(25)
نحن ... والواقع من حولنا


عندما إندلعت الحربُ العالمية الثانية في سبتمبر 1939 لم تكن الولاياتُ المتحدة الأمريكية بين أطرافِ هذا النزاعِ الكبيرِ إذ تأخر دخولُها حتى سنة 1941 عندما جاء هذا التدخل نتيجة الجهود التي كان يبذلها رئيسُ الوزراء البريطاني يومئذ ونستون تشرشل بهدفِ إقحامِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية في الحربِ (مع الحلفاءِ)، وأما الأمر الثاني (والمباشر) فهو الهجوم الياباني على بيرل هاربر في سنة 1941 والذي ألقى بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ في قلبِ النزاعِ. وفي صيف سنة 1945 أنهت الولاياتُ المتحدة الأمريكية الحربَ العالمية الثانية بذراعها العسكريةِ القويةِ سواء في أوروبا أو في أقصى شرق آسيا. ورغم أن الولاياتِ المتحدة الأمريكية كانت هي العاملَ الحاسمَ لإنتصارِ الحلفاءِ وإنتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ بالصورةِ التي إنتهت بها إِلاَّ أن حصدَها لثمار هذا الواقع لم تظهر بعد إنتهاءِ الحربِ العالمية الثانية (1945) وإنما تأجلت لأقل قليلاً من نصف قرنٍ-  فبينما كان منطقُ حساباتِ القوى يحتم أن تحصد الولاياتُ المتحدة الأمريكية ثمارَ إنتصارها العسكري في سنة 1945 إلاَّ أن واقعاً جديداً (وهو واقع الحرب الباردة 1945 – 1990) قد ‍‍‍‍حال دون أن تجلس الولاياتُ المتحدة الأمريكية على مقعدِ المنتصرِ على العالمِ وتمارس دوراً تمليه حساباتُ القوى، فخلال الحرب الباردة حال وجودُ الإتحاد السوفيتي بين الولايات المتحدة الأمريكية وممارستها لهذا  الدور ولكن ما أن إنهار إلاتحاد السوفيتي ومعه الكواكب التي كانت تدور في فلكِه حتى عاد للمسرحُ الدولي إلى اللحظة التي كانت تنتظرها الولايات المتحدة الأمريكية في سنةِ 1945 وأصبح (منذئذ) من الممكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحصد الثمارَ المادية والواقعية لكونها القوى السياسية والإقتصادية والعلمية والعسكرية الأولى (بلا منازع) في العالمِ. وإذا كانت ظروفُ الحربِ الباردة قد أرجأت أن تكون الولاياتُ المتحدة الأمريكية في موقعٍ يسمح لها بحصدِ ثمارِ مكانتها ، فإن وصولَ كلينتون لمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 1993 قد أحدث أيضاً إرجاءاً طفيفاً لظهور هذه الحالة (التي تعكس موازين القوة) على مسرحِ العالمِ بشكلِ واضحٍ وكاملٍ. وفي تصوري أنه إذا كان الرئيس جورج بوش قد فاز بفترة ولاية ثانية (في إنخابات نوفمبر 1992) لكان العالمُ قد شاهد ما بدأ يشاهده منذ وصولِ الجمهوريين للحكمِ مرة أخرى في يناير 2001 – فمجموعةُ اليمين في الحزب الجمهوري الأمريكي أكثر وضوحاً في التعاملِ مع حقائقِ ونتائج هذا الواقع الجديد أكثر من غيرهم في الولاياتِ المتحدة الأمريكية .

