إيـــران
.نحـو فـوهة بـركان

.بقلم: طارق حجِّي


بعد ساعاتٍ قليلةٍ من إنتخابِه رئيساً لإيران ، صرح أحمدي نجاد بأن إيران ليست في حاجةٍ ملحةٍ لإقامةِ علاقاتٍ مع الولايات المتحدة. وبدون دفاع عن الولايات المتحدة أو هجوم عليها (فالولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة تحافظ على مصالحها – وكما قال الدكتور أحمد زويل منذ أيام فإنه من غير الذكاء عدم القدرة على إيجاد وسيلة للتعامل معها) فإن تصريح السيد/ نجاد له دلالات كبرى. والحقيقة إنه (لكي يكون بالغ الصدق مع نفسه وواقع إيران الكلي) فإن السيد/ نجاد كان يمكن أن يصيغ كلماته بشكلٍ آخر يجعلها مطابقة لواقع فكره الذي نعرفه جيداً من معرفتنا بمسيرة حياته العامة وتصريحاته وأنشطته منذ سنوات. كان على السيد نجاد أن يقول: أن إيران في حاجةٍ ملحةٍ لعدم إقامة علاقات مع الولايات المتحدة .. وأن إيران في حاجة ملحة لكي تشغل نفسها وشعبها بالولايات المتحدة. لأن البديلَ مروعٌ: البديل هو أن ينشغل الإيرانيون بحالتهم الإقتصادية المزرية والتي وصلت لمرحلةٍ متدهورةٍ في ظل فشل إقتصادي كلي وشيوع معدلاتٍ باطلةٍ تنبئ بأمور مستقبلية غاية في الخطورة.

إن أحمدي نجاد (في ظل تفكيره الذي نعرفه وظروف إنتخابه وتفكير الذين أيدوه من الفقهاء الولاة) ليس أمامه إلاِّ تصريح كهذا .. وإتجاه كلي كهذا .. وإنشغال وإشغال بمثل هذا .. وبالذات بمواصلة البرنامج النووي الإيراني – فالإنشغال بالقضايا الخارجية هي سياسية كل النظم السياسية الفاشلة في دولٍ تأكلها من الداخل مشاكلٌ إقتصاديةٌ ومجتمعيةٌ تحتاج لكل الفكر والعمل والإنشغال. إيران (مع أحمدي نجاد) ستستمر في قضاياها الخارجية التي لاشك أنها ستجلب الخراب لإيران: تصدير بذور الفوضى للعراق .. حض سوريا وبعض القوى في لبنان على مواصلة نهج التحدي غير المجد .. الظهور بمظهر المتصدي الأول للشيطان الأكبر (الولايات المتحدة) .. الدخول في مواجهة وتوترات شديدة مع أوروبا ثم الأمم المتحدة بخصوص البرنامج النووي الذي تزعم إيران أنه من أجل أغراض مدنية أولها توليد الطاقة رغم أن أراضيها تضم نحو 15% من إجمالي احتياطيات كل الدنيا من الغاز الطبيعي – وهو ما ينفي وجود مبرر لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية لاسيما في ظل مستويات تقنية دون المستويات العالمية وهو ما يجعل من وجود محطات طاقة نووية خطراً جسيماً في مجتمعات تفتقر للتقدم العلمي والإداري العصري بشكلٍ كبيرٍ للغاية.

لقد إختارت إيران (أو بالأحرى أرادت طبقة الكهنة المسيطرة على إيران) أن تمضي في النفق المظلم إلى نهاية الرحلة معروفة الماهية والكيفية والدرامية من الآن لكل من كان ذا حظ من الرؤية والقدرة على قراءة المستقبل من خلال معطيات الواقع الآني.

إن ما قد حدث في إيران منذ أيام ، درسٌ هام لكل المؤمنين بكل قيم الحرية والديمقراطية والحداثة. والدرس هو ، أن الذين يحكمون باسم الدين (ونحن في الحقيقة لا نتكلم عن حكم الدين وإنما عن حكم رجال الدين باسم الدين) سوف يتجهون دائماً (في حالة وصولهم للحكم) إلى أكثر الأجنحة تشدداً وتطرفاً.

