.علي شريعتي ونظرية الإستحمار

.بقلم: طارق حجِّي

 

الدكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي كتب ونشر مؤلفاته قبيل سقوط حكم الشاه في إيران من أشهر المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين. وأنا رغم تقديري لقوةِ عقلِه إلا أنني أختلف معه في مسائلٍ كثيرة. أما أبرز نقاط إختلافي معه فتتعلق بإيمانه الراسخ بأن الحضارة الغربية تتميز بمعطياتٍ مادية فقط وليس بسببِ منظومة قيمٍ هي التي جعلتها ما هي عليه اليوم (رغم الكثيرِ من عيوبها ونواقصها). فأنا على نقيض الدكتور شريعتي أؤمن أن الروح الثقافية التي بدأت منذ عصر النهضة ومجموعة القيمة السياسية والمجتمعية والثقافية والتي ذاعت وشاعت في الغرب هي التي قلصت سلطان الحكام المطلق وهي التي أوجدت الديموقراطية وهي التي وفرت المُناخ الذي تحقق فيه التقدم العلمي والمادي والإقتصادي. أما الدكتور شريعتي فكان يعتقدُ أن القيم والأخلاق فمكانها الشرق المتخلف، وأما التميز المادي فقط فهو الذي يسود في الغرب. وبناءً على هذا الإختلاف فلا أعتقد أن الدكتور علي شريعتي (رغم قوة عقله) كان يفهم معنى عبارات مثل: "الإنسانية" و"عالمية المعرفة" و"حضارة واحدة وثقافات عدّة". فمن المؤكد أنه لم يكن يؤمن بذلك وأكاد أجزم أنه لم يحاول التفكير في ذلك. ولكن في المقابل فهناك أولاً شجاعته الفكرية الرائعة وكراهيته الشديدة لمن يسمون أنفسهم برجال الدين في أي مجتمع أو ثقافة أو دين ورؤيته أنهم يكوِّنون مع سلطان السياسة والمال ضفيرة واحدة لما كان يسميه "إستحمار الناس"

أمس كنت أُلقي نظرة ثانية على أعماله التي ترجمت للعربية والإنجليزية وأعدت قراءة كتيبه الصغير "النباهة-الإستحمار" الذي صدرت ترجمته العربية سنة 1991. في هذا الكتيب الصغير يقول علي شريعتي: (وقع مصير الدين في أيدي قوات إستحمارية مضادة للإنسانية تتسمى بأسماءٍ كالطبقة الروحانية والطبقة المعنوية والطبقة الصوفية وطبقة الكهنوت الذين إتخذوا من الدين وسيلة لإستحمار الناس-الإستحمار الفردي والإستحمار الإجتماعي. وكلامي هنا يدور حول الدين الإستحماري المضلل … الدين الحاكم وشريك المال والقوة الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين أي لديهم إجازات للإكتساب تُنبئ عن إحتفاظهم بالدين وأنهم هم الدعاة وشركاء السلطة والمال والقوة. ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟ ليس بإستطاعة الدين أن يسلب مني نباهتي الفردية أو مسئوليتي المجتمعية إن عمله ينصب في نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان أي يقول لك: (:دع الدنيا فإن عاقبتها الموت" … "إدخر كل هذه المشاعر والأمنيات إلى الآخرة؟!" ليس الفاصل الزمني بكثير: ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة: ما قيمتها؟؟.. بعدها كل شيء سيكون تحت أمرك. إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها دع الدنيا لأهلها … وهو يقصد بأهلها نفسه وشركاءه "السلطة والمال والقوة"). هنا يقترب علي شريعتي أشد الإقتراب من كارل ماركس في كل ما كتبه عن الدين، وإن إختلفت الدوافع وتباينت الأهداف … فأحدهما كان يسعى لتدمير الدين … والآخر لتغيير جوهر فهم الناس له تغييراً جذرياً … ولكنهما معاً يتفقان بتصريحٍ أو تلميحٍ أن الدين "أفيون الشعوب" أو في الحقيقة أن إستعمال رجال الدين للدين هو الذي يجب أن يوصف بأنه أفيون الشعوب

إن كتابات المفكرين الإيرانيين المعاصرين ومعظمهم من الإسلاميين هي في إعتقادي (ورغم إختلافي مع الكثير منها) أرقى بمراحلٍ من الفكر الإسلامي في العالم السني الذي هو الآن (في شقٍٍ واحدٍ منه) ضفيرة من أفكار إبن تيميه ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأدبيات الجماعة الإسلامية في مصر قبل التطوير الأخير في أفكارها

إنني آمل أن يتوقف العالم السني عن ظلمه البيّن للعالم الشيعي … وأن ندرك أننا لا نعلم إلا أقل القليل عن مساهمات الشيعة الفكرية منذ جعفر الصادق عليه السلام وحتى لحظتنا هذه. لا نعرف عن مذاهبهم الفقهية (وبعضها بالغ الرقي) ولا نعرف عن أدبياتهم المعاصرة ويتسم الإنسان المتعلم لدينا (ل وكبار المثقفين) بدرجة غريبة من لجهل بأفكار الشيعة-وكان نصيب الشيعة منا هم "الظلم البين" من لحظة إغتيال أسمى الصحابة (على بن أبي طالب) وإبنه (الحسين بن علي) وحتى جرائم صدام حسين في حقهم … رغم إيماني أن إيران إذا تركت ولم تهاجم من الخارج، فسوف تقوم بتنقية حياتها السياسية والمجتمعية والفكرية وربما تصبح (بعد ماليزيا وتركيا) ثالث الديموقراطيات في المجتمعات الإسلامية-وإن كان نصيبها (عندئذ) من الديموقراطية سيكون أكبر بكثير من نصيب ماليزيا وتركيا لأسباب ليس هذا موضوع تبيانها