهاية الأشياء الأربعة المطلوبة منها وهي إغلاق حدودها مع العراق في وجه المخربين الذين يجيئون للعراق عن طريق سوريا ثم سحب جيشها من لبنان … ثم طرد خالد مشعل وكل قيادات المنظمات الفلسطينية المشابهة لتنظيم خالد مشعل … ثم التوقف عن إستعمال (حزب الله) بدلاً من الجيش السوري كما هو معلوم. إن سوريا سوف تفعل كل ذلك يقيناً … فلما تفعل ذلك في المستقبل بتكلفة باهظة ولا تفعله الآن في ظل إتفاق فيه أرباح ومكاسب لها، لأنها في المستقبل سوف (تعطي) ولن (تأخذ) أي شيء؟؟ ولماذا لا يفهم ياسر عرفات أنه إما يحوِّل نفسه لرئيس شرفي للفلسطينيين ويترك رجلاً مثل محمود أبو مازن أو محمد رحلان لقيادة الإدارة الفلسطينية أو أنه سيهلك لا محاله؟ … إنه أمام خيارين لا ثالث لهما … ولكنه لم يفهم بعد معطيات العالم اليوم.

إلتقط صديقنا نصف العاقل أنفاسه وإحتسى قليلاً من الشاي ثم إستأنف أسئلته العنقودية:

  • ما هي أهداف هذه المحطة الفضائية التي أسميها "المريرة"؟ إنها خلطة غريبة من التقنية الفنية العالية والتخريب الفكري والعقلي والنفسي للجموع العربية المستعدة أصلاً لمزيد من التخريب الفكري والعقلي والنفسي؟ ما معنى ما تقوم به "قناة المريرة" كل يوم من إلقاء الزيت على النار مع عملية تحويل ممنهجة لأسامة بن لا دن وجماعته ومخربي العراق (الذين يقتلون العراقيين والأتراك والمصريين والباكستانيين ويطلبون مثل المجرمين أموالاً "فدية" نظير إطلاق سراح من يختطفوهم) … "قناة المريرة" تحول كل هؤلاء إلى رموز بطولية. منذ أيام لم تستطع مذيعة (جمانة نمور) أن تكتم فرحتها وضحكتها والشاشة تصور بعض الفلسطينيين وهم يوزعون الحلوى ويرقصون يوم 11 سبتمبر 2001 عندما بلغتهم أنباء تفجير وإنهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك! كيف تُترَك عقول الجماهير لمذيعة تتصرف كقطةٍ برية بالغريزة الحيوانية الخالية من عقال المنطق والعقل والفطنة؟ إن "جمانة نمور" هنا كانت تجسيداً مكرراً لعقلية قبلية همجية غوغائية هي تلك التي أقامت أفراح البهجة يوم قتل أنور السادات – أعقل الحكام العرب خلال القرن العشرين بطوله.

قبل أن يغادر مجلسنا ألقى علينا سؤاله الأخير:

  • من تظنون سيكسب الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بعد شهرين؟ … أما أنا فأقولها لكم من الآن: جورج بوش سيكتسح جون كيري وبنسبة لا تقل عن 7% (وهي نسبة كبيرة في الولايات المتحدة) وعلى الذين تصرفوا بمنطق المذيعة (جمانة نمور) أن يعرفوا أن أمامهم أربع سنوات من العض على اليد (أيديهم هم!).

Oval: الأحد: 22 أغسطس 2004  


قال صديقي نصف العاقل: منذ قرابة تسعين سنة كانت المخابرات البريطانية ( MI6 ) منقسمة على نفسها بين مدرستين في التفكير: مدرسة يقودها مكتب هذه المخابرات في الهند ومدرسة ثانية يقودها مكتب هذه المخابرات في مصر. أما المدرسة الأولى (المخابرات البريطانية في الهند) فكانت ترى ضرورة مساندة عبد العزيز بن سعود الذي كان يوسع رقعة سلطانه في الجزيرة العربية من الشرق إلى الغرب بعد أن إستولى على الرياض في مستهل سنة 1901. وكان أبرز رجال هذه المدرسة جون فيلبي الذي أصبح إسمه بعد ذلك عبد الله فيلبي وهو والد كيم فيلبي الجاسوس البريطاني المشهور الذي كان يعمل من داخل المخابرات البريطانية لصالح الإتحاد السوفيتي. وأما المدرسة الثانية، فكانت ترى ضرورة مساندة الشريف حسين حاكم الحجاز من مكة في مواجهة عبد العزيز بن سعود ليكون هو رأس "مملكة العرب" وليس عبد العزيز. وكان أبرز رجال هذه المدرسة "لورانس" الذي كتبت عنه الكتب وأخرجت عنه الأفـلام السينمائية ( Lawrence of Arabia ). وبوسع المرء أن يقول اليوم: لو كان النصـر قـد تحقق للشريف حسين وللجانب المساند له لكان الملك عبد الله ملك المملكة الأردنية الهاشمية اليوم هو عاهل مملكة العرب والتي كانت ستضم ما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية. لو كان ذلك قد حدث، لكان المذهب الوهابي قد إجتث من جذوره ولكانت الحياة في الجزيرة العربية اليوم مختلفة تماماً. إلا أن حدوث العكس (أي إنتصار عبد العزيز بن سعود) وصيرورته هو على رأس معظم الجزيرة العربية (وأهم بقاعها: نجد والحجاز) فقد كان ذلك مدخل الدعوة الوهابية والتي تستند على فقه بن تيمية (المتشدد إلى أبعد الحدود) للشيوع ليس فقط في جزيرة العربية وإنما (بفضل البترودولار) في سائر أرجاء المعمورة. فالسواد الأعظم من المراكز والمدارس الإسلامية في شتى بقاع العالم قد شيدت خلال الأربعين سنة الماضية بالبترودولار النفطي المتزاوج مع الدعوة الوهابية - لذلك فإن الدارس بتعمق للفقه الإسلامي لا يجد أثراً للمذهب الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو فقه الإمامية الشيعي في جل هذه المراكز والمدارس.