عندما إنهزم الإتحاد السوفيتي في أفغانستان منذ أقل قليلاً من عشرين سنة ، إتصلت المخابرات السوفيتية KGB بالمخابرات الأمريكية CIA وأبلغتها أن الإتحاد السوفيتي يدرك الآن أنه هُزم في أفغانستان. ولكن الإتحاد السوفيتي نصح الولايات المتحدة أن تترك في أفغانستان حكومة مدنية وحذرها (تفصيلاً) من مغبة ترك الأمور لحكومةٍ من المقاتلين الذين يسمون أنفسهم بالمجاهدين. وفي هذا التقرير شرحٌ مسهب لما سوف يحدث إذا تُركت أفغانستان لهؤلاء المقاتلين وكيف ستنقل عجلة القيادة من المعتدلين إلى المتطرفين ثم إلى الأشد تطرفاً. وقد جاءت الأحداث في أفغانستان مطابقة تماماً للتحذير السوفيتي للأمريكيين حتى وصلت الأمور في أفغانستان لحالةٍ مأساوية من الظلامية والتخلف على يد رجال طالبان (الذين أُعجب كاتب مصري معروف بهم ذات يوم!!!). وأثناء تلك السنوات توالى قتل المتشددين للأطراف الأكثر إعتدالاً من المجاهدين.

وهذا ما حدث في إيران خلال السنوات الأخيرة لفترة رئاسة محمد خاتمي: فقد كشر المتطرفون عن أنيابهم وجعلوا محمد خاتمي (في ظل سلطان مطلق لمرشد بالغ التشدد) عاجزاً عن أي تحرك على درب الحريات السياسية أو على درب الحريات الإقتصادية. وإستمر ضغط المتطرفين والمتشددين والمتزمتين حتى أصبح رافسنجاني يوصف بالمعتدل مقارنةً بنجاد الذي يكره كل مظاهر الحداثة ويحبذ التدخل الإيراني في الدول المحيطة بإيران وينوي المضي قُدماً في المشروع النووي الذي تصرخ من مغبة حدوثه كل الدول المحيطة بإيران وأولها الدول العربية المطلة على الجانب الآخر من الخليج. وسوف يدمرُ نجاد الإقتصاد الإيراني تدميراً كاملاً خلال سنوات قليلة وسيجعل الإستثمارات العالمية في إيران تصل لمستوى الصفر قريباً.

وتلك تداعيات طبيعية لحكم الكهنوت بصرف النظر عن اسم وماهية الدين. فما رأته البشرية من رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى كابوسٌ لا يكاد يعقله عاقل. والإستماع للرؤى السياسية لأي رجل دين يهودي متشدد في إسرائيل تصيب أي عاقل بإحباطٍ مهول ويأسٍ كامل من كلمات أي رجل دين يهودي إذ لا تترك مجالاً للحديث عن سلامٍ أو إستقرارٍ أو أية تسوية عادلة.

والسبب في إستحالة نجاح رجال الدين في تحقيق أي نجاحٍ في الحكم ، هو سببٌ ذو ثلاثة أبعاد: البعد الأول أن رجال الدين بالطبيعة يعتقدون بضراوة في كونهم مُلاك الحقيقة المطلقة. والبعد الثاني أن التقدم يقومُ على أساسٍ من تقنيات الإدارة الحديثة ، وهي أمور لا علاقة لرجال الدين بها. والبعد الثالث أن التقدم في المجتمعات المعاصرة يقتضي توظيف العلم لتحقيق الرقي والتقدم. والحكومات الدينية تقطع التواصل العلمي بين مجتمعاتها وقنوات التكنولوجيا والعلم الحديثة. ومن الآن أسجل نبؤتي أن السيد نجاد سيحطم صناعة البترول في إيران. فقد بدأ عهده بتصريحاتٍ في هذا الشأن تحملُ بذور الفشل القادم وستصبح صناعة البترول الإيرانية خلال أقل من عشر سنوات مثل صناعة البترول العراقية في ظل نظام صدام حسين حيث فسدت الصناعة من كافة جوانبها.

ويبقي إلاَّ أختم هذا المقال القصير دون الإشارة للمصدر الذي إستوحيت أو بالأحرى نقلت منه عنوان هذا المقال ، وهو كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل (إيران فوق بركان) الذي صدر منذ أكثر من نصف قرن عقب ثورة مصدق في مطلع خمسينيات القرن العشرين.