 

وخلال سني الحرب الباردة كان من الميسورِ لأي مراقبٍ من خارج الولايات المتحدة الأمريكية أن يرى أن مجموعة القيمِ والنظمِ الأمريكية السائدة داخل المجتمع الأمريكي والتي تسببت في وجودِ مجتمعِ بالغِ التقدمِ على كافةِ المستوياتِ: مجتمع تشيع فيه درجةٌ عاليةٌ من الديموقراطية وينتج إقتصادياً أكثر من ربع مجمل الناتج العالمي و يحتل موقعَ الصدارة علمياً وبحثياً وتقنياً وتكنولوجياً وعسكرياً ...كان من الميسور للمراقبِ أن يرى أن هذه المجموعةَ من القيمِ والنظمِ التي تعمل داخل الولايات المتحدة الأمريكية هي أمور مناقضة للعديدِ من جوانبِ السياسةِ الأمريكيةِ الخارجية: فبسبب ظروف الحرب الباردة تعاملتُ السياسية الخارجية الأمريكية مع مارشالات وجنرالات جمهوريات أمريكا الجنوبية والوسطى الطغاة والفاسدين كما تعاملت السياسةُ الخارجيةُ الأمريكيةُ مع العديدِ من أشباهِ هؤلاء في أفريقيا وآسيا كما أنها تبنت مجموعاتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ متطرفة ورعتها وإستعملتها ومن بينها جماعات ومنظمات ودول أصبحت الولايات الأمريكية بعد ذلك تشكوا منها.

 

ومن أهم ثمار ثقافة الحرب الباردة أن السياسية الخارجية الأمريكية تجاهلت أن الديموقراطية ليست فقط حقاً إنسانياً لكل البشر (بما في ذلك بشر منطقة الشرق الأوسط) وإنما هي صمام الأمان الوحيد للبشرية جمعاء من عواقب الطغاة والديكتاتوريات الشمولية والمنظمات المتطرفة.

 

وإبان سني الحرب الباردة كانت السياسة الخارجية الأمريكية أحياناً تهتم  بالديموقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الطغيان والفساد عندما يقترف شيئاً من ذلك المخالفون لها والذين يعملون ضد مصالحها بينما كانت تغض البصر نهائياً عن تلك الخطايا الأخرى عندما يكونون من أنصارها أو من الذين هم على علاقات مصلحية معها. واليوم فإن الأزمةَ الكبرى في عددٍ من دول العالم أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلن أنها تتوخى توفير الديموقراطية لمجتمعاتٍ كانت (قد تركتها بإختيارها) لطغاة فاسدين قاموا بعملية غسل أدمغة لشعوبهم تضمنت إفهام هذه الشعوب أن الكرامة تتلخص في مناطحة ومواجهة وتحدي الحضارة الغربية : مما يجعل كل أطراف العالم في أزمة.

 

وإذا كان من حق البعض ألاَّ يرضى عن هذا الواقع المادي الناجم عن موازين القوى ...وإذا كان من حق آخرين ألا ترضيهم حقيقة إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية  بكتابةِ القواعدِ الأساسية للسياسية والإقتصاد في العالم... وإذا كان فريق ثالث من حقه أن يتسأل عن معنى مصطلحات مثل (السيادة) و (الشرعية الدولية) ...وكلُها أسئلة ومواقف يجب إحترامها ، فإن من حق فريقٍ رابعٍ أن يطرح الأسئلة التالية:

 

-   هل ثقافة المقاومة والتحدي والمواجهة هدف أم وسيلة؟ …وإذا كانت هدفاً فما هي العواقب العملية لها! وإذا كانت وسيلة، أفليس من حق البعض أن يتسأل عن فرص نجاحها أو فشلها ؟

 

-      هل رفض مجيء الإصلاح والتطوير والتحديث من الخارج (وهو رفض له معقوليته) يعني رفض مجيء ذلك من الخارج فقط؟ …أم رفض الإصلاح والتطوير والتحديث بشكل مطلق؟ وهل هناك وسيلة لتجنب فرض ذلك من الخارج إلاًّ بالمبادرة به من الداخل لا لكونه مطلباً لأحدٍ وإنما لكونه حقاً ومطلباً لنا؟

 

-    قامت دولة من دول منطقتنا برفع (شعار التطوير بدون تغيير) في أوائل التسعينيات: فهل بذل المثقفون لديناً جهداً كافياً لمعرفة أسباب ومنابت ثقافة معاداة التغيير في واقعنا سياسياً وإقتصادياً وإدارياً وإجتماعياً وتثقيفياً وإعلامياً وتعليمياً ؟‍! 

 

 (*) نُشرت بجريدة الأهرام القاهرية يوم الأحد 11 مايو 2003.