فرغ صديقي نصف العاقل من كلامه وسألني: أ فلا يحق لي بعد هذا أن أدعو المخابرات البريطانية لإعلان الحداد على ذكائها الذي ضاع في هذه المسألة فجلب ذلك على الدنيا ما جلب؟!!!

Oval: الأحد: 29 أغسطس 2004  


قال صديقي نصف العاقل: كنت أمس أطالع صحيفة عربية فوجدت في صفحة واحدة منها هذه الأسماء: ضاري (أي من الوحوش الضارية) وحرب وصعب ومتعب ومصعب وعدي (أي تصعب معاداته) ومهند (أي حامل السيف) والجهيمان (أي شديد العبوس والتجهم) كما كان هناك إسم لسيدة هو "العنود" (أي شديدة المعاندة)... وإسترسل صديقي نصف العاقل قائلاً: إن التحليل السوسيولوجي (الإجتماعي) الذي يأخذ في الإعتبار عوامل الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا) يستطيع أن يرصد بوضوح الخلفية الثقافية للبيئة التي أنتجت تلك الأسماء... فالقاسم المشترك في تلك الأسماء هو الموقف العنيد والمعادي والمحارب للآخر أو للآخرين. صمت محدثي لثوان مما أتاح لي أن أسأله: أ تعني أن الخلفية الإسلامية هي القاسم المشترك بين تلك الأسماء؟ رد صديقي نصف العاقل بثقة مطلقة: "لا" … فسيرة بن هشام تقول لنا أن نبي الإسلام رفض أن يسمي حفيده الأول بإسم "حرب" وبدل الإسم إلى الحسن. إن التفسير الوحيد لهذه الأسماء هو أنها منتج طبيعي لثقافة وعقل البداوة في صحراء وكثبان رمال الجزيرة العربية حيث الآخر دائماً عدو ينبغي أن يفتك به (فاتك) أو يضرب بضراوة (ضاري) وأن يحارب (حرب) وأن يعامل معاملة صعبة تتعبه (صعب ومصعب ومتعب) وأن نعامله ونحن نحمل السيف (مهند) وأن نتعامل معه بوجه عابس متجهم (الجهيمان) وحتى المرأة في هذا المجتمع تكون رائعة عندما تكون عنيدة (العنود). لا يوجد شيء إسلامي في هذه الأسماء والدليل على ذلك أن المجتمعات المصرية والمغربية والسورية والتونسية واللبنانية خالية تماماً من هذه الأسماء. إنها أوراق شجرة البداوة الثقافية. إن الفلاح المصري لا يعرف إسماً واحداً من تلك الأسماء، ولكنه يعرف إسم "صابر" (أنظر إلى الدلالة) وإذا جاءه إبن بعد طول إنتظار سماه "شحاته" أو "شحته" (لأن الله أعطاه إياه كصدقةٍ) وإذا إختار من مجموعة معينة من الأسماء، إختار (عبد الله) و(عبد اللطيف) و(عبد الحفيظ) و(عبد الغني) وما أرق المعنى.. ونادراً ما يختار (عبد الجبار) لأسباب دفينة في خامة الشخصية المصرية. وكاتب هذه السطور الذي أمضى سنوات عديدة في شمال إفريقيا كما زار سوريا ولبنان مراراً يستطيع أن يجزم بأن ما ذكره آنفاً عن مصر ينطبق على كل هذه المجتمعات التي لا تعرف تلك "السلة الدامية من الأسماء"!!.. وأكتب الآن هذه السطور من منطقة تكاد تكون مصرية/ليبية في آن واحد (ثقافياً) وليس بها أيضاً إسم واحد من تلك الأسماء الناضحة بالتحفز وتسكين "الآخرين" تحت بند الأعداء. في هذه المنطقة (التي أَنا بها الآن) في شمال غرب مصر يكثر إسم (سالم) والدلالة واضحة … فهذا هو المرجو لصاحب الإسم في هذه البيئة الصعبة (جغرافياً). وفي السودان ما أكثر من يحملون إسم (بشير) وهو إسم ينضح بالجمال (فما أجمل الإسم المستقى من البشرى أو البشارة).

وأنهى صديقي حديثه قائلاً: تصورت نفسي أحادث رجلاً من تلك المجتمعات … وتصورته يقول لي: "إسمي فاتك بن ضاري الجهيمي" … ثم تصورت نفسي وأنا أجيبه قائلاً: "أعوذ بالله من فتكك الضاري … وليعينني الله على جهامتك!".